شعار قسم ميدان

جون ناش.. أن تفهم الاقتصاد وأنت تلعب

"لكن، في الوقت الحالي، يمكن أن أقول إنني بت أفكّر بشكل عقلاني مرّة أخرى بالنمط الذي يميز العلماء، ولا يعتبر هذا مدعاة للفرحة بالشكل الذي يحدث حينما يعود شخص من إعاقة جسدية إلى صحته، فأحد جوانب المشكلة هو أن العقلانية تفرض قيودًا على مفهوم الشخص عن علاقته بالكون"

(جون ناش)

تُرى، ما الذي يمكن أن يحدث حينما يكون موضع العطب هو مركز تفكيرنا في العطب ذاته؟ تلك بالفعل معضلة غاية في الصعوبة، وهي ربما ما واجه جون فوربس ناش، الرياضياتي الأميركي المعروف، والذي جسد دوره النجم راسل كرو في الفيلم الشهير "عقل جميل" (Beautiful Mind)، مع مرض الفصام والذي بدأت أعراضه حينما كان شابًا يدرس في جامعة برينستون بين عامي 1945-1948.

لكن هذا المقال ليس في الحقيقة محاولة لشرح معاناة ناش مع الفصام، فقد قام الفيلم بالفعل بعرض -ربما أكثر سهولة وفانتازية بمراحل من الواقع- لصراعه مع المرض، وتنتشر الوثائقيات، المقالات، الكتب، التي تحكي عن رحلته الطويلة مع الفصام. لذلك، سوف نترك كل هذا جانبًا ونحاول فهم إنجاز جون ناش الذي نال عنه جائزة نوبل سنة 1994، ما هو؟ وكيف أمكن أن يؤثر هذا الرجل -الذي لم تره إلا في السينما وصفحات التواصل الاجتماعي- على عملك، آليات حركية مجتمعك، ونظام حياتك الشخصية؟ وربما من ذلك المنطلق قد نجد رابطًا بين جون ناش ومرضه، ربما قد نستطيع الإجابة عن السؤال المهم: كيف خلّص ناش نفسه من المرض؟

جون فوربس ناش (رويترز)

كان إسهام ناش الأبرز فيما نسميه نظرية الألعاب، وهي – كما يبدو من اسمها بالفعل- "تحليل رياضي لحالات تضارب المصالح، بغرض الوصول إلى أفضل الخيارات الممكنة، لاتخاذ قرارات تحصل على النتيجة المرغوبة في ظل الظروف المعطاة"، وهذا هو ما تعنيه اللعبة، يشبه الأمر أن تلعب الكوتشينة، الدومينو، أو الشطرنج مع أحدهم وتتخذ قرارات متتالية بناءً على تغير ظروف اللعبة بحيث تصل للمكسب، لذلك فحينما نحاول فهم إنجاز ناش في نظرية الألعاب – والذي ندعوه اتزان/توازن ناش* (Nash Equilibrium) – بشكل مبسّط يجب أن نلعب قليلًا، أعرني عقلك إذن**.

معضلة السجينين

اللعبة الأولى بسيطة، أنت لص شهير، تم القبض عليك مع زميل في المهنة يُدعى "مختار" بينما كنتما تسرقان محل أدوات منزلية بأحد المجمعات التجارية الشهيرة، إلا أن خطأ ما حدث في إجراءات القبض عليكما جعله من الضروري أن يتفاوض معكما رجال الشرطة للحصول على اعترافات، في قسم الشرطة تم وضع كل منكما لمدة ساعتين في حجرة منفصلة عن الآخر، ثم بعد ذلك دخل الضابط للحديث معك عن الفرص المتاحة أمامك، فقال:

