شعار قسم ميدان

علم النفس التطوري.. لماذا نحب وكيف؟

midan - aa

هل تطورنا لنحب الشيكولاتة؟ ولماذا نحب أبناءنا ونعمل على تربيتهم بذلك الحرص؟ ولماذا نتعاون؟ ولماذا نحب الجنس والدهون والسكريات ومشاهدة الأفلام؟ ولم نخاف من الثعابين؟، يمكن القول إن هناك علما ناشئا لا يزال يكافح ليتخذ مكانا صلبا في أروقة أقسام علم النفس والبيولوجيا في أعرق جامعات العالم، يحاول تفسير تلك الظواهر والإجابة عن أشياء يعتبرها أي شخص بديهيات لا حاجة لنا في التحقق من أسباب تواجدها.
 

لنبدأ بفهم ما تعنيه جملة "تطورنا لنحب" في السؤال الأول كلمة "نحب" تعني "شعورا ما" له علاقة بسلوك، فأنا أحبك ولذلك سوف أود التواجد معك، وهو أمر يمكن لنا فهمه عبر علم النفس، أما كلمة "تطورنا"، فهي تعني بيولوجيا تطورية لها علاقة بانتخاب طبيعي لصفات محددة كي تبقى؛ في حين تندثر صفات أخرى لا تساعد الكائن على تحسين تكيّفاته مع البيئة، وهنا يظهر السؤال الأهم ما الذي يمكن أن يجمع بين علم النفس والبيولوجيا التطورية؟

 

علم النفس التطوري

undefined

 

يجمع علم النفس التطوري بين علمين طالما كان كل منهما بعيدا عن الآخر، علم النفس المعرفي (Cognitive Psychology) والانتخاب الطبيعي (Natural Selection)، أحد القواعد الرئيسة للبيولوجيا التطورية؛ لكن قبل البدء في شرح كيفية تداخل هذين النطاقين معا دعنا نبدأ بتوضيح بعض الأمور.
 

يرى علم النفس المعرفي أن الأفعال تنتج عن عمليات عقلية -كقاعدة أولى- و أن العقل هو جهاز كومبيوتر -كقاعدة ثانية-، ولفهم القاعدة الأولى دعنا نضرب مثالا شهيرا، حينما ترى صديقا لك يسحب المظلّة وهو خارج فأنت هنا يمكن أن تفسر فعلته بعملية عقلية تقول إنه يعرف أن الجو ممطر بالخارج، ويود أن لا يصاب بالبلل، لذلك سوف يتصرف كالآتي سوف يأخذ المظلة، إذن يمكن لنا رد أسباب أفعالنا لعملية عقلية لنبدأ بفهم القاعدة الثانية.
 

ينظر علم النفس المعرفي للعقل1 على أنه كومبيوتر يعالج البيانات، لكن هنا يجب توضيح أن المقصد هو "البرامج" وليس "المكونات الصلبة"، بمعنى أن العقل هو البرمجيات التي تعالج البيانات أما المخ فهو المكونات الصلبة (hardware)، في البداية تصور باحثو علم النفس أن العقل مكون من برنامج واحد ذي غرض عام يمكن تطبيق تعاليمه على كل شيء، لكن المشكلة هي أن البشر قادرون على فعل الكثير من الوظائف التي لا يمكن لأي برنامج القيام بها معا، هذا التعقد الشديد للحالة البشرية دفع بنا إلى محاولة استكشاف طرق أخرى لتصور شكل العقل.
 

undefined

خذ اللغة مثلا لقد طور نعوم تشومسكي نموذجا يقول إن "هناك -في عقل كل منّا- جهاز لاكتساب اللغة، يساعد كل الأطفال على انتقاء القواعد والمفردات السليمة من ذويهم أثناء النمو"، تطور الأمر فيما بعد ليتضح أن تعقيد العقل الشديد لا يمكن وصفه إلا باعتبار أن العقل مكون من وحدات، برامج ذات أغراض خاصة (Modularities)، فهناك وحدة للغة ووحدة للشم ووحدة للمس.. إلخ، دون أي حاجة لمعالجة مركزية، فقط -كما أن هناك قلب ورئتان وكلى- هناك وحدات يقوم كل منها بأداء وظيفة محددة والتنسيق مع الرفاق.
 

في تلك النقطة تحديدا سوف نحتاج لتعلم بعض البيولوجيا التطورية؛ حيث تتسق فكرة البرامج المنفصلة مع طريقة الانتخاب الطبيعي في أداء المهام، فهو آلية قادرة دائما على صنع أنظمة محددة لخدمة وظائف محددة؛ لأن ذلك أفضل وأسرع من محاولة بناء آلية ذات غرض عام، كذلك نعرف أن التطور هو عملية غير ذات رؤية مستقبلية، فالبيولوجيا التطورية تعرض ما نسميه التيليونومي (Teleonomy) المصطلح الذي صاغه "كولين بيتندريش" سنة 1958، وأنه رغم ظهور البُنى الحية كأنما تم تصميمها بغاية بيولوجية مسبقة، إلا أن الصلاحية التطورية هي ما تُبقي على صفة ما وتمررها، على الرغم من عدم وجود خطة /غاية /هدف مسبق لصفة ما، إلا أنها قامت بخدمة وظيفة محددة.
 

