شعار قسم ميدان

السيناريو الملحمي لاصطدام مجرتنا بجارتيها

midan - Milky Way

كل شيء يتغير، ربما تلك هي القاعدة الوحيدة التي لم نجد لها استثناء حتّى الآن، نحن نولد ونموت، تتجدد خلايانا بشكل مستمر، تتغير الحياة على الأرض وتتنوع، تحوّل الشمس في الثانية الواحدة ما مقداره 600 مليون طن من الهيدروجين إلى 594 طنا من الهيليوم، في كل لحظة تولد النجوم وتموت، تظهر المجرات وتتطور وتصل إلى نهاية أعمارها، تتحرك مبتعدة عن بعضها البعض بفعل تمدد الكون المتسارع حتّى يأتي يوم لا نرى في السماء مجرة واحدة، مجرتنا نفسها تتغير، وتقترب يوما بعد يوم من نهايتها، لكن تلك النهاية سوف يصاحبها ميلاد جديد، وتلك بالفعل حكاية تستحق التأمل، لكننا لفهمها نحتاج بعض المقدمات.

 

نحن نسكن في مجرة درب التبانة، وهي مجرة قطرها مئة ألف سنة ضوئية، ما يعني أننا لو أطلقنا شعاعا ضوئيا من أحد طرفي المجرة فسوف يأخذ 100 ألف سنة حتى يعبرها، وتعيش درب التبانة مع رفيقاتها في المجموعة المحلية (Local group)، وهي مجموعة من المجرات تسكن بالقرب من بعضها البعض، أقرب تلك المجرات لنا هي المرأة المسلسلة(1،2) (Andromeda) التي ربما تحتوي على تريليون نجم، ثلاثة إلى أربعة أضعاف نجوم مجرتنا، وضعف قطرها، وتبتعد عنا حوالي 2.5 مليون سنة ضوئية، والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة، وتساوي تسعة تريليونات ونصف من الكيلومترات، لتخيل تلك المسافة دعنا نفترض أن درب التبانة هي طبق سلطة صغير، سوف تكون المرأة المسلسلة إذن هي طبق أرز أكبر على بُعد مترين ونصف إلى الأعلى قليلا في طرف الغرفة الآخر.

 

جميل جدا، الآن لنبدأ من المحامي الذي عشق علم الفلك ففتح لنا أوسع أبواب الكون، حيث ساعد اكتشاف وجود متغيرات قيفاوية في مجرة المرأة المسلسلة (Andromeda) إدوين هابل على تحديد المسافة بيننا وبينها بدقة، وذلك لأن المتغيرات القيفاوية(3) (Cepheid Variables) هي نجوم يتغير حجمها بانتظام، وبالتالي يتغير لمعانها في السماء، اكتشفت هينريتا ليفيت في بدايات القرن التاسع عشر أن معدل تغير تلك النجوم يتناسب مع لمعانها (Luminosity)، وتوصلت لعلاقة يمكن من خلالها الوصول إلى المسافة بيننا وبين هذا النجم عبر قياس الفارق بين لمعانه المطلق (لمعانه على مسافة 32.6 سنة ضوئية) واللمعان الظاهري (اللمعان كما نراه على الأرض).

  

صورة من تلسكوب هابل توضح التغير في لمعان متغير قيفاوي، لاحظ ذلك التغير في اللمعان بالصور الصغيرة بين 17 (ديسمبر/كانون الأول) و 26 (يناير/كانون الثاني) التالي (مواقع التواصل)
صورة من تلسكوب هابل توضح التغير في لمعان متغير قيفاوي، لاحظ ذلك التغير في اللمعان بالصور الصغيرة بين 17 (ديسمبر/كانون الأول) و 26 (يناير/كانون الثاني) التالي (مواقع التواصل)

  

حينما قاس هابل المسافة التي تقع عندها تلك المتغيرات القيفاوية من أندروميدا وجد أنها أكبر مما يمكن أن نتصور لنجم يقع في مجرتنا، ومن هنا اكتشفنا أن "المرأة المسلسلة" ليست مجرد سديم ملقى به في سماء مجرتنا درب التبانة، لكنها مجرة أخرى منفصلة كمجرتنا، استمر هابل في أبحاثه ليصل إلى نتائج أخرى استثنائية عن تمدد الكون وابتعاد المجرات عن بعضها البعض عبر قانون هابل المعروف، لكن في تلك الأثناء ظهرت مشكلة صغيرة.

