شعار قسم ميدان

أخلاقيات بيولوجية.. هل يخضع الطب للأخلاق أم العكس؟

midan - cover
لماذا يحتاج الطب إلى فلسفة؟ حسنا، قد يبدو السؤال غريبا بعض الشيء، فجميعنا يعرف أن الطب هو الممارسة التشخيصية العلاجية للمرض، والمرض هو -ببساطة- مرض، السرطان مرض، السكري، الضغط، العجز الجنسي… إلخ، تصيبك نزلة برد فتذهب إلى الطبيب ويعطيك وصفة تساعدك على تجاوزها، والأمراض تحتاج إلى علاج سواء لإنهائها تماما أو لتنظيمها إن كانت مزمنة، لذلك فالتساؤل عن الحد الفاصل، مثلا، بين الصحة من جهة والمرض من جهة أخرى هو كالسؤال عن الحد الفاصل بين الظل والنور هناك على الأرض، إنه شيء من الوضوح بحيث لا نحتاج إلى التفلسف فيه، أليس كذلك؟!

 

نعم، ليس كذلك في الحقيقة، فالأمر قد يكون أكثر تعقيدا هنا، لكن لفهم ذلك دعنا نتعرف إلى وجهتي نظر فلسفيتين1 رئيسيتين تعرّفان المرض في فلسفة الطب، الأولى هي الطبيعانية (Naturalistic) (يمكن كذلك أن نسميها، بغرض التبسيط فقط، الموضوعية)، تلك التي ترى أن المرض هو أمر بيولوجي بحت، ولا مجال لتدخل الأحكام القيمية (Value-Free) لتحديد ما المرض وفي الجهة المقابلة ما الصحة، بمعنى أنه لا يمكن للظروف الاجتماعية المحيطة بحالة بيولوجية ما أن تقرر إن كانت مرضا أم لا، المرض هو حالة بيولوجية صرفة.

 

ثم في المقابل من تلك الوجهة توجد البنائية (Constructivism)، والتي تقول إن الطبيعة البيولوجية وحدها لا يمكن أن تحكم على كون ظاهرة بيولوجية ما مرضية أم لا، ولكن تتدخل معايير قيمية (Value-Laden) تتعلق بالتقييم العام للفرد ضمن بيئة محددة تختلف عن غيرها، بمعنى آخر فإن هذا التوجه يسمح بالمعايير المجتمعية للحكم في قضايا الصحة والمرض. بالطبع تبدو تلك الوجهة الأخيرة غريبة بعض الشيء للوهلة الأولى، لكن لفهم المشكلة التي نواجهها هنا دعنا نبدأ بعرض أحد أشهر المنهجيات الطبيعانية/الموضوعية في النظر إلى المرض، إنه التوجه الإحصائي، وتشتهر منه النظرية الإحصائية ( bio-statistical theory)، والتي يتزعمها كريستوفر بورز2 (Christopher Boorse’s)، فيلسوف الطب والبيولوجيا الأميركي من جامعة ديلوير.

     

ما المرض؟!

تقول تلك الوجهة إن المرض هو ببساطة كل شيء يتدخل في أداء الوظائف الحيوية للكائن الحي التي تساعده أن يحيا ويتكاثر من أجل تمرير جيناته، وبالتالي فإن المرض هو شيء ليس من "طبيعة" الكائن الحي. لكن تحديد "الطبيعي" هنا يخضع بالأساس -حسب ذلك التصور- للطبيعة الإحصائية للتنوع الحيوي بين الأفراد، بمعنى أننا سوف نراقب أداء عضو ما، الكلية مثلا، أو المعدة، أو الكبد، أو الرئة، في مجموعة كبيرة من البشر ثم ندوّنها ونرسم مخططا بيانيا للأرقام التي نحصل عليها، هنا سوف يظهر شكل الجرس الشهير (منحنى التوزيع الطبيعي3 normal distribution curve) ممثلا لتلك التنوعات، في المنتصف يمثل الشكل الجرسي متوسط النسبة الطبيعية، بينما على طرفي هذا الشكل توجد مجموعة تنفّذ فيها هذه الأعضاء وظائفها بشكل أكبر أو أقل من الطبيعي بفارق واضح، تلك المجموعة هي مجموعة المرضى.

