شعار قسم ميدان

فجر الكون.. كيف تكونت المجرات الأولى؟

كيف نشأ ذلك كلّه؟ إن السؤال عن أصل الكون يقع في مركز الفضول الإنساني بلا شك، مما يجعله كذلك جزءًا أساسيًا من اهتمام العلم، إن أكثر الفرضيات التي نمتلكها قبولًا إلى الآن تقول إن الكون كله نشأ من نقطة واحدة غاية في السخونة، توحدت فيها كل قوى الكون الأربعة ثم حدث ما نسميه بالانفجار العظيم (Big Bang) والذي صنع كل ما نراه الآن من النجوم والغاز والغبار والمجرات والسوشي ومسلسلات رمضان وأنا وأنت ودونالد ترامب.

ورغم أننا قد توصلنا إلى الكثير عن الكون وبداياته، إلا أن نشأة وتجمع المادة الأولى في الكون ما زال مجال بحث نشط؛ إذ كيف توزعت المادة في الأوقات المبكرة من تاريخ الكون؟ ولمَ لم تظل متجانسة دون أي تجمع؟ وكيف تكونت المجرات الأولى؟ ولماذا تتخذ هذا الشكل تحديدًا؟ ولماذا تتجمع معًا بتلك الطريقة في تجمعات ثم تجمعات أضخم؟ ثم، ما الذي يدفعها إلى هذا التنوع، فهناك مجرّات بيضاوية وحلزونية وغير منتظمة وتتخذ كل منهم تنوعات مختلفة، ما السبب في تلك اللوحة الفنيّة المهيبة؟ حسنًا، تلك أسئلة كثيرة، لذلك سوف تحتاج منّا رحلة ربما تطول لتعلم بعض الشيء عما نعرفه في تلك الجوانب، اربط حزام الأمان.

المجرات(1) هي تجمعات ضخمة للنجوم والغبار الغاز والبقايا البين-نجمية التي ترتبط جذبويًا معًا وتدور حول مركز واحد، تحتوي كل واحدة منها على مليارات النجوم؛ حتى إنها -كأندروميدا جارتنا مثلًا- قد تتخطى حاجز التريلليون مجرة، ونحن نعرف الآن أن الكون على الأقل يحتوي على 2 تريلليون من هذه المجرّات، إن هذه الكيانات المبهرة التي تراها كقطع حلي بديعة في تلسكوب صغير بينما تراقب السماء ليلًا هي وحدة بناء الكون الذي نعرفه.

أندروميدا (المرأة المسلسلة) هي أقرب المجرّات لنا، تبتعد فقط 2.5 مليون سنة ضوئية، السنة الضوئية هي وحدة قياس مسافة وليس زمن، فهي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة، وتساوي تقريبًا 9.5 تريليون كم (مواقع التواصل)
أندروميدا (المرأة المسلسلة) هي أقرب المجرّات لنا، تبتعد فقط 2.5 مليون سنة ضوئية، السنة الضوئية هي وحدة قياس مسافة وليس زمن، فهي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة، وتساوي تقريبًا 9.5 تريليون كم (مواقع التواصل)

لنفهم المشكلة المتعلقة بالسؤال عنوان التقرير، دعنا ننظر إلى ذواتنا، نحن نعرف أننا -كبشر- بدأنا بالتقاء حيوان منوي مع بويضة، ثم تطورنا لنصبح جنين، ثم خرجنا للحياة أطفالًا ثم شبابًا ورجالًا أو نساءً حتى وصلنا إلى مرحلة الشيخوخة، نحن نعرف ذلك لأننا نراه يحدث، نرى الأطفال والشباب والشيوخ والأجنة ببطون أمهاتهم في كل مكان ونقسّمهم لمجموعات، ونعرف أن كل مجموعة تطورت للأخرى بمعدل زمني ونمط تشريحي محدد يمكن لنا دراسته وتفحصه في المعامل، لكننا نرى المجرات حولنا في الكون في مرحلة واحدة ثابتة، لا يمكن لنا أن نرى طفولتها مثلًا؛ لأن ذلك كان قبل مليارات عدة من الأعوام، كذلك تنمو المجرات ببطئ شديد للغاية بحيث أن عمر الواحد منّا ربما لا يمثل حبة رمل في صحراء نموّها، يصعب ذلك على الباحثين سبر أغوار تكون المجرات الأولى في الكون.