الدماغ هو كومبيوتر تم تصميمه عبر الانتخاب الطبيعي، هذا الكومبيوتر يساعدنا في استخلاص المعارف من الطبيعة، بنفس الطريقة العادية مدخلات ثم معالجة ثم مخرجات

ما الذي يجمع النطاقين إذن؟

نعرف من البيولوجيا التطورية أن الكائنات طوّرت البيولوجيا الخاصة بها عن طريق الانتخاب الطبيعي، لقد حافظ الكائن على تلك الصفات التي تعطيه فرصة أفضل للتكيف وتمرير جيناته عبر تزاوج أكثر أمانًا، وأهمل تلك التي لا تفيده في الوضع الحالي، الصلاحية التطورية كما قلنا هي ما يُبقي على صفة ما ويمررها.
 

وهنا ننتقل للجزء الثاني من الأحجية والذي يفترض أن عقولنا هي ابنة بيولوجيا المخ هي الأخرى نتيجة لعمليات بيولوجية، وبالتالي ستكون تلك العمليات -نفسها أيضا- ذات علاقة بالتطور، تطور سلوكنا إذن ربما لا يختلف كثيرا عن تطور العين والرئة وأدوات التخفّي في الحيوانات ليخدم غرضا تطوريا ما، دعنا الآن نلتفت2 لعدة ملاحظات هامة.

لا يعني علم النفس التطوري هنا أننا نتجول في أرجاء مدينتنا وفي عقولنا فكرة واحدة تقول "أريد أن أمرر جيناتي"، نحن لا نحب الجنس -مثلا- لأننا نريد أن نمرر 50% من محتوى جيناتنا لنسلنا، ولا نحب الطعام لأن ذلك يعطينا الطاقة للتكيف وتحقيق درجة أفضل من النجاح التزاوجي، ولا نخاف على أطفالنا لأنهم يحافظون على استمرار جيناتنا، فنحن نحب الجنس والطعام ونخاف على أطفالنا فقط لأننا نريد ذلك، بُنيت فينا تلك الوحدات بهذا الشكل، نحن هنا أمام مستويين من التفسير لنفس الشيء يجب الفصل بينهما، يمكن فهم ذلك في إطار التقسيم الشهير لفرعين من البيولوجيا لهما علاقة بالبحث عن أسباب الظواهر البيولوجية3:

undefined


لأول يحيل المشكلة إلى العلل القريبة المباشرة (Proximate Causation)، وهنا ظهرت الوظيفة الميكانيكية للبيولوجيا والتي تود أن تختبر صفات ومعايير ما هو قائم أمامها من ظواهر بغض النظر عن تاريخها، أما الثاني فله علاقة بصفات تهتم بالجذور، بالعلل القصوى النهائية (Ultimate Causation)، وهنا تتدخل البيولوجيا التطورية لتفسر الظاهرة محل اهتمامنا بأدوات تطورية لها علاقة بتاريخ الكائن، ولا حاجة هنا للتفسير باستخدام العمليات الوظيفية المحضة، من هنا انطلقت البيولوجيا بفرعين أساسيين في البحث.

على عكس الكائنات الأخرى التي ربما تحتاج لتفسيرات تطورية فقط، فالبشر يمتلكون الثقافة، وهو ما يعطي لعلم النفس التطوري فرصة لوضع رأي في العديد من الظواهر

  – يجب أن نفصل بين ما ظهر بسبب التكيف التطوري، وما ظهر كحادثة أو أعراض جانبية لعملية التكيف، دعنا مثلا نسأل لم يحب البشر مشاهدة الأفلام الإباحية؟ هل لأن أسلافهم من البشر الذين شاهدوا أفلاما إباحية تكاثروا بشكل أفضل ممن لم يفعلوا؟! بالطبع لا، ذلك فقط هو أثر جانبي، أو قل "نهاية مسدودة" ظهرت كنتيجة للغرض التطوري الرئيس؛ ألا وهو التزاوج من أجل الحصول على نسل.


قارن ذلك بخوفنا من الحيوانات المفترسة كالأسود مثلا، بالفعل يمكن فهمه في إطار أن أسلافنا الذين تحاشوا المفترسات استطاعوا تمرير جيناتهم بشكل أفضل ممن لم يخافوا من الأسد فأصبحوا غذاء له، هنا يلعب علم النفس التطوري -خلال جدل طويل ممتد- دورا في محاولة الفصل بين تلك الأنواع من السلوكيات.