"ركز قليلًا هنا فمستقبلك على المحك، ان اعترفت أن مختار قد سرق المحل فسوف تحصل على "براءة" ويُسجن "مختار" لمدة 10 سنوات، ولكن هذا سوف يحدث فقط إن أنكر مختار في الغرفة الأخرى أنك سرقت، فإن اعترف هو الآخر سوف تسجنان معًا لمدة 5 سنوات، لو أنكرت بينما اعترف مختار فسوف تسجن أنت السنوات العشرة ويحصل هو على "براءة"، أما إن أنكر كل منكما فسوف تسجنان معًا لسنتين فقط، الآن سوف أتركك وأعود بعد نصف ساعة، وحينما أعود تكون قد اتخذت قرارًا" الآن، دعنا -قبل أن يعود الضابط- نحاول اختصار حديثه في عدة نقاط مبسطة تحكي كل منها عن حالة محتملة:

  1.  أنت اعترفت، ومختار اعترف (خمس سنوات لكل منكما)
  2. أنت اعترفت، ومختار لم يعترف (أنت براءة، مختار 10 سنوات)
  3. أنت لم تعترف، ومختار اعترف (أنت 10 سنوات، مختار براءة)
  4. أنت لم تعترف، ومختار لم يعترف (سنتان لكل منكما)
نسمّي ما تراه أمامك بـ
نسمّي ما تراه أمامك بـ "مصفوفة المكاسب" (Payoff Matrix)، وتساعدنا في تحويل اللعبة لقيم رياضية كي نصل إلى أفضل قرار (الجزيرة)

دعنا نفكّر معًا قليلًا، لنتأمل الإمكانات المتاحة لك، للوهلة الأولى قد يكون أول ما يخطر في بالك هو ألا تعترف على زميلك، فبجانب أخلاق المهنة، ستفكر حتمًا بالسنتين وهما أقل عدد يمكن أن تحصل عليه، خاصة أنك ستفكر بمختار والذي ربما سوف ينكر الاتهامات هو الآخر، لكن هناك مصيبة، لنعيد التفكير مرة أخرى.

ماذا لو اعترف مختار راغبًا في الحصول على البراءة؟ تلك أيضًا نقطة تدعو للتأمل، مختار لص هو الآخر، وربما لن يحترم أخلاق المهنة ويعترف أنك سرقت المحل لكي يحصل على البراءة، هل يمكن للص أن يحترم أي شيء؟ لو حدث ذلك ربما ستهتف غاضبًا "لقد كنت غبيًا حينما وثقت به"، لكن ما سيوجعك حقًا بجانب غبائك هو العشر سنوات التي ستقضيها بالسجن، أعد التفكير مرة أخرى بعقلانية أكبر، وخذ وقتك وحذرك.

هنا، وبعد تأمل، وقليل من الحسابات، ستقول لنفسك: "ربما سوف أعترف أن مختار هو من سرق المحل"، إن اعترف هو الآخر فأنت لا تحصل إلا على خمس سنوات في السجن، وإن لم يعترف فقد ربحت البراءة، نعم لقد خسرت إمكانية أن تُسجن لمدة سنتين فقط، لكنك كذلك نحّيت كل فرصة ممكنة لأن تحصل على السجن لمدة عشر سنوات جانبًا.

ما حدث هنا هو أنك، في أثناء إعادة النظرة الأخيرة، قد وصلت إلى ما ندعوه اتزان ناش، ويعني ذلك أنك اتخذت أفضل قرار ممكن لحالتك بغض النظر عن قرارات اللاعبين الآخرين في اللعبة، لو قرر مختار أن يعترف أو أن ينكر فلقد حصلت بالفعل على أفضل اختيار ممكن لا يعتمد على قرارات مختار، ويصل الشخص إلى توازن ناش إذن عندما لا يستطع أي من اللاعبين الآخرين أن يستفيد شيئًا بتغيير إستراتيجيته التي يلعب بها بشكل منفرد، في حين يحافظ بقية اللاعبين على نفس إستراتيجياتهم.