آلات الزمن

على الرغم من ذلك، تتيح لنا أداة -غاية في البساطة والقوة بنفس الوقت- أن نرى صورًا لماضي الكون والمجرات الأولى، إنها التلسكوبات. ولفهم تلك النقطة، دعنا نتخيل أن شعاع الضوء هو صديق قادم من مدينة أسيوط جنوبي مصر، لنقلِ خبر وفاة أحدهم في الإسكندرية شمالًا، حدثت الوفاة في 09:00  مساء السبت، لكنك لن تعرف عنها أي شيء، وسوف تظن أن هذا الشخص ما زال حيًا حتى يصلك الخبر عند 05:30 مساء الأحد حينما يصل صديقك إليك، هذا هو ما يحدث بالنسبة للمجرات، والنجوم كذلك وكل شيء ، فحينما تتأمل مجرة تبتعد عنّا 2.5 مليون سنة ضوئية، فإن ما وصلك الآن هو الخبر -شعاع الضوء- الذي خرج منها منذ 2.5 مليون سنة، قد يكون هذا النجم أو تلك المجرة قد انفجرا الآن وانتهى وجودهم لكن لا يمكن أن تعرف ذلك لأن الخبر انطلق حالا في رحلته وسوف يحتاج إلى 2.5 مليون سنة ليصل إليك، لن نكون موجودين لنسمعه إذن.

التلسكوبات إذن هي آلات الزمن التي تسمح لنا برؤية ماضي الكون، فكلما حصلنا على تلسكوبات أكبر وأدق، تمكنّا من النظر بدرجة أعمق في جوانب الكون من حولنا، فنرى مثلًا مجرة على بعد 500 مليون سنة ضوئية فنعرف أن ما نراه هو تاريخها قبل 500 مليون سنة، كلما تعمقنا أكثر وصلنا إلى جذور الكون بشكل أكبر، فإذا مثلا رصدنا مجرات على بعد 13 مليار سنة ضوئية، فنحن الآن نرصد شعاع الضوء الذي خرج منها بينما كانت طفلة قيد التكوين، هذا هو ما يعطينا بعض المعرفة عن طفولة المجرات، لكن هنا يطرح سؤال آخر نفسه على طاولة النقاش، إذ كيف نعرف المسافة بيننا وبين تلك المجرات في المقام الأول؟

خريطة للمجرات في الكون من حولنا تم تعليم أجرامها لوميًا حسب قياساتنا للإنزياح الأحمر المجرّي (هارفرد)
خريطة للمجرات في الكون من حولنا تم تعليم أجرامها لوميًا حسب قياساتنا للإنزياح الأحمر المجرّي (هارفرد)

   هناك عدة طرق يستخدمها الفلكيون لقياس المسافة بيننا وبين المجرات الأخرى، أشهر تلك الطرق هو ما نسميه الانزياح الأحمر المجرّي(2) (Cosmological Red Shift)، وهو قياس الطيف الصادر من المجرات البعيدة لتحديد سرعتها ثم إضافة السرعة لمعادلة هابل وإخراج المسافة منها؛ حيث إن ادوين هابل حينما بدأ بقياس سرعة انحسار -ابتعاد- المجرات عنّا (Recessional Velocity) كان ما وصل إليه هو واحد من أكثر نتائج علم الكونيات غرابة، فقد اكتشف أن هناك علاقة بين سرعة المجرات -تلك التي قاسها- والمسافة بينها وبيننا، فكلما كانت المجرة أبعد كانت سرعتها أكبر، لكي نفهم سر تلك الأحجية دعنا نتأمل التصميم المرفق.undefined

لنتخيل أن هناك مجموعة من المجرات المسافة بين كل منها هي 1 كم، بالطبع لا توجد مجرة تقع على بعد كيلومتر واحد من الأخرى لكن دعنا نقبل بذلك للتسهيل. وبما أن الكون يتمدد، فإن هناك ابتعاد بين كل مجرة والمجرة الأخرى، حيث لو كان الكون هو خط مستقيم، فإنه ما بين كل نقطة ونقطة فيه سوف تظهر نقطة جديدة، ثم تظهر أخرى ما بين النقط الجديدة والنقط القديمة… وهكذا.

