حينما أخطأ أينشتاين.. مبرهنة بيل
قبل البدء3 دعنا نلخص مشكلة الـ EPR مع عالم الكم:
1- لا يمكن لعلاقة ما أن تتم بسرعة أكبر من سرعة الضوء، تسمى العلاقات ضمن سرعة الضوء علاقات محلية (Local) وخارجها "غير محلية (Nonlocal)"، التشابك الكمّي يتعارض مع ذلك.
2- لكي تكون النظرية العلمية صحيحة ينبغي أن يتناظر عنصر من النظرية مع عنصر من الواقع المنفصل بذاته عن وجودنا، ميكانيكا الكم تتعارض مع ذلك؛ لأن واقعية جسيم ما يمكن أن تتحدد بقياس جسيم آخر وليس بشكل مستقل عن قياساتنا، يمكن إجمال ذلك في مفهوم"الواقعية المحلية (Local Realism)"
3- لقد أثارت الـ EPR وجود تناقض في عالم الكم، فإما وجود متغيرات خفية أو تناقض مبدأ عدم التأكد.
4- إذن يمكن اعتبار الكم نظرية غير مكتملة؛ أي أنه لا يزال هناك بعض "المتغيرات الخفية" التي لا نعرفها بعد، تلك المتغيرات تمنعنا من تحقيق فهم كامل لنتائج النظرية في إطار من الواقعية المحلية.
ربما كان من حظنا الجيد أن جون ستيوارت بيل، المولود في بلفاست بأيرلندا الشمالية عام 1928 ونال درجتين، واحدة في الفيزياء التجريبية وأخرى في الفيزياء النظرية؛ لذلك توزعت أعمال جون بين دراسة معجلات الجسيمات من ناحية، وفيزياء الجسيمات بجانب دراسة المفاهيم الأساسية للميكانيكا الكمية، -كانت الأخيرة هي ما يسميه "هوايته المحببة" خارج إطار العمل- من ناحية أخرى. كان ذلك ربما هو السبب الذي دفع بيل لابتكار مبرهنته الشهيرة والتي تمثل فرضا نظريا يمكن من خلاله صنع اختبار تجريبي حاسم؛ لما ظل في إطار الغموض على مدى ثلاثين عاما قبل جون.
حينما بدأ جون في قراءة ورقة الـ EPR كان ذلك الجدل حول صحة الكم من عدمها قد خفت كثيرا، ورجحت كفة النظرية الكمية؛ لما تحققه من نتائج تجريبية مذهلة يوما بعد يوم، لكن بيل كان يرى ما هو أعمق من ذلك. دعنا قبل الدخول لتلك النقطة نحاول فهم ما تقوله مبرهنة بيل (Bell’s theorem) ، أو "متباينة بيل (Bell’s inequality)":
عبد الرحمن ورهف (طفلاي) يدّعي كل منهما أن بينهما علاقة تخاطر؛ أي أن عبد الرحمن يمكن له أن يفكر في شيء ما وتفكر رهف في نفس الشيء في نفس الوقت؛ رغم وجود مسافة بينهما، هنا قررت أن أختبر ذلك؛ لكي أثبت أنه مجرد هراء وأنه لا وجود لمثل ذلك النوع من التخاطر، سوف نذهب إلى أحد المولات الشهيرة ونقف في الشارع القصير الفاصل بين محليّ لعب أطفال، يدخل عبد الرحمن لمحل الألعاب على اليمين، وتدخل رهف لآخر على اليسار، يعطيهما البائع في كل من المحلين سيّارة فقط، لكن يجب أن يختار لونها، أحمر أو أخضر، وللعبة قاعدة بسيطة:
"يجب أن يخرج كل من عبد الرحمن ورهف من المحل بسيارة مختلفة اللون عن الآخر؛ حتى يثبتا أن بينهما نوعا من التخاطر."
سوف نعيد اللعبة 100 مرة، ونسجل نتائج كل مرة منها، ثم نقارن النتائج في نهاية اليوم، هنا -للأسف- خرج عبد الرحمن ورهف في كل مرة بلون مختلف، وكانت الألوان مختلفة في كل المرات، لكن قبل الاحتفال بصدق فكرتهما وإعلان انتصارهما فكرت قليلا وقلت فجأة: "لا، انتظرا، هناك مشكلة، ربما هناك شيء لا أعرفه".
ربما هناك -بالفعل- متغيرات خفية في تلك القصة لا أفهمها بعد. نعم، وجدتها، قد يكون كل من رهف وعبد الرحمن، أثناء وجودهما في المنزل، على اتفاق مسبق، كأن يقوما مثلا بوضع ترتيب محدد لعدد المحاولات في ورقة ما يحملها كل منهما في جيبه قبل الدخول للمحل، ثم حينما يحين موعد الاختيار بين الأحمر والأخضر يُخرج كل منهما ورقته ليختار حسب اتفاقهما؛ بحيث يخرج كل منهما بلون مختلف فأقتنع في النهاية.
