شعار قسم ميدان

سر الذاكرة.. لماذا ننسى القريب ونتذكر البعيد؟

العقل

تذكر وسرد ماضينا الشخصي هو جزء مما يجعلنا بشرًا. ويخلق حسنا بمن نحن، ويسمح لنا بالتخطيط للمستقبل ويساعدنا على تشكيل العلاقات. لكننا لا نتذكر جميعا ماضينا بنفس الطريقة. في الواقع، طبيعة ونوعية الذاكرة تختلف اختلافًا كبيرًا بين الناس. على سبيل المثال، عندما يطلب منا تذكر شيء عن حفلة، قد يتذكر البعض بوضوح عيد ميلاده السادس: كيف صُفت الهدايا، الحلويات، طعم الشوكولاتة في الكعكة التي على شكل قنفذ والذهاب إلى السرير في وقت متأخر ذلك المساء. شخص آخر قد لا يتذكر هذه التفاصيل الدقيقة، ولكن سيتذكر أن عمته تكره الحفلات وأن كعكات القنافذ كانت ضخمة في الثمانينيات.

 

لذلك، ذكرياتنا الشخصية تحتوي على أنواع مختلفة من المعلومات. بعضها دقيق جدًا حول مكان وكيفية حدوث الأشياء – والشعور الذي خلفته لديك. تعرف هذه المجموعة من التجارب الشخصية باسم "الذاكرة العرضية". "البِت" (Bit) (وحدة قياس بيانات الذاكرة في الحاسوب) الأخرى هي حقائق عامة عن العالم، عن أنفسنا والناس الذين نعرفهم. وهذا ما يسمى "الذاكرة الدلالية". هناك سؤال هام في علم الأعصاب هو ما إذا كان هذين النوعين من الذاكرة يشملان أجزاء مستقلة من الدماغ.

 

وقد تبين أن الأفراد الذين عانوا من أضرار في منطقة تسمى الحصين (تتضمن الذاكرة، التعلم والعاطفة) يتذكرون حقائق عن حياتهم لكنها تفتقر للدقة العالية، والتفاصيل العرضية. من ناحية أخرى، المرضى الذين يعانون من شكل نادر من الخرف، والمعروف باسم الخرف الدلالي، يمكنهم أن يتذكروا المعلومات العرضية، ولكن لا يتذكرون الحقائق التي تجمع تلك المعلومات معا. ومن المثير للاهتمام أن هؤلاء الأفراد يظهر لديهم تدهور مبكرا لجزء آخر من الدماغ يسمى الفص الصدغي الأمامي (الذي يعتقد أنه بالغ الأهمية للذاكرة الدلالية).

 

الشبكات في مقابل المساحات

غزارة المعلومات العرضية التي تذكرها المتطوعين مرتبطة باتصال مسار مقوس من المادة البيضاء يدعى القبو الدماغي؛ فكلما زادت كفاءته في توصيل المعلومات إلى الأجزاء المحيطة كلما زادت عرضية ذاكرة الشخص
غزارة المعلومات العرضية التي تذكرها المتطوعين مرتبطة باتصال مسار مقوس من المادة البيضاء يدعى القبو الدماغي؛ فكلما زادت كفاءته في توصيل المعلومات إلى الأجزاء المحيطة كلما زادت عرضية ذاكرة الشخص

لكن هل نستطيع ملاحظة تفريق مماثل في دماغ سليم؟ في حين يكون التفكر في ماضينا أمرًا معقدًا للغاية، يبدو أن أجزاء مختلفة من الدماغ يجب عليها العمل معًا لتحقيق هذا الأمر. والدراسات التي استخدمت فحص الرنين المغناطيسي الوظيفي أظهرت أن الذكريات الشخصية تفعل شبكات كبيرة في الدماغ. يبدو إذن أنه لا يمكن اختزال الذاكرة في جزء واحد أو جزئين معينين من مساحة الدماغ. يجب أن علينا نفكر بطريقة أشمل. الدماغ نفسه مكون من أنسجة بيضاء ورمادية. الأجزاء البيضاء والمعروفة بالمادة البيضاء تحتوي نسيجاً يسمح للمعلومات بالتنقل بين مختلف أجزاء الدماغ. إذن هل تستطيع هذه الوصلات ذاتها إخبارنا بالطريقة التي نتذكر بها الماضي؟

في دراستنا الأخيرة التي نشرت في مجلة "كورتكس": (القشرة الدماغية)، حاولنا استكشاف هذه الأسئلة باستخدام تقنية فحص رنين مغناطيسي بخاصية الانتشار. هذه الطريقة تستعمل حركة جزيئات الماء لرسم خريطة لمسارات المادة البيضاء في الدماغ. طلبنا من 27 متطوعاً جامعياً الاستلقاء بثبات تحت جهاز الفحص وجمعنا صوراً لأدمغتهم. باستخدام هذه الصور كان بإمكاننا التعرف على مسارات معينة وتحديد قياسات لهياكلها تبين مدى الكفاءة التي تنتقل بها المعلومات بين الأجزاء المتصلة.