        

undefined

     

بتلك الطريقة يعرّف4 كريستوفر بورز "الصحّة" على أنها "ما ليس مرضا"، ويرسم الحدود الفاصلة بوضوح بين الصحة والمرض على منحنى التوزيع الطبيعي قائلا إنها المنطقة المظللة بعد الانحراف المعياري الثاني من المتوسط، كما يظهر في الشكل البياني، بحيث يمثل نطاق المرض ما مقداره 4.55% (مجموع جانبي منحنى التوزيع الطبيعي) فقط حينما نقيس المعايير الوظيفية لعضو، أو نسيج، أو خلية ما، ويمثل الطبيعي نحو 95.5% من البشر ضمن هذا النطاق.

      

الفكرة إذن إحصائية فقط ، شكل العضو، وحجمه، ونسب الهرمونات والمواد الحيوية الأخرى، والمعايير المهمة كضغط الدم ومعدل ضربات القلب، كل ذلك يخضع لمنحنى التوزيع الطبيعي الخاص به في كل البشر، لكن حينما نحاول مثلا أن نقيس نسبة هرمون التوستيستيرون (هرمون الذكورة) في كل البشر فحتما لن نستطيع إخضاع كل من الذكور والنساء للمقياس نفسه، هنا نقول إن هناك شيئا يحدد ذلك الشكل الجرسي، فمثلا نقول إن الوظيفة الطبيعية لعضو ما توجد ضمن هذا النطاق في منحنى التوزيع الطبيعي "للرجال"، وضمن هذا النطاق "للنساء"، وهكذا…

   

عقبات في الطريق

لكن هنا تظهر مشكلة جديدة5، فمثلا نجد أن البشر، بعد تخطي حاجز عمري محدد، يكونون أكثر تعرضا لأمراض كالخرف (Dementia)، بالتالي سنضطر لتحديد فئة عمرية ما حينما نقوم بقياس وظائف الدماغ مثلا، وإلا سيعني ذلك أنه سيكون هناك مصابون بدرجات كبيرة من الخرف ضمن الفئة الطبيعية، لأن أعدادهم تزيد مع العمر بينما يقيس شكل الجرس نسبة ثابتة ويعتبرها مرضا، بالتالي سنضع أداة تحديد جديدة تتعلق بالعمر كما حدث مع النوع، المشكلة نفسها تعرضنا لها حينما تحدثنا من قبل في تقرير "الفياغرا.. حبة زرقاء صغيرة غيرت وجه العالم" عن الضعف الجنسي واعتباره مرضا من عدمه ضمن فئة عمرية محددة، لكن ماذا عن التغذية؟

       

undefined

   

بعض المجتمعات تتلقى رعاية وتغذية صحية أكبر من مجتمعات أخرى، بل يمكننا أن نقارن بين درجات الرعاية الصحية والتغذية الصحية بين البشر الآن والبشر قبل 500 سنة، لو استخدمنا الطريقة المعيارية نفسها الخاصة ببورز فإن هناك ظواهر بيولوجية بعينها سوف تكون مرضا الآن لكنها قبل فترة من الزمن لم تكن كذلك6، أو العكس، أضف إلى هذا أن معيار بورز هنا يشمل أشياء لا تعد أمراضا من الأساس، فمثلا الشامات الحميدة على جلدنا توجد بنسب مختلفة في البشر، لو خضعت لمنحنى التوزيع الطبيعي لأصبحت نسبة من البشر "مريضة" بوجود تلك الشامات في أجسامها، لكن ذلك غير صحيح بالطبع.