تلك النقطة تحديدًا يشرحها راسل كرو في الفيلم لأصدقائه الثلاثة في مشهد بسيط، حينما كانوا في الحانة وظهرت فتاة جميلة مع أربع فتيات أقل جمالًا، هنا يقترح أحدهم أن يحاول كلٌ منهم التقرب منها، لكن ناش يقول لهم إن ذلك خطأ، حينما نحاول كلنا التقرب من الجميلة فسوف تتكبر وترفضنا جميعًا، ثم إن حاولنا بعدها التقرب من الأقل جمالًا سوف ترفض لأنه لا توجد امرأة تحب أن تكون في المركز الثاني، يكون الحل إذًا أن نهمل الجميلة منذ البداية -اضطرارًا- ونبدأ بالتقرب من الفتيات الأربعة، هنا سوف يحصل كلٌ منّا على لقاء مع فتاة، في النهاية يقول ناش "آدم سميث كان على خطأ، فلا يجب أن يسعى اللاعبون لخدمة ذواتهم فقط، بل لخدمة ذواتهم والمجموعة ككل"

سيارات وآيس كريم

لفهم الجزء الأخير المتعلق بغض النظر عن قرارات الآخرين، دعنا ننتقل إلى لعبة أخرى، الساعة الآن الرابعة فجرًا، لا يوجد أي شخص في الشوارع، فقط أنت في سيارتك، حدث أن دخلت إلى إشارة مرورية تقف على تقاطع شارعين، في الشارع الآخر تقف سيّارة أخرى، إشارة المرور حمراء عند أحدكم وخضراء عند الآخر، لكن بالطبع في هذا الوقت من اليوم يمكن لك أن تتخطى الإشارة بلا أي مشكلة فليست هناك رقابة، رغم ذلك سوف تفكر قليلًا قبل اتخاذ قرار بالمرور، دعنا نتخيل كل الحالات الممكنة.
ما هو اختيارك اذن؟ هل سوف تكسر الاشارة، وكيف يمكن أن تحدد قرارك؟ (الجزيرة)
ما هو اختيارك اذن؟ هل سوف تكسر الاشارة، وكيف يمكن أن تحدد قرارك؟ (الجزيرة)
  1. تقرر أنت، ويقرر راكب السيارة الأخرى المرور سواء كانت الإشارة حمراء أو خضراء، لن تلتزم بالقانون، هنا سوف تكون النتيجة ربما حادث أليم.
  2. تقرر أنت انتظار الطرف الاخر لكي يمر، بدون أي التزام بقواعد المرور كذلك، هنا تكون النتيجة أن ينتظر كل منكما الآخر لمدة طويلة وسوف يضيع الوقت.
  3. تقرر أنت، ويقرر الراكب في السيارة الأخرى كذلك، أن تلتزم بقواعد المرور، هنا سوف يمر صاحب الإشارة الخضراء وينتظر الآخر، وهذا هو ما سوف يحدث في الحالة الطبيعية.

إذن ما حدث هو أن كلٌ منكما قرر الالتزام بقانون ما يحقق له أفضل مكسب ممكن بغض النظر عن وجود رقابة من عدمه، هنا نقول أن كلاكما توصّل لاتزان ناش، توازن ناش إذن يحدث بين مجموعة من الإستراتيجيات كل واحدة منها هي الرد الأمثل على البقية، فلقد قرر كل منكما اختيار أفضل حل ممكن، أفضل مكسب ممكن.

يشرح اتزان ناش كذلك حالة شهيرة نعرفها جميعًا، وهي سر تكدس المحال التجارية من نفس النوع في نفس المكان، ألا تتعجب حينما تخرج لشراء ملابس فتجد أن كل محال الملابس تتواجد في نفس المكان من المدينة، كل محال الأدوات المنزلية تقريبًا تتواجد في نفس المكان، كل محال الهواتف المحمولة؟ في الحقيقة يعد هذا بشكل ما تمثيلًا لنموذج اتزان ناش، لفهم ذلك دعنا نفترض أنك قررت أن تبيع الآيس كريم على أحد الشواطئ، وهو شاطئ طوله 1 كيلومتر، هنا يكون القرار الأمثل هو الوقوف في منتصف الشاطئ، فأنت تغطّي جانبيك – 500 متر في كل جانب – بشكل متساوي، لكن ماذا لو جاء بائع آخر؟