هنا -في مدة زمنية محددة، لتكن ساعة واحدة- تتضاعف المسافة بين كل مجرة والأخرى، لكن بالنسبة للمجرة س فإن المجرة التي تليها والتي كانت تبتعد مسافة 1كم أصبحت تبتعد مسافة 2كم، أما تلك التي تبتعد مسافة 2 كم في الحالة الأولى فقد أصبحت تبتعد 4 كم، وهكذا كلما ابتعدت المجرة ارتفعت قيمة بُعدها عنّا في نفس الفترة الزمنية، مما يجعل المجرات الأبعد، أسرع.

كلما كانت المجرة، إذن، أكثر ميلًا للطيف الأحمر كانت أكثر سرعة وبالتالي أبعد في المسافة، وبذلك يمكن لنا عمل تصميم كامل ثلاثي البعد يوضح لنا المسافات بيننا وبين كل المجرات التي نعرفها بحيث نتعرف على مراحل تطورها خطوة بخطوة، لكن حينما نحاول عمل مسح سماوي، عبر ماسح سلون الإجمالي(3)(Sloan Digital Sky Survey لرصد توزيع المجرات في الكون حاليًا نجد أنها لا تتوزع بانتظام وإنما تتخذ شكل خيوط (جدران مسطّحة) مترابطة معًا وفراغات شبه خالية من المجرات فيما بينها، يشبه الأمر قطع الأسفنج، في نقط التقاء تلك الخيوط معًا نجد التجمعات المجرية الكثيفة والتي تحتوي على آلاف المجرات، هذا هو ما نسميه الشبكة الكونية(4) (Cosmic Web).

ما تراه هنا هو عملية مسح لمواضع حوالي مليون مجرة في السماء، اكتشف الفلكيين أن توزيع المجرات في الكون يتخذ شكل شبكة (Cosmic Web) أو نمط اسفنجي، كما تلاحظ فإن كثافة المجرات تقل كلما انتقلنا لمسافة ابعد، ذلك لأن قدرات تلسكوباتنا تضعف كلما دخلنا في أعماق الكون (مواقع التواصل)
ما تراه هنا هو عملية مسح لمواضع حوالي مليون مجرة في السماء، اكتشف الفلكيين أن توزيع المجرات في الكون يتخذ شكل شبكة (Cosmic Web) أو نمط اسفنجي، كما تلاحظ فإن كثافة المجرات تقل كلما انتقلنا لمسافة ابعد، ذلك لأن قدرات تلسكوباتنا تضعف كلما دخلنا في أعماق الكون (مواقع التواصل)

بالفعل، تظهر لنا المجرات البعيدة للغاية عنّا في صورة بدائية غير منتظمة ما تزال قيد التكوين، في الحقيقة تمكن التلسكوب العظيم هابل في سنة 2016 من التقاط صور لأقدم المجرات بالفعل، وهي المجرة(5) "GN-z11" والتي تقع على بعد 13.4 مليار سنة ضوئية، فقط بعد 400 مليون سنة من الانفجار العظيم، ما يعني أننا التقطنا صورة للمجرة بينما كان عمر الكون حوالي 3% من عمره الآن، وقد كانت أقدم المجرات قبل تلك حول 13.2 مليار سنة ضوئية، لكن، هل تمكنّا أن نرى ما هو أقدم من ذلك؟

المجرة
المجرة "GN-z11″، كما ترى ، فهي تظهر في صورة بدائية غير منتظمة لا تزال قيد التكوين (ناسا)

عوالم مظلمة

نعم، لكننا لم نرصد مجرات بعينها، لفهم تلك النقطة سوف نحتاج أن نرجع للزمن بالوراء حتى لحظة الانفجار العظيم(6) (Big Bang)، فعلى مدى حوالي 300-400 ألف سنة من بعد الانفجار العظيم لم تكن درجات الحرارة العالية تسمح بأن تتكون الذرات الأولى، فقط كنّا أمام حساء جسيمات (Particle Soap). في البداية كانت كل الجسيمات الأولية مفردة غير مرتبطة، بعد ذلك حينما اتسع حجم الكون وانخفضت درجة الحرارة قليلًا تكونت البروتونات والنيوترونات الأولى من الكواركات، ثم تكونت أنوية الذرات الأولى، ثم في النهاية اتحدت الإلكترونات السابحة مع الأنوية لتكون الذرات الأولى، وبدأ الكون في مستوى جديد من اللعبة.