 

المرأة المسلسلة تقترب من درب التبانة وليس العكس، حيث من المفترض أن الكون يتمدد وأن المجرتين تبتعدان عن بعضهما البعض، لكن هنا يتدخل الفيزيائي الفلكي فرانز كان (Franz Kahn) مع الفلكي الألماني لودفيج فولتر (Lodewijk woltjers) بما نسميه "حجة التوقيت"(4) (Timing Argument) لتفسير ذلك بأن كلا من درب التبانة والمرأة المسلسلة مرتبط جذبويا، حيث نشأت المجرتان معا في بداية تكونهما كنظام مجري ثنائي، ورغم قدرة التمدد الكوني على إبعادهما عن بعضهما البعض فإن الجاذبية كانت أقدر على ضمهما مرة أخرى، تقترب المجرتان بسرعة تقترب من(5) 300 كيلومتر في الثانية الواحدة، يشبه ذلك أن تسافر من أقصى شمال مصر إلى أقصى جنوبها في ثلاثة إلى خمسة ثوان فقط.

  undefined

 

ورغم تلك السرعة المهولة فإن رحلة المرأة المسلسلة سوف تحتاج إلى 4 مليارات سنة تقريبا لكي تصل إلى هنا، وعلى مدى سنوات طويلة لم يكن أحد يعرف بالضبط شكل السيناريو الذي سوف تلتقي به وخلاله المجرتان، لكن في(6) 2012 تمكن فريق من هابل بقيادة رونالد فان دير ماريل -بعد دراسة تمتد من 2002 إلى 2012 عبر التلسكوب هابل لنجوم المجرة- من إعطاء أوّل وصف دقيق يتنبأ بآلية ذلك اللقاء الملحمي، خلال المرحلة القادمة من تقريرنا سوف نشرح بدرجة من التفصيل مراحل ذلك النموذج الجديد من الصور(7) التي صممها الفريق البحثي، لذلك يمكنك أن تربط أحزمة الأمان، وتتجهز لرحلة زمنية طويلة.

  undefined

 

دعنا نبدأ بالمشهد الذي يمكن أن نراه الآن في السماء (الصورة إلى اليمين)، في ليلة حالكة بعيدة عن إضاءة المدن يمكن لك أن ترى المرأة المسلسلة بعينيك كغيمة صغيرة إلى جانب النجم "ميوμ" من كوكبة المرأة المسلسلة، إلى جانب حزام مجرتنا كما ترى، كذلك يمكن لك استخدام كل من مربع الفرس الأعظم (Great Square Of Pegasus) أو حرف (W) الشهير من الكوكبة "ذات الكرسي" (Cassiopeia) لكي تصل إليها بسهولة عبر تلسكوب صغير، رغم تلك الدرجة من الخفوت فإن المجرة تمتد في السماء بما يساوي قطر عدة أقمار في طور البدر، لكن أطراف المجرة لا تظهر للعين المجردة بسهولة، أنت فقط ترى مركزها المضيء، لكن بعد ملياري سنة من الآن سوف تقترب أندروميدا (الصورة إلى اليسار) بحيث يصبح ممكنا أن نرى كافة أجزاء جسمها المضيء بوضوح، وسوف تضيء الليل ربما كقمر خافت قليلا.

  undefined

 

نحن الآن بعد 3.75 مليار سنة، لا نعرف إن كانت ما زالت هناك حياة على الأرض أم لا، لكن كما تلاحظ (الصورة إلى اليمين) فقد وصلت أندروميدا بالفعل متجهزة لارتطام بمستوى شبه متعامد على مجرتنا، بل إن الأذرع الخارجية لها كما ترى قد انجذبت قليلا ناحيتنا بفعل قوى الشد (Tidal Force) بين المجرتين، يحتاج الأمر إلى مئة مليون سنة إضافية كي تبدأ المجرتان في التداخل (الصورة إلى اليسار)، حينما يحدث ذلك تبدأ السحب البين-نجمية في المجرتين بالتصادم.

 

سوف يولّد ذلك الالتحام موجات صدمية تدفع بالغاز والغبار للتراكم ويساعد ذلك على تكون النجوم الجديدة في شكل تجمعات بمعدلات أسرع كثيرا من المعتاد، لقد أصبحت مجرتنا في مرحلة من عمرها تُدعى "مجرة انفجار نجمي" (Starburst Galaxy)، اللون الأحمر في الصورة يشير إلى نشوء النجوم الجديدة، إنه الهيدروجين وقود النجوم، لمزيد من التفصيل عن تلك المرحلة من حياة المجرات يمكن لك الرجوع إلى تقرير سابق بعنوان(8) "دليلك إلى المجرات المتفجرة".

  undefined

 

دعنا الآن نسافر 50 مليون سنة إلى الأمام، تحديدا عند 3.9 مليار سنة من الآن، كما تلاحظ (إلى اليمين) فإن هناك لونا أزرق بدأ يظهر بوضوح في الصورة بجانب اللون الأحمر، ذلك لأن وجود الغاز والغبار البين نجمي الكثيف في المجرتين سوف يساعد على تكوّن نجوم عملاقة زرقاء اللون وغاية في السخونة تتخطّى حاجز المئة كتلة شمسية، لذلك تكون قصيرة العمر لأنها سوف تحرق هيدروجينها سريعا، وتعمل تلك النجوم الناشئة الجديدة على تأيّن الهيدروجين وإنشاء مناطق(9) هيدروجينII شاسعة المساحة والغنية بالهيدروجين المتأيّن، والتي بدورها تساعد على تكون نجوم جديدة بمعدلات أسرع، أضف إلى ذلك أن تلك النجوم العملاقة سوف تنفجر لصناعة مستعرات عظمى شديدة الأثر على سحب الغبار المجاورة.

