شعار قسم ميدان

بيولوجيا سوداء.. ما الذي يجعلنا بشرا؟

midan - children

لقد بدأت رحلتي القصيرة في البحث وراء إجابة عن السؤال أعلاه وكلّي أمل -كأي كاتب في العلوم- أن أخرج بمقال جيد؛ تظهر فيه وجهة نظري بشكل لطيف، في مقابل ما نعتبره حقائق علمية أو ما نعتبره فرضيات لا تزال في حاجة إلى تمحيص؛ لكن الأمر هذه المرة مختلف، لأنه -أيضا- محاولة شخصية للتعلم عما يعنيه كوني إنسانا، لا أخفيكم سرا أنه من الممل جدا أن نعيش وحيدين كبشر، لم نستطع -بعدُ- خلق أي جسر لتواصل ممكن مع حضارات /كيانات عاقلة، وفي نفس الوقت نقف هنا على حافة الوعي واللغة وحيدين بين 8.7 مليون نوع حيّ1
 

هنا، يدعوك ذلك للتساؤل ليس فقط عن جدوى وجودنا؛ وإنما أيضا عن كيفيته، لتفهم ما أقصده دعنا نبدأ بألعابنا الفكرية، لنفترض أن سيارة مسرعة صدمت رجلا في الثلاثين من عمره كان يعبر الطريق، و لنفترض أن نفس السيارة صدمت كرسيًا خشبيًا، من منهما سوف يشعر بالألم؟
 

يرى رينيه ديكارت -الفيلسوف الفرنسي- أن البشر فقط يمتلكون العقل (ويحمل اصطلاح
يرى رينيه ديكارت -الفيلسوف الفرنسي- أن البشر فقط يمتلكون العقل (ويحمل اصطلاح "الروح" نفس المعنى لديه)، الشيء الوحيد القادر على الشعور
 

"هل أنت مجنون؟"، ربما سوف تكون تلك هي إجابتك عليّ قبل أن تتركني لتخاريفي، فالرجل بالفعل هو من سوف يشعر بالألم؛ أما الكرسي فلن يشعر بشيء، لكن الغريب هنا هو أن كلا من الرجل والكرسي يتكونان من ذرات، نفس الذرات، نفس المادة، هنا يرى رينيه ديكارت -الفيلسوف الفرنسي- أن البشر فقط يمتلكون العقل (ويحمل اصطلاح "الروح" نفس المعنى لديه)، الشيء الوحيد القادر على الشعور، لقد صُدم جسدك وتألم عقلك، لكن، ماذا عن كلب كان يمر من الطريق؟
 

تلك فعلا مشكلة، لو أن الكلب كان يشعر بالألم؛ فهو الآخر يمتلك "عقلا" كعقلنا وبالتالي فإن نفس الثنائية الديكارتية (عقل وجسد) تنطبق عليه؛ مما يجعله "في مقامنا" وهو ما حير الديكارتيين، هذه الكائنات إذن تمتلك -بدرجة ما- ما نمتلكه؛ لكن ما الذي يجعلنا بشرا إذن؟
 

درجات من التشابه
دعنا نترك التفلسف جانبا ونبدأ برحلة في البيولوجيا، إذا كان من الممكن أن نجد نقاط اختلاف بين الكائنات الحية الأخرى والبشر فسوف تكون عبر تقصي درجات التشابه أولا، ثم تحييدها جانبا، وما يتبقى ربما قد يكون هو وجه الاختلاف، للوهلة الأولى، وعلى مدى زمني واسع، تصورنا أن هناك الكثير من الاختلاف الظاهر بين البشر والكائنات الأخرى لكن -صدق أو لا تصدق- مع البيولوجيا الحديثة أصبحنا غير قادرين على تحديد مواضع دقيقة لأقدامنا في هذا العالم بسهولة.
 undefined

في مقال سابق2 تحدثنا عن درجة التشابه الكبيرة والتي تدعونا للتعجب بين الكائنات الحية، خذ مثلا ذبابة الفاكهة؛ فهي تحتوي على ما يقرب من 20 ألف جين في مقابل 30 ألفا عند البشر، لها نفس النواقل العصبية، والقنوات الأيونية، ولم يطور البشر أي عمليات أو خلايا عصبية من نوعيات مختلفة، لذلك -رغم الاختلاف في الدرجة- قد تُطور الحيوانات مشكلات يومية كالتي نطورها.