قبل تكون تلك الذرات الأولى كانت الإلكترونات السابحة تعمل كأنها حاجز ممتع يمنع الفوتونات من الانطلاق، في اللحظة التي تكونت فيها الذرات الأولى نقول أن الكون قد انتقل من المعتم للشفاف، هنا انطلقت الفوتونات الأولى في طريقها -الزمكاني- ناحيتنا، ثم استطعنا التقاطها لنكون ما نسميه إشعاع الخلفية الكونية الميكروي(7) (Microwave Background)، ما يعني أننا نلتقط صورًا للكون فقط حينما كان عمره .003% من الآن، هذا الإشعاع الذي يمكن أن يعطينا خريطة توضح لنا توزيع المادة والطاقة في الكون في لحظات مبكرة جدًا من بدايته، سوف تساعدنا تلك الخريطة في فهم الكثير

إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (ناسا)
إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (ناسا)

     

أحد مركبات الكون الأساسية هي المادة المظلمة والتي تمثل 25% من تركيب الكون و70% للطاقة المظلمة بينما يتبقى للمادة التي نعرفها 5% فقط 7% منها تتواجد في المجرّات، وكلاهما -المادة والطاقة المظلمة(8)- هو شيء لا يمكن لنا رصده، لكننا نرصد أثره؛ فجاذبية المادة التي نعرفها لا تتمكن من تشكيل المجرات مثلا، وبدون المادة المظلمة سوف يتكون الكون من كميات مهولة من النجوم المبعثرة؛ حيث إن النجوم في أطراف المجرات تجري بسرعات أكبر من تلك التي يجب أن تسمح بها قوانين الفيزياء، وبالتالي من المفترض أن تفلت منها؛ لكن ذلك لا يحدث.

لنفس السبب نكتشف أن حالات التعدس الجذبوي(9) تتكون بشكل أقوى في مناطق ليس من المفترض أن تفعل فيها ذلك، ونرى أن تجمعات المجرات تكتسب كتلًا أكبر من مجراتها المفردة، تعطينا كل تلك الدلائل الرصدية تأكيدًا على أن هناك نوع ما من المادة، لا يشع أي شيء، ولا يتفاعل مع الضوء أو المادة؛ لكنه يؤثر على الأشياء جذبويا فقط، ماذا عن الطاقة المظلمة؟

هنا سوف نعود إلى ادوين هابل الذي -بذكاء شديد- استخدم الانزياح الأحمر المجري لتفسير تمدد الكون في وقت كان الجميع فيه -بما فيهم ألبرت أينشتين- يحاول أن يثبت أن الكون مستقر، حينما نحاول رصد تمدد الكون نجد أنه يتسارع عن ذي قبل، وتلك مشكلة غريبة، إذا كان الانفجار العظيم قد دفع الكون للتمدد بالفعل، فلم لا تقل سرعته مع الوقت كأي شيء آخر؟ يشبه الأمر أن تلقي بقطعة طوب إلى الأعلى، سوف تقل سرعتها بالتدريج إلى أن تصل إلى صفر ثم تبدأ في النزول مرة أخرى بفعل الجاذبية، لكن ماذا لو وجدت أن سرعتها تزداد كلما ارتفعت؟

في تلك الحالة سوف تتصور أن هناك شيئا ما يدفعها للأعلى، هذا هو ما نسميه "الطاقة المظلمة"، وهي نوع لا نفهمه من الطاقة يتزايد مع الزمن ويدفع المزيد من الفضاء للتكون بشكل متسارع، يعتبر بعض العلماء أن الطاقة المظلمة هي فقط إحدى خصائص الفراغ؛ حيث يتمكن من خلال طاقته الخاصة أن يخلق المزيد من الفراغ، كذلك يربط البعض ما بين الطاقة المظلمة وبين الطاقة الناتجة عن التموج الكمومي، وتهتم مجموعة أخرى بالتعامل معها كمجال من نوع مختلف يملأ الكون كله، لكننا في كل الأحوال لا نعرف أي شيء عنها بعد.

