شعار قسم ميدان

لماذا لا تتفق النسبية مع الكم؟

ميدان - النسبية

خلال قرن مضى تمكنت نظريتا النسبية والكم من إبهارنا بعدد غير محدود من النتائج هي الأدق في تاريخ العلم، تُعلمنا النسبية عن الثقوب السوداء، وموجات الجاذبية، وانحناء الزمكان، واختلافات وجهات نظر الراصدين، وتُعلمنا الميكانيكا الكمية عن الجسيمات دون الذرية؛ تركيبها الدقيق، وقوانين عالمها المحكوم بالارتياب، لكن رغم ذلك، لا تتوافق النظريتان معًا بشكل يسمح لنا أن نفهم الطبيعة بنظرية واحدة تضم كلا من الكم والنسبية معا، هناك عدد من أسباب ذلك التناقض، لكن قبل البدء في ذلك دعونا في البداية نتعرف على موقع كل من النسبية والكوانتم في خريطة الفيزياء، وسوف يساعدنا ذلك كثيرا في فهم ما سيلي.
 

خريطة الفيزياء الحديثة

فيزياء الحياة اليومية تحكمها ميكانيكا نيوتن، فأنت تذهب إلى عملك بسيارة تجري بسرعة متوسطة 60 كم/ساعة، وتتزايد تلك السرعة وتتناقص بعجلة غير منتظمة، تضغط مكابح السيارة فتتسبب في احتكاك يدعوها للتوقف، تستخدم مصعد العمل، وتضع هاتفك على الطاولة فلا يطفو؛ لأنه مُنجذب للأرض بقوة تتناسب طرديا مع كتلتيهما، وعكسيا مع مربع المسافة بينه وبين مركز الأرض.. إلخ، كل شيء ينضم لنطاق الحياة العادية التي نعرفها، كل نوع من الحركة أو السكون، يمكن أن نفسره بقوانين نيوتن، لكن هناك 3 حالات قصوى1 في الفيزياء لا نعرفها في حياتنا اليومية:

1-    حالات السرعات العالية جدا: الاقتراب من سرعة الضوء مثلا.

2-    حالات الكتل الكبيرة جدا: النجوم والمجرات.

3-    حالات الجسيمات الدقيقة جدا: الإلكترونات وباقي جسيمات النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات.
 

هنا سوف نحتاج لفيزياء جديدة مختلفة تشرح تلك الظواهر والتي لا تتمكن ميكانيكا نيوتن من تفسيرها بدقة، لذلك:

1-    في حالة السرعات العالية تتدخل النسبية الخاصة لتتحدث عن انكماش طولي، وتمدد زمني، وكتلة تساوي مربع سرعة الضوء.

2-    في حالات الكتل المهولة تتدخل النسبية العامة لشرح انحناء الزمكان، وظهور الثقوب السوداء.

3-    في حالات الجسيمات الصغيرة للغاية تتدخل ميكانيكا الكم لتتحدث عن طبيعة مزدوجة، وعدم تأكد وتشابك كمّي، ومعادلات موجية.

ميددان - علوم (مواقع التواصل الإجتماعي)
ميددان – علوم (مواقع التواصل الإجتماعي)

يمكن في بعض الظواهر أن تتواجد حالتان معا من تلك الحالات القصوى:

1-    فوتونات الضوء مثلا وحركة باقي الجسيمات: حالات الجسيمات دقيقة الحجم + السرعات العالية، وهنا يجب أن ندمج كلا من النسبية الخاصة مع الكوانتم، وهو ما بدأه "ديراك" من خلال تطوير معادلة "شرودنجر" لتشمل النسبية الخاصة، والتي تطورت -فيما بعد- لتصبح ما نعرفه باسم "نظرية المجال الكمّي (QFT)"

2-    حالات الكتل الكبيرة + السرعات العالية، تشرحها النسبية بفرعيها بدون تناقض.

3-    مراكز الثقوب السوداء، مفردة الانفجار العظيم: هي حالات تتحد فيها الكتل العالية جدا + الحجم الدقيق جدا، هنا لا تزال محاولات الجاذبية الكمية للتوفيق بين عالمي النسبية العامة والكوانتم قائمة بالفعل.
 