 

بعد ذلك (الصورة إلى اليسار) وعلى مدى حوالي 200 مليون سنة سوف تمتلئ السماء بكم مهول من التجمعات النجمية، النجوم الزرقاء، والسدم الملونة، المجرتان بالفعل بعد 4 مليارات سنة قد التحمتا معا جزئيا، لتخيل المشهد يمكن أن تتصور أننا أخذنا تلك المنطقة التي تظهر ملونة في صور حزام المجرة بين كوكبتي القوس والعقرب وقمنا بتلوين كل السماء بها، نعم، سوف نحصل على حفل ألعاب نارية ملون في كل مكان ننظر فيه.

  undefined

 

ها قد اقتربنا من نهاية الرحلة، نحن الآن بعد 5 مليارات سنة تقريبا، نواتا المجرتين تقتربان من بعضهما البعض بسرعة (الصورة إلى اليمين)، كما تلاحظ فقد انتهت مرحلة التفجر النجمي، واستُهلكت السحب البين نجمية بالكامل تقريبا في صناعة النجوم الجديدة، في مركز مجرة درب التبانة يسكن ثقب أسود عملاق(10) (Supermassive black hole) يُدعى "القوس أ" (Sagittarius A)*، وفي مركز المرأة المسلسلة نجد تجمعين من النجوم المكدسة، الأول هو الأكثر لمعانا ويسمى "بي 1" (P1)، والثاني هو "بي 2" (P2) وهو الأكثر خفوتا ويتواجد تماما في مركز المجرة وبه ثقب أسود عملاق كذلك.

 

سوف يحتاج الأمر إلى ملياري سنة إضافية (الصورة إلى اليسار) لكي يلتحم كل من هذين الثقبين الأسودين العملاقين في مركزي المجرتين معا لصنع مجرة واحدة بيضاوية "اهليلجية" بثقب أسود عملاق مركزي بكتلة 10 ملايين شمس، يحدث ذلك الالتحام عبر ما نسميه "الاحتكاك الديناميكي"(11) (Dynamical Friction) بين النجوم  في المجرتين، وهو ما يجعل المادة تغرق باتجاه مركز المجرة الجديد ويجعل المدارات حول النجوم عشوائية. هذه العملية تُدعى بـ "التمدد العنيف" (Violent Relaxation)، وهي ما يظن العلماء أنه السبب في تحول المجرتين الحلزونيتين (أندروميدا ومجرتنا درب التبانة) مجرة بيضاوية واحدة، ها نحن ذا قد وصلنا إلى نهاية الرحلة بعد 7 مليارات سنة من الآن.

 

 

أما عن مجرة المثلث(12) (Triangulum Galaxy) التي تبتعد حوالي 3 ملايين سنة ضوئية عنّا فسوف تنضم إلى تلك الحفلة بعد أن تتم، هناك عدة تصورات بشأنها ولا نجد إلى الآن تأكيدا على صحة أي منها، الأول هو أن تتخذ المجرة مدارا حول المجرة الجديدة المتكونة من اندماج درب التبانة وأندروميدا، والثاني هو أن تنضم للاندماج، والثالث هو أن تندمج مجرة المثلث مع درب التبانة قبل وصول المرأة المسلسلة، في النهاية يتضح أنه ما زال لدينا الكثير من المفاجآت والعروض المدهشة لنراها من أي موقع نتخذه في درب التبانة، كنّا على الأرض أو غيرها من الكواكب، هنا ربما سوف نتطرق إلى سؤال آخر مهم، ما الذي سوف يحدث للشمس؟

 

فقد يظن البعض(13) أن هذا الارتطام الملحمي سوف يفجر كل شيء، لكن ذلك لن يحدث، حيث إن المسافات بين النجوم شاسعة للدرجة التي تجعل من تصادم المجرتين أقرب إلى التداخل، لذلك فإن ما سيحدث هو فقط إلقاء المجموعة الشمسية في مدار آخر حول المجرة، أما بالنسبة للحياة على الأرض فمن غير المحتمل وقتها أن تكون موجودة بالأساس، لأسباب كثيرة تحدثنا عنها في تقرير سابق(14) بعنوان "لماذا يجب علينا أن نرحل من كوكب الأرض؟".

 

منذ قرن مضى لم نكن على علم بأن المرأة المسلسلة هي مجرة منفصلة تماما عن مجرتنا، لكن قياسات إدوين هابل استطاعت أن تبين المسافة الشاسعة ما بيننا وبينها، الآن نعرف أنها قادمة لتلتقي بنا في المستقبل السحيق، في الحقيقة يدعو ذلك إلى التأمل، إذ كيف سوف يكون شكل الكون وقتها؟ أين سنذهب؟ لقد اتخذت الحياة ما يقرب من أربعة مليارات من الأعوام لتصل إلى الشكل الذي نعرفه الآن، كيف إذا سوف يكون شكلها بعد أربعة مليارات أخرى؟ هل سوف يتذكرنا أحد؟ هل سوف يتذكر أحد حروبنا؟ نرجسيتنا؟ صراعنا التافه من أجل الخوف أو المصلحة أو المكانة أو الانتقام؟ لا أظن.

المصدر : الجزيرة