فجر الكون

نمتلك الآن بعض المعلومات الهامة التي يمكن أن نستخدمها لصياغة نموذج يشرح تكون المجرات الأولى، فنحن نعرف عن توزيع المادة والطاقة في الكون في لحظات مبكرة جدًا، ونعرف كم وتأثير المادة والطاقة المظلمة في الكون، ولدينا قاعدة بيانات ضخمة من تلسكوبات عديدة لمجرات من فئات عمرية مختلفة يمكن من خلالها عمل مسح سماوي لرصد توزيع المجرات في الكون حاليًا، سوف نضع كل ذلك في نموذج حاسوبي واحد لنرى ما يمكن أن يحدث، تأمل هذا المقطع القصير.

ما تراه أمامك هو نموذج محاكي يشرح تطور ما نسميه هيكل واسع النطاق(10) (11) (Large Scale Structure) للكون على المستوى الكلّي، وهو ما وصلت إليه عمليات النمذجة التي قام بها الفلكيين بعد استخدام البيانات التي تحدثنا عنها خلال التقرير، ما كان مفاجئًا هو أن عمليات المسح السماوي لأعداد مهولة من المجرات كانت قد رصدت بالفعل تركيبة مشابهة للحالة النهائية لهذا النموذج.

يشرح النموذج الذي عرضناه في الفيديو منذ قليل أنه ربما للمادة المظلمة دور في تكوين المجرات الأولى؛ حيث إنها -وهي صاحبة الكم والتأثير الجذبوي الأكبر في الكون- هي ما دفع المادة العادية في الكون- وهي الكم الأقل- للتجمع بالمقام الأول في أشكال خيطية ما بينها فجوات كالأسفنج، كانت تلك الدفعة هي ما جمع الغاز والغبار الكوني المبكر مع بعضه البعض، بسبب ذلك الاندفاع تكونت مناطق كانت فيها كثافة المادة أكبر من غيرها، تكدست كمّيات الغاز والغبار معًا لتصنع النجوم ثم المجرات الأولى في تلك المناطق وسحبت جاراتها بقوى الجذب، لا حاجة لنا في الإسهاب هنا، حيث يشرح هذا التصميم الممتع من جامعة برينستون كيف تكونت تلك المجرات الأولى:

   هناك احتمالان أساسيان يشرحات تكون المجرات الأولى، فإما أن المجرات تكونت مرة واحدة من الغاز والغبار، أو أنها تجمعت في البداية بأحجام وكتل شبيهة بالتجمعات العنقودية Globular Clusters ثم تجمعت تلك الكتل فصنعت المجرات، يميل الفلكيون إلى الفرضية الثانية والتي بالمثل تشرح كيفية تجمع المجرات في مجموعات ثم مجموعات أكبر وهكذا.

بعد ذلك، اتخذت المجرات أشكالها التي نعرفها اليوم، هناك عدة أنواع نعرفها من المجرات تظهر في تقسيم هابل(12) الشهير بالتصميم المرفق، كانت المجرّات الحلزونية هي ربما أوّل المجرات التي تكونت في الكون، نلاحظ ذلك حينما نرصد نجومها فنجد أنها لازالت شابة، أما المجرات الإهليلجية (البيضاوية) فيُنظر لها على أنها أكثر الأنظمة تطورًا في الكون، فحينما نرصدها لانجد فيها من الغاز والغبار ما يمكن أن يصنع نجومًا جديدة، بينما نجد أن نجومها تميل للون الأحمر، إنها نجوم عجوزة.

  undefined

نعرف من هنا أن المجرات الحلزونية هي ربما مرحلة الشباب في عمر المجرة، تكبر بعد ذلك لتصبح مجرات إهليلجية والتي تمثل الآن 60% من عدد المجرات التي نعرفها في الكون، بينما حينما نرصد المجرات في نطاقات زمنية أقدم نجد نسب المجرات الحلزونية أكثر، في الحقيقة لقد انتهى الكون من تكوين نجومه الجديدة بنسبة 90% بالفعل، نحن إذن في نهاية الرحلة ربما ولسنا في أولّها، لكن، كيف تتحول المجرات الحلزونية لإهليلجية؟