تبين أن دمج النسبية العامة بالكوانتم هو أمر بالغ الصعوبة، إلى الآن لم نحصل على معادلة ثابتة واحدة يمكن لها أن تتخلص من القيم اللانهائية التي نحصل عليها حينما تصبح المسافة بين جسيمين "صفرا"

جميل جدا، نحن الآن على درجة جيدة من الفهم تسمح لنا بوضع كل من تلك النظريات في مكانه المناسب، لكن يبقى سؤالنا الأساسي مطروحا: لم احتجنا لكل ذلك الجهد العظيم و الوقت الطويل -مثلا- للتوفيق بين الميكانيكا الكمية والنسبية الخاصة؟ لماذا ما زالت الجاذبية الكمية تحاول أن تصل لصورة سليمة يتوافق فيها كل من النسبية العامة مع الكوانتم؟
 

تكميم الكون

تتخذ فكرة التكميم (Quantization) أهمية مركزية في ميكانيكا الكم، لذلك -أساسا- تسمى ميكانيكا "الكم". التكميم هو المسئول عن القواعد الكمّية الرئيسة كالتشابك الكمّي أو مبدأ عدم التأكد مثلا، وينشأ فيزيائيا من تحويلنا لطريقة الميكانيكا الكلاسيكية في التعبير بالأرقام عن قيم كــ"الموضع، الطاقة، السرعة .. إلخ" للتعبير عنها كمؤثرات (Operators) تتخذ حالات كمّية محددة، تلك المؤثرات لها خاصية مهمة تختلف تماما عن خواص العالم الكلاسيكي والذي تعتبر النسبية بشقيها جزءا منه، وهي أنها غير إبدالية2؛ أي أن العملية أxب = بxأ غير صحيحة في نطاق الكوانتم.
 

ينطبق هذا التكميم على كل شيء يقرر أن يمر عبر وجهة نظر الميكانيكا الكمية، حينما نود -مثلا- النظر لمجالات كهرومغناطيسية عبر ميكانيكا الكم فيجب علينا تكميم تلك المجالات، وتظهر المشكلة حينما نريد النظر لظاهرة ما تتداخل فيها الحالات النسبية العامة مع الكمومية؛ فالنسبية تتعامل مع الزمكان كنسيج ناعم، ممتد ومتصل كخط أعداد، دعنا نتأمل تلك النقطة قليلا.
 

undefined

على خط أعداد ممتد بنعومة يمكن لنا ببساطة تحديد موضع نقطة ما، فأنت تعرف أن النقطة 1 تقع بين 2 و3، لكن حسب مبدأ عدم التأكد لا يمكن له أن يسمح بذلك النوع من التحديد. لذلك، في الفراغ الفيزيائي، تتولد جسيمات افتراضية من المادة والمادة المضادة بشكل لحظي ثم تلتقي معا مرة أخرى وتُفني بعضها في زمن قصير للغاية، كلمة "افتراضية" هنا لا تفي المصطلح معناه، هو في النهاية مصطلح غاية في التعقد حتى على المتخصصين في المجال، دعنا نتعامل معها على أنها نوع من الاضطراب. الأمر كأن نقول إن حاصل جمع 1 و-1 هو 0، فراغ.
 

تسمى تلك الظاهرة التموج الكمومي 3 (Quantum fluctuations)، يحدث ذلك بشكل طبيعي في الفراغ وتستمر الجسيمات الافتراضية في التولد والتلاشي، وهكذا. نتيجة لذلك، نقف أمام وجهتي نظر مختلفتين تماما عن الزمكان، فترى النسبية أن الفراغ هو الحيز الذي لا يحتوي على مادة أو طاقة، بينما ترى ميكانيكا الكم أن الفراغ هو بحر هائج من الجسيمات الافتراضية التي تتولد وتفنى في زمن قصير للغاية.
 

تسمح ميكانيكا الكم، فيزيائيا، للعالم أن يجري عبر المعادلات في الاتجاهين، للأمام وللخلف في الزمن، فقط كل ما تحتاجه هو أن تطبق نفس القوانين للأمام كما تطبقها للوراء، يرتبط ذلك بما نسميه مبدأ "الوحدوية"

لقد تمكن "ديراك" بالفعل من دمج النسبية الخاصة بالكوانتم في العشرينيات، وتطورت تلك الفكرة لتصبح نظرية المجال الكمّي، لكن تبين أن دمج النسبية العامة بالكوانتم هو أمر بالغ الصعوبة، إلى الآن لم نحصل على معادلة ثابتة واحدة يمكن لها أن تتخلص من القيم اللانهائية التي نحصل عليها حينما تصبح المسافة بين جسيمين "صفرا"، ظهرت الجاذبية الكمية الحلقية والأوتار كحلول لتلك المشكلات لكنها غير مكتملة بعد.
 