هنا سوف ألجأ لصديق، يدعى جون ستيورات بيل وهو فيزيائي موهوب أحمر الشعر هادئ الطبع، سأطلب منه النصيحة فيقول لي: "يا ذكي، كرر نفس التجربة لكن مع محلّين لا يقدمان سيارات فقط، بل يقدمان سيارات أو طائرات أو سفن بشكل عشوائي؛ أي أنهما سوف يقدمان نفس اللعبة في ثلث المرات فقط، ثم ضع للعبة قاعدتين وليس قاعدة واحدة:
1- على كل من عبد الرحمن ورهف أن يخرج بلعبة ذات لون مختلف عن الآخر، إلا في حالة واحدة.
2- حينما يقدم البائع لكل منهما نفس اللعبة، يجب أن يختارا نفس اللون.
في هذه المرة يزداد تعقيد اللعبة، فإذا قام كل من عبد الرحمن ورهف بترتيب مسبق له علاقة باللون، لن ينجحا في وضع ترتيب مسبق له علاقة بالبائع؛ لأنه يقدم الألعاب بطريقة عشوائية، فقد يقدم نفس اللعبة أو يقدم لعبة مختلفة، هنا -لو كانا يخدعاني- فهناك فقط حلان لتلك المشكلة:
1- يتفقا على اختيار نفس اللون؛ لكن ذلك للأسف يعني أن نخسر ثلثي الاحتمالات.
2- اختيار لون مختلف، وذلك يعني خسارة ثلث المحاولات فقط، لكنه أفضل احتمال ممكن.
لذلك حينما نمارس لعبتنا، ونكرر الاحتمالات 100 مرة ثم نحسب النتائج فهناك فقط إمكانية من اثنتين:
1- إذا أخفق كل من عبد الرحمن ورهف في33.3% أو أكثر من المحاولات؛ فإنهما مخادعان، لا يوجد تخاطر، هناك فقط اتفاق مسبق يتسق تماما مع الاحتمالات الممكنة.
2- إذا أخفق عبد الرحمن ورهف في أقل من 33.3% من المحاولات؛ أي أن يفشلا في تحقيق قوعد اللعبة في 15 مرة من الـ 100 مثلا وليس 33، فلا يوجد أية متغيرات خفية، حتما هناك تخاطر بينهما؛ لأنهما تمكنا من كسر أقصى احتمال ممكن في اللعبة.
على مدى السنوات التالية للمبرهنة، بداية من تجربة فريدمان وكلاوزر5 1972، تم اختبار فرضية المتغيرات الخفية، وفي كل مرة كانت النتائج تميل ناحية تأكيد أنه لا يوجد متغيرات خفية، حتى حينما شكك بعض الباحثين في مبرهنة بيل ذاتها وافترضوا وجود نوع ما من التواصل بين الجسيمات عبر خداع الجسيمات للقياس تحت اسم Loopholes ظهرت في 2015 تجارب هينسن، جويستنا، شالم، الثلاثة التي تجاوزت تلك المشكلة ونفت تماما إمكانية وجود متغيرات خفية. إذن توقعات أي نظرية متغيرات خفية ممكنة لا تتسق مع توقعات ميكانيكا الكم، لقد أخطأ أينشتين، لكن هناك نقطة باقية يجب علينا أن نفهمها.
ما أخطأ فيه أينشتين لم يكن هو رأيه في "كون ميكانيكا الكم على صواب من عدمه"، في الحقيقة نحن لا نعرف إن كانت ميكانيكا الكم على صواب أو على خطأ، يحدث لبس دائم في فهم تلك النقطة؛ فينطلق البعض صارخا أن مبرهنة بيل تقول إن الكم هي نظرية صحيحة، لكنها لا تقول ذلك، ما أخطأ فيه ألبرت أينشتين هو تصور أنه يمكن جمع نظرية الكم بالواقعية المحلية في بوتقة واحدة، لا يمكن تفسير عالم الكوانتم بلغة كلاسيكية، ليست المشكلة مشكلة تقنيات؛ بل هي مشكلة مفاهيمية، يقول جون6 ستيوارت بيل:
"إذن، فإنه بالنسبة لي، هذه هي المشكلة الحقيقية مع نظرية الكم: التعارض الواضح بين معادلاتها الصارمة والنسبية الأصلية، ربما لا يتطلب إجراء تركيب حقيقي بين النظريتين مجرد تطورات تقنية، بل تجديد جذري في المفاهيم".
تلك هي عبقرية جون ستيوارت بيل إذن، فلقد تمكن من رسم الحد الفاصل بين النظرية الكمية والنظريات الكلاسيكية، فتح ذلك الباب أمام الفيزيائيين النظريين فيما بعد لتطوير النظرية الكمية بصورة أوضح بعد استشفاف تلك النقطة الفاصلة، والنظر لاصطلاحات كعدم المحلية والتشابك الكمّي بصورة مختلفة ومحاولة استحداث مفاهيم جديدة لتحقيق فهم أفضل لها. لا تزال ميكانيكا الكم قادرة على إبهارنا يوما بعد يوم، لا زالت قادرة على دعوتنا للتشكك فيما قد نظن أنه مفهومنا عن الواقع، وذلك هو سر روعتها، فاينمن:
"يُمكنني القول بشكلٍ آمن جداً أن لا أحد فهم ميكانيكا الكم."