قد يبدو الأمر واضحا في بعض الأحجيات؛ لكن حينما نتحدث عن الموسيقى مثلا، العنف الجنسي، تنوع اللغات.. إلخ، يحتاج الأمر للكثير من البحث، أضف لذلك أن الأمر يتعلق دائما بالفترة التي تواجدت فيها الظاهرة محل البحث، بمعنى أننا لم نتطور لنحب الشطرنج أو أفلام السينما مثلا، فتلك أمور حديثة بالنسبة لتاريخنا التطوري، نعرف مثلا أن ظهور غثيان الحمل في النساء كان ربما لغرض تطوري، لحماية الجنين من أكل الأم لطعام قد يتسبب له في مشكلات، بينما يضر الكحول الجنين بقوة وفي نفس الوقت لا يصيب الحوامل بالغثيان، ذلك لأن الكحول ظاهرة حديثة.

وهنا يمكن لنا فهم جوهر الدور الذي يلعبه علم النفس التطوري، والذي يمكن من خلاله تقديم إفادات هامة تفسر الكثير من الظواهر التي لا تفسرها البيولوجيا أو علم النفس بشكل منفصل، فكما تجيب الفيزياء أسئلة عن أشياء بديهية قد لا يسألها مواطن عادي كـ: لماذا تسقط الأشياء على الأرض ولا تطير في الفضاء؟.
 

يمكن كذلك أن يساعد علم النفس التطوري في الإجابة عن أشياء تبدو بديهية كـ "لماذا تفضل النساء الرجال الأكثر استقرارا للزواج؟" أو "لماذا نفضل الدهون والسكريات؟" أو "لماذا نحمي أطفالنا".. إلخ. يمتد ذلك ليشرح مجالا واسعا من السلوكيات البشرية، وذلك على عكس الكائنات الأخرى التي ربما تحتاج لتفسيرات تطورية فقط، فالبشر يمتلكون الثقافة، وهو ما يعطي لعلم النفس التطوري فرصة لوضع رأي في العديد من الظواهر.

undefined

لنترك الآن الاستعارات التوضيحية جانبا ونحاول في نهاية دليلنا المبسط أن نحدد ما يقصده علم النفس التطوري بدقة، هنا سوف نحتاج لمساعدة كل من "ليدا كوسميدز" 4 وزوجها "جون توبي" متخصصي البيولوجيا التطورية، ومؤلفي الكتاب الشهير، والذي يمثل علامة مركزية في تطور علم النفس التطوري، "العقل المتكيف: علم النفس التطوري وخلق الثقافة":
 

1-  الدماغ هو كومبيوتر تم تصميمه عبر الانتخاب الطبيعي، هذا الكومبيوتر يساعدنا في استخلاص المعارف من الطبيعة، بنفس الطريقة العادية: مدخلات ثم معالجة ثم مخرجات.
 

لا يتكون العقل من برنامج واحد ذي غرض عام؛ لكنه يتكون من وحدات، برامج إدراكية تواجدت عبر الانتخاب الطبيعي، يعمل كل من تلك البرامج لأجل وظيفة محددة

2-  السلوك البشري هو نتيجة لعمليات عقلية، هو نتيجة لعمليات تتم في ذلك الكومبيوتر حينما يستجيب لتلك المعلومات التي يستخلصها من البيئة.
 

3-  تلك البرامج الإدراكية هي تكيفات ساعدت أسلافنا على البقاء وتمرير جيناتهم لنا، وولدنا بها، وأصبحت جزءا من غرائزنا، ما يعني أننا خرجنا للعالم -ليس كصفحة بيضاء- ولكن ببرامج مسبقة، أشكال من المعارف الجاهزة.
 

4-  لا تؤدي كل البرامج الإدراكية وظيفة تكيفية الآن، ربما كان ذلك فقط مناسبا بالنسبة لأسلافنا في بيئة مختلفة، بينما الآن لا نحتاج -مثلا- أن نخاف من ظل على الحائط؛ لكننا رغم ذلك، نفعل. لقد كان لذلك علاقة بحاجة البشر الأوائل لتطوير أدوات سريعة للهرب من المفترسات في ظروف بيئية شرسة.
 

5-  لا يتكون العقل من برنامج واحد ذي غرض عام؛ لكنه يتكون من وحدات، برامج إدراكية تواجدت عبر الانتخاب الطبيعي، يعمل كل من تلك البرامج لأجل وظيفة محددة، وهناك فرق بين الدماغ والبرامج الإدراكية، نحن هنا لا نعمل على "الدماغ".
 

6-  يمكن لقدراتنا على فهم تطور تلك البرامج الإدراكية أن تساعد في تفسير5 الظواهر الثقافية والاجتماعية، وهو المطلوب إثباته▪

المصدر : الجزيرة