الوضع المفترض هو أن يقوم كل منكما بتقسيم الشاطئ كما بالشكل، لكن ماذا يحدث إن قرر صاحب الربة الزرقاء التحرك إلى اليسار قليلًا؟ هنا سوف تخشى أن يأخذ من زبائنك، فتتحرك أنت إلى اليمين فليلًا، وهكذا (الجزيرة)
الوضع المفترض هو أن يقوم كل منكما بتقسيم الشاطئ كما بالشكل، لكن ماذا يحدث إن قرر صاحب الربة الزرقاء التحرك إلى اليسار قليلًا؟ هنا سوف تخشى أن يأخذ من زبائنك، فتتحرك أنت إلى اليمين فليلًا، وهكذا (الجزيرة)

من المفترض هنا أن يقف كل منكما على مسافة 250 متر من جانبي الشاطئ حتى يتسنى لكل منكما خدمة 50% من مساحة الشاطئ، لكن الوضع لن يستقر كثيرًا هنا، فربما بعد أسبوع مثلًا يقرر زميلك على الشاطئ أن يدفع بعربته باتجاهك 20 مترًا للحصول على مزيد من الزبائن، هنا سوف تغتاظ وتدفع عربتك 20 مترًا باتجاهه، في صباح اليوم التالي سوف يدفع عربته بقدر أكبر، فتفعل بالمثل، ثم في النهاية نصل لوضع تتواجدان فيه بجانب بعضكما البعض في منتصف الشاطئ فيخدم منكما الجزء الأيسر ويخدم الآخر الجزء الأيمن، هنا نقول أنكما وصلتما لاتزان ناش.

لعبة المكافأة

في اللعبة الأخيرة -ربما- سوف تسأل نفسك عن سبب ذلك، بمعنى أنه: لما لا يتفق كل من بائعي الآيس كريم على تقسيم المنطقة بسهولة دون مشكلة؟ هنا سنلعب لمرّة أخيرة، أنت الآن موظف في شركة لبيع أجهزة التكييف، حصلت مع أربعة من زملائك على لقب أفضل بائعي 2017، وقرر المدير صرف مكافأة لكم، المكافأة هي أن يختار كل منكم مبلغ، أي مبلغ بين 6 ألاف جنيه و10 آلاف جنيه، لكن بشرط واحد، وهو أن الجميع سوف يحصل على أقل اختيار من الإختيارات، مطروحًا منه الفارق بين اختياره الشخصي وهذا الاختيار، لنقل مثلا أنك اخترت 10 آلاف جنيه، وحدث أن اختار أحد الزملاء أقل مبلغ بقيمة 7 آلاف جنيه، سوف تحصل إذن على 4 آلاف جنيه فقط، السبعة الاف مطروحا منها ثلاثة آلاف، الفارق بين اختيارك الأول (10) وأقل اختيار (3).

كما حدث في لعبة السجينين، سوف تود للوهلة الأولى أن تحصل على أكبر مكافأة ممكنة، هنا سوف تقول لنفسك أنك سوف تختار الـ 10000 جنيه، لكن انتظر قليلًا، ماذا لو اختار أحدهم 9000؟ هنا سوف تحصل فقط على 8000 جنيه، ويحصل هو على 9000، ماذا لو اختار أحدهم مبلغ 7000 جنيه؟ هذه كارثة إن اخترت الـ 10000 جنية لأنك سوف تحصل على 4000 آلاف فقط، بعد تفكير طويل سيضطر كل موظف منكم إلى التراجع بالتدرج خوفًا من اختيارات زملائه، حتى تصلوا جميعًا إلى قيمة واحدة، فقط الـ6000 جنية هي أنسب اختيار لك بغض النظر عن اختيارات الآخرين، مهما كانت اختياراتهم سوف تحصل على 6000 حتمًا لأنه أقل اختيار ممكن ولن يُطرح منه شيء.