مفارقة المعلومات

إحدى أهم التناقضات الجوهرية بين كل من الكوانتم والنسبية هي مفارقة المعلومات4 التي تظهر بوضوح بداخل الثقوب السوداء؛ حيث تسمح النسبية بفقدان المعلومات بينما لا تسمح ميكانيكا الكم بذلك، بدأ الأمر حينما واجه "ستيفن هوكنج" في منتصف السبعينيات 1974 معضلة مرعبة ظن في البداية أنها خلل حسابي ما في العمل الرياضي الذي يقوم عليه، وهي أن الثقب الأسود قادر على بث جسيمات في صورة إشعاع، والتبخر فيما بعد، ثم اكتشف "هوكينج" أن ذلك لم يكن خطأ رياضيًا، بالفعل تطلق الثقوب السوداء ما نسميه "إشعاع هوكينج".
 

لنفترض أنك تود أن تتخلص نهائيا، لسبب ما، من صورة قديمة، سوف تقوم ربما بتقطيعها وإلقائها في سلة المهملات، رغم ذلك لا يزال بإمكاني -نظريا- أن أعيد تجميعها مرة أخرى، هنا سوف تود ربما حرقها بالنار لتتخلص منها نهائيا، لكن الفيزياء ما زالت تمتلك القدرة -نظريا- على إعادتها مرة أخرى، ببساطة لأن كل ما حدث هو أن الصورة تحولت لشيء آخر ولم تُحذف بعد من الوجود، أما في الثقوب السوداء فالأمر يختلف؛ حيث إن الطاقة الخارجة من الثقب أثناء تبخره لا تعبر عما سقط بداخله، دعنا في تلك النقطة نتجاوز سبب ذلك وعلاقته بجسيمات افتراضية تنشأ عند أفق حدث الثقب الأسود؛ لنتساءل عن أسباب مشكلة ميكانيكا الكم في تلك النقطة.
 

ستيفن هوكينج أبرز علماء الفيزياء النظرية على مستوى العالم (رويترز)
ستيفن هوكينج أبرز علماء الفيزياء النظرية على مستوى العالم (رويترز)

تسمح ميكانيكا الكم، فيزيائيا، للعالم أن يجري عبر المعادلات في الاتجاهين، للأمام وللخلف في الزمن، فقط كل ما تحتاجه هو أن تطبق نفس القوانين للأمام كما تطبقها للوراء، يرتبط ذلك بما نسميه مبدأ الوحدوية (Unitarity) والذي يتطلب الحفاظ على تلك الحالة من انعكاس الزمن (Time-reversal) الممكن بشكل دائم، لكن هذا يتطلب منك أن تحافظ على وجود كل معلومة ممكنة في الكون، لأن فقدها يكسر تلك العملية تماما، وهو ما يحدث في الثقوب السوداء.
 

لا تزال تلك المفارقة، إلى هذا اليوم، هي مركز دراسة الكونيات والثقوب السوداء، ورغم ظهور العديد من الحلول لتلك المشكلة -بداية من نظرية الكون الهولوجرامي حتى ورقة هوكينج الأخيرة5 في يناير 2016 والتي تقول إن المعلومات تتتحرك داخل وخارج الثقب الأسود عبر تخزينها على "جسيمات ليّنة" (Soft particles) وهي نسخة منخفضة الطاقة من الفوتونات- تبقى غير محلولة.
 

في النهاية، يبدو أن العلم يشبه ذلك الأفق البعيد للسماء حينما تنطبق على الأرض، فقط حينما تصل إلى هناك سوف تجد أن الأفق يبتعد لمسافة أكبر، ثم أكبر، ثم أكبر. حينما نتمكن من حل مشكلة ما، كأن نتوصل إلى نظريتي النسبية والكم لكي نستطيع تحقيق وصف أفضل للكون على المستويات الكبيرة جدا والصغيرة جدا، تظهر تلك التناقضات لتفتح بابا لمشكلات جديدة تحتاج لحلول جديدة، ورغم أن الإجابات الجديدة تعطينا فرصة مختلفة للتعرف على الكون بشكل أعمق؛ لكن ذلك يطرح في المقابل تناقضات جديدة تحتاج أن نتأملها ونبذل في سبيلها بعض الوقت والجهد. العلم إذن -ربما- هو حالة بحث مستمر يعلمنا في كل مرة أن ما نعرفه بشكل أفضل إلى الآن.. هو مدى جهلنا. 

المصدر : الجزيرة