 

خارج جهاز الفحص طلب من كل متطوع وصف ذكريات ماضيهم عندما يسمعون كلمات محددة مثل حفلة أو إجازة. بعد عناء الخوض في هذه المعلومات وترميزها استطعنا التوصل إلى مدى عرضية أو دلالية ذاكرة كل واحد منهم. على سبيل المثال عبارة معينة تدل على المكان تحسب لصالح عرضية الذاكرة مثل (كان برج ايفل خلفنا مباشرة)، بينما الحقائق تحسب لصالح دلالية الذاكرة مثل (باريس هي مدينة أختي المفضلة).

 

وجدنا أن غزارة المعلومات العرضية التي تذكرها المتطوعين مرتبطة باتصال مسار مقوس من المادة البيضاء يدعى القبو الدماغي والمرتبط بقرن آمون. لذا كلما زادت كفاءة القبو الدماغي في توصيل المعلومات إلى الأجزاء المحيطة كلما زادت عرضية ذاكرة الشخص. مسار مختلف للمادة البيضاء يسمى بالحزمة العمودية السفلية تشير بقوة إلى مدى دلالية ذاكرة الشخص. المثير في الأمر أن حزمة المادة البيضاء الطويلة هذه هي المسار الأساسي من الأجزاء البصيرة من الدماغ إلى فص الصدغ الأمامي، وهي نفس المنطقة المتضررة في حالات الخرف الدلالي.

 

أسلاك الذاكرة

الأشخاص المصابون بأضرار في شبكات الذاكرة الدلالية مثل المصابين بالمراحل المبكرة من الزهايمر ربما بإمكانهم الاستفادة من استراتيجيات الذاكرة الدلالية لتعويض النقص
الأشخاص المصابون بأضرار في شبكات الذاكرة الدلالية مثل المصابين بالمراحل المبكرة من الزهايمر ربما بإمكانهم الاستفادة من استراتيجيات الذاكرة الدلالية لتعويض النقص

تشير هذه الاكتشافات إلى أن طريقة تذكر كل شخص للماضي ترتبط بالطريقة التي ترتبط بها أجزاء أدمغتنا. تاريخيًا فإن علم الأعصاب كان يميل لرؤية أجزاء الدماغ باعتبارها وحدات منفصلة تعمل كل منها على حدة. هذه النتائج تدل على العكس: الوصلات بين أجزاء الدماغ والشبكات التي تشكلها حيوية في تحديد طريقة تفكيرنا وتصرفنا. تدعم النتائج التي حصلنا عليها الفكرة القائلة بأن هناك أنظمة مختلفة للذاكرة في أدمغتنا. نظام لتذكر المكان والوقت وآخر مخصص للمعلومات العامة والحقائق الشخصية.

 

هل تساعد هذه النتائج الأشخاص الذين يعانون من مشاكل في الذاكرة؟ ليس بعد، لكن فهمنا لكيفية عمل الذاكرة في الأشخاص الأصحاء تساعدنا على فهم ما يجري في الأدمغة المصابة بأمراض مثل الزهايمر وتساعدنا على إيجاد العلاج. على سبيل المثال الأشخاص المصابون بأضرار في شبكات الذاكرة الدلالية مثل المصابين بالمراحل المبكرة من الزهايمر ربما بإمكانهم الاستفادة من استراتيجيات الذاكرة الدلالية لتعويض النقص. خلصت دراسة حديثة إلى أن ربط الذكريات بالأشياء المادية أدت إلى تحسن الذاكرة العرضية عند بعض مرضى الزهايمر.

 

هناك الكثير من الأشياء التي لا نعرفها بعد عن المادة البيضاء في الدماغ. عدد من الخصائص تؤثر على كيفية انتقال المعلومات في هذه المادة منها كثافة النسيج. في المستقبل بإمكاننا أن نستخدم تقنيات فحص جديدة وقوية للكشف عن أجزاء من المادة البيضاء واستخلاص هذه النتائج المذهلة.

________________________________


التقرير مترجم عن: الرابط
التالي

المصدر : مواقع إلكترونية