قد تطور مشاعر كمشاعرنا، قد تكتئب3 مثلا، وربما تحاول أن تنتحر، تنعزل عن القطعان وترفض الخروج للجمهور في حدائق الحيوان، تخبو أصواتها، وتبدو على عينيها ملامح الانكسار، تفقد الشهية للطعام، وتضطرب علاقاتها بالآخرين؛ بشرا كانوا أو رفاقا في القطيع؛ بل ربما تستمر في ضرب رأسها بالسياج حتى تموت، لكن الأغرب هو أنها تطور نوعا من الثقافة المتعلقة بالموت، فالقردة العليا مثلا والفيلة والدلافين تطور ما هو أعقد ثقافيا من ذلك، وهو الشعائر الجنائزية4؛ حيث تظل بعض أفراد القطيع لمدة محددة مع رفيقها الميت؛ ثم ربما يضعون على جسده بعض أوراق الشجر.!
 

على مدى آلاف السنين قام البشر بالحروب؛ القتل المنظم، والإبادة الجماعية لأفراد من نفس النوع؛ لكن من مجموعات سياسية أو دينية مختلفة. كان هناك اعتقاد في الأوساط العلمية أن تلك صفة يتفرد بها البشر؛ لكن القردة العليا أكدت خطأ تلك الفكرة؛ حيث يمكن لمجموعة من القرود5 أن تنظم عملية قتل جماعي كامل ضد مجموعة أخرى بغرض حماية المنطقة الخاصة بها.

لا يهم عدد الأطفال والإناث بالقطيع الآخر، الجميع سوف يموت. القردة كائنات اجتماعية ترتبط ببعضها البعض ضمن نفس المجموعة، وتقوم بحماية حدود منطقة نفوذها عبر دوريات مراقبة منتظمة لمجموعة من الأقارب التي تبدأ فورا في قتل كل متعدٍّ؛ دون الحاجه لمساءلته عن أسباب الزيارة السعيدة؛ بل إن بعض المجموعات -كالذئاب والضباع والنمل- تطور تحالفات تمارس العنف داخل نفس القطيع، يمكن لتلك المجموعات أن تتحارب مع بعضها البعض، نحن هنا أمام حرب أهلية ربما.
 

السن بالسن
العين بالعين، والمكافأة بالمكافأة، تلك ربما هي واحدة من أشهر قواعدنا كبشر، سوف أقدم لك خدمة وتقدم لي خدمة في المقابل، سوف أعتني بطفلك حينما تكون في العمل وتعتني بطفلي في المقابل، يمكن القول إن عملية الإيثار المتبادل (Reciprocal altruism) هي شكل معقد من العمليات الاجتماعية رغم البساطة التي تبدو عليها، فالبيولوجيا التطورية تعلمنا أن كل كائن يسعى نحو رفع درجة تكيفه مع البيئة.

لكن ما يحدث هنا هو أنك تقوم بخفضها لمدة محددة في انتظار مقابل من الطرف الذي تقوم بتقديم تلك الخدمة له، الأمر ينطلق من هنا ليتحكم في سلوك المجتمع البشري ككل وحركة السياسة والاقتصاد مثلا مع الزمن، يقوم فرع كامل من الرياضيات المرتبطة بكثير من العلوم بدراسة تلك الأنماط وهو نظرية اللعبة (Game theory) التي تدرس خياراتنا -ربما- العقلانية في ألعاب صفرية النتائج. لكن، في كل الأحوال، ما نعرفه هو أننا لسنا الكائن الوحيد الذي يلعب تلك اللعبة.
 