نموذج لاختيارات اللاعبين والنتيجة التي يحصلون عليها، لكن الأكثر ربحًا هنا هو الذي اختار اقل مبلغ ممكن 6000 جنيه (الجزيرة)
نموذج لاختيارات اللاعبين والنتيجة التي يحصلون عليها، لكن الأكثر ربحًا هنا هو الذي اختار اقل مبلغ ممكن 6000 جنيه (الجزيرة)

لو حدثت اللعبة بالفعل في الحياة الواقعية، ربما في المرة الأولى قد تختار رقمًا عاليًا، لكن حينما يحدث أن يختار أحدهم رقمًا أقل ثم تخسر أنت سوف تتعلم في المرة القادمة أن تختار رقمًا أقل، وهكذا مع تكرار اللعبة لعدد أكبر من المرات تعلّم الخسارة كل لاعب أن ينزل بالتدريج ليصل إلى اتزان ناش، يعني ذلك أنك سوف تضطر في النهاية، أنت وبقية اللاعبين، مع الضربات المستمرة، إلى اتباع اتزان ناش منذ البداية خوفًا من تلقّي الضربات من هنا وهناك، هنا تُسمّى الآلية التي يحدث بها ذلك التدرج في التفكير بالاستقراء التراجعي (Backward induction)، وهو آلية التفكير التي سوف تستخدمها كي تصل في النهاية إلى اتزان ناش، قبل أن تخسر.

جميل جدًا، كان ما تعاملنا معه في كل ما سبق هو ألعاب بسيطة يمكن للمشاركين فيها أن يتفقوا معًا على قرار ما، في لعبة المكافأة يمكن للموظفين الخمسة أن يلتقوا في غرفة واتساب ويقررو جميعًا اختيار 10000، لكن ماذا عن سوق ضخم به آلاف، ربما مئات الآلاف، ملايين من اللاعبين؟ هنا سوف يضطر كلٌ منهم إلى اللجوء لأنسب قرار ممكن منذ اللحظة الأولى بغض النظر عن تأمل اختيارات الأخرين، فهم كُثر، ولا يمكن توقع قراراتهم، وأنسب قرار هنا هو الوصول لاتزان ناش.

إتزان ناش إذن هو القرار الذي سوف يلجأ إليه الجميع، ويعني ذلك أن السوق – على مستوى كلّي – ربما يتحرك بعقلانية دون الحاجة لتوجيه من الخارج، السوق الحر إذن عقلاني التوجه، وتلك هي الإضافة القوية التي أضافها ناش إلى مفهوم الرأسمالية، لأن الجميع سوف يصبح عقلانيًا في اتخاذ قراراته حتّى مع حرية السوق، فكل اللاعبين سوف يحاولون منذ البداية الحصول على 5 سنوات سجن لكن سوف يضحون بالبراءة، سوف يطلبون لقاء الفتاة الأقل جمالًا، سوف يلهثون وراء الـ 6000 جنيه ويضحون بالـ 10000، سوف يختارون الموقع الأفضل في الشاطئ بغض النظر عن وجود بائعين آخرين.

كما تلاحظ، إن مفهوم اتزان ناش على بساطته يدفع للكثير من التفكير، تخرج الفكرة من أبواب الرياضيات لتؤثر في كل شيء تقريبًا، بداية من الاقتصاد، إلى السياسة، علم النفس، البيولوجيا، علم الاجتماع، والفلسفة الأخلاقية، ثم إلى كل شيء تقريبًا، تجدها في مطعم صغير موجود في الشارع المجاور، وفي تجارة السلاح، وفي تقييم أداء الموظفين، واحتيار رواتبهم، إلى كيفية شراء لاعبي كرة القدم، وتحقيق افضل اختيار ممكن في حالة تهديد نووي. جون ناش، دون أية مبالغة، موجود في كل مكان بحياتنا.

