شعار قسم ميدان

كيف يتعامل الدماغ مع اللغة؟

ميدان - كتاب

اللغة نقطة انفصال أساسية للبشر عن بقية الكائنات الحية؛ حتى إن أكثر الكائنات قدرة على التواصل لا يبلغ في إمكاناته قدرات طفل في الثانية من عمره، يتعلم الأطفال اللغة بمجرد متابعة ذويهم ومن دون الحاجة لتدريب مسبق فقط لأن لهم القدرة على ذلك، حتى إن الأطفال الصم إذا لم يعلمهم أحد لغة الإشارة فسوف يبتكرون لغة إشارة خاصة بهم للتواصل مع الآخرين.

 

وبينما يتمكن البشر من الحديث حول أي موضوع ممكن، سواء كان موجودا أمامنا الآن أو كان بعيدا في الزمن أو المسافة كان حقيقيا أو كان خياليا، تقف بقية الكائنات الحية عند عتبة الحديث حول موضوعات محددة كموضع الطعام ووجود الأعداء والشكوى ربما من ألم ما أو من أجل التزاوج، بينما نحن نؤلف تاسعة بيتهوفن ونكتب الإلياذة ونبتكر مدرسة هوجوارتس وملك الخواتم، لذلك فاللغة هي مركب غاية في التعقيد والغموض، ورغم محاولاتنا الدؤوبة لفهمها فنحن لا نزال في البدايات.

 

قبل حصولنا على أجهزة لقياس نشاط المخ كالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أو مخطط أمواج الدماغ (EEG) كان من الصعب أن نتعرف بدقة على مواضع المخ المتعلقة باللغة؛ لكن اعتماد العلماء على تلك الحالات التي تتضمن توقفا لعمل أجزاء محددة من المخ مكننا في البداية من تعلم بعض الشيء عن منطقتين أساسيتين تتعلقان باللغة في المخ البشري.

 

بروكا وفيرنيك

undefined

المنطقة الأولى هي منطقة بروكا وسميت كذلك نسبة إلى مكتشفها الطبيب الفرنسي بيير بول بروكا(1) سنة 1861 الذي وصفها بـ "مركز نطق اللغة" خلال دراساته حول مرضى الحبسة (Aphasia)، وهو اضطراب لغوي ناتج عن تلف في الدماغ، يحدث لعدة أسباب ضربة مباشرة مثلا أو جلطة أو أورام أو ارتفاع درجة حرارة الجسم لمستوى خطير.. إلخ، يتسبب في فقدان الشخص للغة بعد اكتسابها ويصيب وظيفة أو أكثر من وظائف المخ اللغوية الأساسية.

 

توجد منطقة /باحة بروكا في مقدمة الجانب الدماغي المهيمن غالبا الأيسر في الفص الجبهي، وتتعلق وظيفتها -في الغالب- بإنتاج اللغة، فهي المسئولة حركيًا (Motor) عن تنفيذ عملية الكلام، عبر تكوين وترتيب الكلمات والجمل بشكل مفهوم وربطها بحروف الجر وأدوات التعريف والعطف، وتشترك كذلك مع المناطق المسئولة عن التحكم بحركة الجسم وعضلات الوجه والفك واللسان والحنجرة.

 

وتؤدي المشكلات المرضية في هذه المنطقة إلى اضطراب /حبسة في اللغة التعبيرية (Expressive aphasia) فيكون الشخص قادرا على فهم الكلام عن طريق قراءته أو سماعه؛ لكنه غير قادر على إيجاد الكلمات المناسبة للتعبير عمّا يود أن يقول؛ فهو يرى "قلما" ويعرف أنه "قلم" لكنه لا يعرف الكلمة "قلما" ولا يستطيع أن يقولها.

 

دعنا نراقب حالة شهيرة لهذا النوع من الحبسة في الفيديو المرفق هنا، لاحظ أن المريض يفهم ما يُقال ويعرف ما يود أن يقوله؛ لكنه لا يستطيع خلق وترتيب الكلمات الممكن لها أن تعبر عن ذلك بسهولة.

المنطقة الثانية هي منطقة فيرنيك(2) وقد سميت كذلك نسبة إلى كارل فيرنيك طبيب الأعصاب الألماني الجنسية، وتتواجد في القسم الخلفي من الفص الصدغي بالمخ، وغالبا ما ترتبط باستيعاب اللغة؛ أي التعامل الحسّي (Sensory) مع اللغة الواردة إلى الدماغ سواء مكتوبة كانت أو مسموعة، ولذلك تعمل منطقة فيرنيك مع منطقة بروكا، حيث تتعامل منطقة فيرنيك مع الكلام "الوارد" بينما تتعامل بروكا مع الكلام "الصادر".