يمكن لأطفال الخفافيش أن تموت إذا امتنع عنها الغذاء لمدة 70 ساعة وغذاؤها الوحيد هو الدم (مواقع التواصل)
يمكن لأطفال الخفافيش أن تموت إذا امتنع عنها الغذاء لمدة 70 ساعة وغذاؤها الوحيد هو الدم (مواقع التواصل)

لنأخذ الخفافيش6 على سبيل المثال، يمكن لأطفالها أن تموت إذا امتنع عنها الغذاء لمدة 70 ساعة، وغذاؤها الوحيد هو الدم، تقوم الأمهات بجمع الدم في حوصلة بالحلق ثم تذهب إلى العش لإطعام الأطفال، هنا لا تطعم الأم أطفالها فقط؛ ولكن أطفال الأمهات الأخرى، الكل يطعم الكل، دعنا الآن نقوم بتجربة بسيطة، سوف نحضر أحد الأمهات ونحقن حوصلتها بالهواء بدلا من الدم ثم نعيدها للمجموعة، هنا سوف تلاحظ الأمهات الأخريات أن حوصلة تلك الأم منتفخة، أي أن بها دماء، ولكنها "لا تطعم أطفالنا، خائنة"، تكون النتيجة هي امتناع باقي أمهات المجموعة عن إطعام أطفال تلك الأم تحديدا، تلعب الكائنات الأخرى نفس اللعبة.
 

أين السر؟
تتشارك جماعات الشمبانزي معنا في صفة أخرى كنا نعتبرها خاصة بالبشر، وهي التعاطف
تتشارك جماعات الشمبانزي معنا في صفة أخرى كنا نعتبرها خاصة بالبشر، وهي التعاطف
 


تتشارك جماعات الشمبانزي معنا في صفة أخرى كنا نعتبرها خاصة بالبشر، وهي التعاطف
7، حينما -مثلا- تحدث معركة بين أحد أفراد الجماعة مع آخر تلتف مجموعة من الأفراد حول المهزوم لإظهار التعاطف معه؛ بل إنه من الملاحظ أن الأفراد المتعاطفين يتجمعون بشكل أكبر حينما يكون المهزوم بريئا، أقصد حينما لا يطلب هو المعركة مع آخر قوي؛ ولكن هذا "القوي" أراد ربما الاستظهار أو سرقة شيء منه، هنا يمكن لنا استيضاح درجة عميقة من التعقد في مفهوم تلك الحيوانات عن التعاطف، دراسات حديثة تؤكد أن التثاؤب عند القردة ليس فقط مدعاة للنوم؛ لكنه طريقة تواصل، هم أيضا يمتلكون "عدوى التثاؤب"، في تلك النقطة نقف بحسرة لنسأل: يا إلهي، ما الذي تبقى لنا هنا؟ دونالد ترامب؟!
 

يمكن لنا، حتى آخر اليوم، سرد الكثير من درجات التشابه بين البشر وباقي الكائنات عموما، ومع القردة العليا خصوصا، فهي مثلا تعي أنها تمتلك ذاتا وكيانا مختلفا عن القردة الأخرى، وهي كذلك تمارس نوعا ما من الثقافة عبر تمرير بعض العادات لأطفالها كتعليم الأم لأطفالها كيفية صنع الأدوات. في الحقيقة، كلما ظهرت صفة ما (عادة ما) نعتقد أنها بشرية، تظهر في المقابل درجة منها تقول إنها صفة عامة لكائنات كثيرة، وقدر ما يعطيه ذلك من تأكيد على أن المحتوى البيولوجي لهذا الكوكب مرتبط -ليس بيولوجيا فقط و إنما- سلوكيا أيضا؛ لكنه يضع أمام الباحثين مشكلات ضخمة ذات علاقة بالتفريق بين ما هو بشري وما هو غير بشري.
 

ما الذي يجعلنا بشرا إذن؟ إذا كانت درجات التشابه بيننا وبين الكائنات الحية تمتد لمدى واسع من السلوكيات، ربما يجب أن نغير استراتيجيتنا في البحث هنا، دعنا لا نبحث عن أماكن التشابه والاختلاف؛ لكن لنبحث وراء ما يمكن فهمه من اختلافات بيننا وبين باقي الكائنات بداخل نفس الممارسة، كأن نقارن بين ما يمثله التعاطف للإنسان والشمبانزي، أو بين درجات ممارسة العنف بينهما، أو مدى استخدام كل منا لفكرة الثقافة، هنا قد يفتح ذلك لنا بابا جديدا لفهم طبيعة اختلافنا عن باقي العالم!

المصدر : الجزيرة