جون ناش ضد جون ناش

undefined

 ربما، في تلك المرحلة، يتصور البعض أن الأمر محسوم إذن، كل ما نحتاجه هو اللجوء لتوازن ناش لينتهي الأمر، إلا أنه حينما نحاول فهم البشر وسلوكهم فالأمر أعقد دائمًا مما نتصور، دعنا الآن نذهب إلى فيلم باتمان الشهير "ذا دارك نايت" (The Dark Knight) حيث يؤدي هيث ليدجر دور الجوكر الشهير، في نهاية الفيلم يلعب الجوكر مع سكان جوثام لعبة غاية في الخطورة، يضع مجموعتين منهم كلٌ في سفينة، ثم يقوم بوضع كم ضخم من المخدرات على كل سفينة منهما ويضع جهاز التفجير الخاص بكل سفينة مع الآخرى، ثم يدع الاختيار لركاب كل سفينة: "لتفجروا السفينة الأخرى قبل أن تفجركم".

هنا، ربما سيكون أول ما يتبادر لأذهاننا هو الإذعان فورًا لقرار تفجير الآخرين قبل أن يقوموا بالضغط على الزر، لكن هذا لم يحدث في الفيلم، ولم يحدث في الحقيقة أيضًا كنتيجة لبعض الدراسات، في دراسة شهيرة(2) بين عامي 2002-2004 خضع لها 2500 شخص من سبع جنسيات مختلفة، على الانترنت، تم تخيير المشاركين، بالضبط كلعبة المكافأة، بين رقمين 180 دولار و 300 دولار، من وجهة نظر اتزان ناش سوف يضطر الجميع إذن أن يلجأ إلى الاختيار الأسلم 180 دولار، لكن 55% من المشاركين اختاروا 300 دولار، بينما اختار 17% من اللاعبين رقم بين 295-299 دولار، بينما 13% فقط اختاروا الـ 180 دولار.

البشر إذن كائنات أكثر تعقيدًا مما نتصور، توجد تجارب عديدة توضح أن اختيارات البشر ليست بتلك العقلانية، وفي المقابل توجد تجارب أيضًا توضح أن البشر قد يقوموا باختيار اتزان ناش، لكن الجدل حول ما إذا كان السوق عقلانيًا أم لا ليس موضوعنا في هذا المقال، بل جون ناش نفسه، لو تأملنا قليلًا فكرة اتزان ناش، سوف نجد أن ذلك يعني أن هناك قرار يمكن اتخاذه بغض النظر عن أهوائنا، حالاتنا النفسية، وجهات نظرنا للأمور، وأفكارنا الخاصة، إنه القرار العقلاني المبني على اتزان ناش.

هل يمكن أن يكون هذا هو ما فعله جون ناش لتخطّي المرض النفسي؟ إذا كانت العلّة -كما قلنا في بداية لمقال- في العضو نفسه المسؤول عن التفكير فيها، ألا يمكن لنا لكي نتخلص منها أن نجنب هذا العضو نفسه، نجنب أفكارنا ذاتها، أهوائنا وخيالاتنا عن الأمور، في سبيل الخضوع للمعادلات والمعارف الموضوعية بغض النظر عن وجهة نظرنا عنها؟  ربما كانت تلك هي مغامرة ناش الأكثر خطورة في حياته، والأكثر ألمًا ربما كما رأينا في اقتباسه الأول، فناش يضطر أن يكون عقلانيًا، كي لا يفقد ذاته من جديد، جون ناش إذن يستخدم العقلانية ضد جون ناش.

_________________________________________

هوامش:

  • * دعنا في تلك النقطة حول اتزان ناش نوضح أن ما نحاول تبسيطه، فهمة بلغة الألعاب التي نعرفها، على الرغم من دقّته، إلا أن ما قدمه ناش هو عمل أعقد كثيرًا من ذلك، الأمر يحتوي دائمًا على رياضيات معقدة للغاية لا يفهمها إلا رجال الأكاديميا، أضف لذلك أن لناش انجاز رياضياتي – ربما هو الأكثر شهرة بين الرياضياتين وليس اتزان ناش – وهو أعماله في الهندسة التفاضلية الجزئية والعمليات التفاضل الجزئي وحله لمشكلة الطارة المسطحة (Flat torus) والتي حصل عنها على جائزة بيل سنة 2015.
  • ** بني هذا المقال نفسه على مساق في نظرية اللعبة تلقاه الكاتب من جامعة ييل على الإنترنت.
المصدر : الجزيرة