أكثر النماذج تفسيرًا لتلك الحالة هو عملية اندماج(13) (14) المجرّات معًا، نحن نعرف مثلًا أن الجارة أندروميدا تقترب منّا وسوف تلتقي بدرب التبانة بعد حوالي أربعة مليارات من الأعوام ونصف، سوف يتسبب ذلك في تكون مجرة بيضاوية ضخمة، يمكن لتلسكوباتنا أن ترصد مجرات تصطدم ببعضها البعض، وهو أمر شائع في رصدنا لسماء الليل، لكن نحتاج أن نوضح أنه ليس في كل الحالات سوف تتصادم مجرتان صغيرتان لتصنعا معًا مجرة اهليلجية كبيرة.

على بعد 300 مليون سنة ضوئية يمكن أن نرصد هذا الإندماج بين مجرتي NGC4676، التجمع الذي سمي
على بعد 300 مليون سنة ضوئية يمكن أن نرصد هذا الإندماج بين مجرتي NGC4676، التجمع الذي سمي "الفأر" بسبب ذلك الذيل إلى اليسار والذي سببته قوى المد Tidal Force بين المجرتين، سوف تتحد المجرتان معًا لصنع مجرة أكبر، نحن ننظر الآن إلى مستقبلنا (مواقع التواصل)

تفتح تلك النماذج الحالية حول علاقة المادة المظلمة وتوزيعها بتطور الكون من المراحل الأولى إلى الآن بابًا أمام الفيزيائيين والفلكيين من كل العالم لجمع المزيد من البيانات وتطوير نماذج حاسوبية لمحاكاة تطور الكون بصورة أكثر دقة وتتفق مع النتائج بشكل أكبر، كذلك ينتظر العالم خلال السنوات العشرة القادمة افتتاح مجموعة(15) من أضخم التلسكوبات على الكوكب والتي سوف توسّع معرفتنا بشكل أكبر بالكون من حولنا، حيث سوف تمكننا مراياها الاضخم من الغوص بشكل أكبر في أعماق الكون المنظور، سوف يمد ذلك من أفق رؤيتنا بشكل لم نتصوره من قبل، وهي عادة العلم أن يُبهرنا، أن يستثير فضولنا لما يمكن أن نعرفه في المستقبل.

تظل المادة/الطاقة المظلمة هي أكبر أسرارنا إلى الآن، يدور المجال البحثي في علم الكونيات ربما بالكامل حول ماهية تلك الكيانات التي لا يمكن أن نراها بينما تتحكم في كل شيء بالكون، نطرح على ذواتنا أسئلة أخرى هنا تميل إلى الجانب الفلسفي، إذ لم يميل الكون بالكامل لاتخاذ نفس النمط الخيطي الذي تعلمناه منذ قليل؟ لماذا تتخذ قطع الأسفنج نفس النمط الذي تتخذه توزيعات القرى والمراكز والمحافظات في خريطة دولة ما بينما يتخذ توزيع المجرات في الكون نمط مشابه؟ ما سر تلك الوحدة؟

حسنًا، كانت تلك رحلة طويلة للغاية، نتحدث هنا عن حوالي 13.8 مليار سنة تقريبًا، من الفوتونات الأولى المنطلقة من قلب العتمة حتى توزيع هابل للمجرات، من مجرّات طفلة ما زالت قيد التكوين حتى مجرّات شابة ذات نجوم يافعة. نعم يا صديقي، إنه ذلك الشعور الغريب الذي يغمرنا دائمًا بعد التعرف إلى عوالم الظاهرة الطبيعية خارج ذواتنا، لكل شيء ميلاد وموت، كل شيء يبدأ حياته طفلًا وينتهي عجوزًا، حتى الكون نفسه سوف يصل إلى نهاية، ذلك إلى الآن هو قانون كوني لم يتخطاه شيء.

المصدر : الجزيرة