 

وتؤدي الإصابة في منطقة فيرنيك إلى اضطراب في قدرة الفرد على الاستيعاب اللغوي، وتسمى حبسة استقبالية (Receptive aphasia)، فيعاني المريض من صعوبة فهم اللغة ويستطيع التحدث بطلاقة وتكوين جمل طويلة ومعقدة لكن كلماته لا معنى لها، ويلاحظ أن المريض يستخدم اصطلاحات غامضة ويكرر الكثير من الجمل والكلمات لكن في النهاية لن تفهم ما يقصده فكلامه بلا معنى.

 

ويساعدنا ذلك في تعلُّم أن هناك فارقا بين الكلام واللغة؛ حيث في حالة الحبسة الاستقبالية لا يجد المريض أي مشكلة من إنتاج الكلام؛ لكن مشكلته هي إنتاج لغة ذات معنى، لنراقب معًا تلك الحالة الشهيرة لمريض يعاني من حبسة استقبالية، يمكنك تشغيل ترجمة جوجل لمراقبة الكلمات، يتحدث المريض بطلاقة وإذا لم تكن تعرف الإنجليزية لن تلاحظ أن هناك أية مشكلة؛ لكن مع التدقيق سوف تلاحظ أن الجمل غير مترابطة ولا معنى لكلامه، وفي بعض الحالات يصاب المريض بنوعي الحبسة معا لتسمى حبسة عامة (Global aphasia).

 

الآن يمكننا تحقيق بعض التقدم في فهم آلية تكوين واستقبال اللغة أو التعبير عنها، فهناك ثلاثة مراحل أساسية تتعلق بتلك الوظيفة:

  1. وضع المعنى اللغوي لما نود أن نقوله، أو فهم ما نستقبله بصريا أو سمعيا، عبر منطقة فيرنيك.
  2. تكوين الكلمات والجمل المناسبة عبر منطقة بروكا.
  3. دفع ذلك للخروج عبر القشرة الحركية.

عندما نسمع كلمة ما ونود أن نكررها؛ لتكن كلمة "مجرة"، تنطلق الإشارات العصبية من الأذن الداخلية عن طريق العصب السمعي إلى القشرة السمعية في الدماغ -المنطقة رقم 1 الملونة بالأصفر- بعد ذلك تنطلق تلك الإشارات إلى منطقة فيرنك -رقم 2 الملونة بالأزرق- من أجل تفسير هذا الكلام المسموع، ثم ربطه بتصور معين، ثم بعد ذلك تنتقل تلك الإشارات عن طريق حزمة من الألياف العصبية المقوّسة إلى منطقة بروكا -رقم 3 الملونة بالبنفسجي-  لتكوين الكلمة ثم إخراجها من جديد عبر المنطقة الحركية -منطقة رقم 4 الملونة بالأحمر- من أجل التنسيق مع أعضاء النطق لإخراج الكلمة، مجرة.

كيفية إدراك المخ لكلمة مكتوبة -إلى اليمين-. كيفية إدراك المخ لكلمة مسموعة وتكرارها -إلى اليسار (الجزيرة)
كيفية إدراك المخ لكلمة مكتوبة -إلى اليمين-. كيفية إدراك المخ لكلمة مسموعة وتكرارها -إلى اليسار (الجزيرة)

أما حينما نقرأ كلمة مكتوبة فإن نفس العملية تبدأ بمنطقة القشرة البصرية -رقم 1 الملونة بالأخضر- التي تستقبل الإشارة من العصب البصري لتستكمل نفس الدورة، سنحتاج أن نوضح هنا أن كل مرحلة من المراحل السابقة يتعلق الاضطراب فيها بنوع من الحبسة، فهناك مثلا الأجافيا "عدم القدرة على الكتابة" والأنوميا "عدم القدرة على تسمية الأشياء" أو مشكلات أخرى تتعلق بالقراءة والتهجئة والنحو.. إلخ، علمًا بأن المخ قادر في بعض الحالات من التلف -ومع العلاج والتمرين التخاطبي- على إعادة بناء روابط جديدة بين المكونات عبر ما يسمى اللدونة العصبية.

 

وجهات نظر حديثة

ظهرت وجهات نظر حديثة(3) في عام 2007 لتؤكد عبر دراسة الدماغ بأجهزة الرنين المغناطيسي والتصوير المخي، أن اللغة في الدماغ لها نموذج ثنائي التيار (Dual stream Model) يشبه رفيقه في النظام السمعي والبصري.

 

ففي النظام البصري مثلا يجري استشعار معلومات الصور في تيارين مختلفين عبر مجموعتين من الشبكات العصبية، أحدهما يجري في اتجاه علوي (Dorsal) يمر عبر الفص الجداري، ويتعلق بتحديد مواقع الأشياء في الفضاء، وبذلك فهو يرتبط بالحركة ومراقبتها، وهو إذن يسأل عن "أين؟"، أما الآخر السفلي (Ventral) فيمر بالفص الصدغي ويتعلق بالتعرف على الأشياء ذاتها، لذلك فهو يسأل عن "ماذا؟".

 

في المقابل يتواجد نظام لتقسيم المعلومات المخية عن اللغة عبر نظام مشابه، فالمعلومات التي تتجه في التيار العلوي عبر الشبكات العصبية في جانبي المخ تتعلق بالحديث، عبر استقبال المعلومات من النظام السمعي ومحاولة تكرارها، ويحدد ذلك التيار حركات الأعضاء المتعلقة بالنطق.

 

أما التيار السفلي والذي يجري في الشبكات العصبية للجانب المخي المسيطر فقط -الأيسر غالبا-، ويتعلق بالتعرف على الكلمات وإعطائها المعنى، فإذا سمعت كلمة "قمر" فإن هذا الجزء يتعلق بالتعرف عليها، ثم تصويرها في دماغك وربطها بسياق الكلام.

التيار العلوي والسفلي بالمخ (الجزيرة)
التيار العلوي والسفلي بالمخ (الجزيرة)

يرجى ملاحظة أن ما نقوم به هنا هو محاولة لتبسيط تلك العمليات، فهي في الحقيقة أكثر تعقيدا من ذلك وتتضمن التنسيق بين مناطق عديدة ومختلفة من المخ لم نقم بذكرها تسهيلا للفهم، فإدراك الدماغ وتفاعله مع اللغة هو أمر غاية في الغموض، ولا تزال العديد من الأبحاث القائمة تحاول -مع كل تطور لتكنولوجيا التصوير والمسح المخّي- أن تتعلم بعض الشيء عن المخ عموما، وعن مشكلة اللغة خصوصًا.

 

تتضمن أفكارنا الحديثة عن المخ محاولة عمل مقاربات بين آليات عمله وآليات عمل الشبكات الحاسوبية، يساعدنا ذلك كثيرا في فهم نمط تفاعل الشبكات العصبية بهذا الجهاز العجيب الذي يستهلك 20 % من طاقة الجسم فقط لتشغيل 2% من حجمه والذي تضم 86 مليار خلية عصبية، وحينما تتفاعل تلك الخلايا معا بآليات غير مركزية تتعلق بدرجات مختلفة من التعقد وظهور بعض الصفات الجديدة الطارئة على النظام المخي، تتكون لدينا صورة جديدة تماما عن عمل المخ نهمل خلالها الاختزالية النيوتينية القديمة التي ظلت لقرنين قابعة على صدر برامج البحث العلمي.

 

يمكن القول إن اللغة هي ربما سر اللعبة وربما يرتبط الوعي نفسه بوجود اللغة، وتتعلق الكثير من الأسئلة بتلك الفكرة، خذ مثلا السؤال عن تطور اللغة فمنذ 75 ألف سنة ونحن نحمل نفس الأدوات المخية للتعامل معها، كيف تطورت؟ ولماذا؟ ولماذا تبقى ثابتة؟.

 

لكن السؤال الأهم أيهما يسبق الآخر؟ هل اللغة تسبق الفكر أم الفكر يسبق اللغة؟، وكم الأسئلة المطروح في نطاقي علم الأعصاب واللسانيات أكبر بفارق ضخم عن كم الإجابات التي ندّعي أنها أقرب للتأكيد من غيرها؛ بل إن كل طريق جديد نسلكه يكشف عن عدد أكبر من الأسئلة، فنحن لا نزال نحبو في محاولاتنا لفهم ذواتنا؛ لكن ذلك لا يردعنا -كبشر- عن استكمال مسيرة البحث.

المصدر : الجزيرة