      

خذ أمراض اللثة مثلا، والتي تصيب نحو 47% من الناس، هنا سوف نسأل كيف يمكن إخضاعها لتلك الـ 4.55%؟ كذلك فإن هناك مشكلات تتعلق بمجموعات محددة من البشر، الرياضيون مثلا تنخفض لديهم معدلات ضربات القلب عن الطبيعي، ورغم أن ذلك يُعدّ مؤشرا على حالة صحية أفضل فإن منهج كريستوفر بورز هنا يضعه ضمن المنطقة المظللة من منحنى التوزيع الطبيعي، وإذا تعمقنا قليلا في تحليل تلك النقاط وضرب مجموعة من الأمثلة الأخرى سوف نجد أننا نضطر لوضع عدد لا نهائي من المحددات لنموذج بروز بحيث لا ينغلق القوس الخاص بالاستثنائات أبدا، فنقول مثلا إن تلك الحالة مرضية في حالة كان رجلا، من خلفية إثنية ما، ضمن فئة عمرية ما، يمارس الرياضة، من مجتمع نسب الفقر فيه "كذا"، سنة "كذا"، … إلخ.

     

بالطبع يصمد هذا النموذج الطبيعاني أمام الكثير من تلك التحديات، فمثلا يفرق بروز7 ما بين المرض (Disease) والاعتلال (illness)، فيقول إن الأخيرة تعني وجهة نظر المريض، فهناك أمراض لا تُعدّ اعتلالات، أي لا يحتاج المريض أن يزور الطبيب بسببها، كالشامات على الجلد، وهناك أمراض تستدعي ذلك، ما يعني أن المرض تقييم معياري فقط، لكن رغم ذلك لا يصمد هذا النموذج، في صورته المطلقة، أمام الكثير من الحالات، والتي تتساءل جميعها عما نسميه "الحد الفاصل" بين الصحة والمرض، أين يمكن أن نرسمه؟

      

undefined

   

ما الطبيعي؟

لتحقيق فهم أفضل لتلك النقطة دعنا نتأمل دراسة عرضية صدرت فقط قبل عدة أشهر في مجلة8،9 "Trends in Cognitive Sciences" لفريق من جامعة ييل يحاول أن يتقصّى ما يعنيه أن نقول عن ظاهرة نفسية ما إنها طبيعية، فبجانب مشكلة أن هناك متّصلا بين حالتين مثاليتين يمثل مجالا واسعا من التغيرات المتدرجة من هذا إلى ذاك، الحالة الصحيحة تماما والمرض الكامل، بجانب ذلك فإن بعض المشكلات، أو قُل "بعض ما نصنّفه مشكلات طبية"، قد يكون مفيدا للتكيف في المجتمعات، لأغراض تطورية.

  

خذ مثلا القلق، فرغم ما قد يسببه من قلق اجتماعي وعزلة للبعض من الناس لكنه قد يدفع البعض الآخر إلى الإنجاز في بيئات العمل وتحقيق نتائج أفضل، هو كذلك ما يدفعك -في بعض الأحيان- إلى الإنجاز بشكل أفضل في امتحانات آخر العام، وبذلك يكون درجة ما من صفة ينظر إليها على أنها غير طبيعية قد تكون ضرورية لتكون "طبيعيا". بالتالي فإنه، في بعض المناطق الرمادية الفاصلة بين المرض والصحة، يمكن أن تلعب الظروف المحيطة دورا في جعل صفة ما مرضا أو غير ذلك، من هنا تنطلق فرضية أبرام هولمز ورفاقه من مؤلفي هذا العرض البحثي للقول إنه حينما يأتي الأمر للتحدث عن الحد الفارق بين الصحة والمرض، في الأمراض النفسية والعصبية، فهناك مشكلة كبيرة، بالتالي لا يمكن أن تساهم صفة جينية أو سلوكية واحدة، أو حتّى نطاق بحثي واحد، في تحديد الخط الفاصل، بل نحن في حاجة إلى تقييم أكثر شمولا من هذا.

      

ولفهم أوضح للمشكلة التي تواجه النظرة المعيارية هنا يمكن أن نتأمل "أنيميا الخلايا المنجلية"10 (Sickle cell anemia) مثلا، وهو نوع من الأنيميا الانحلالية ظهر بسبب طفرة في الجين المسؤول عن تكوين الهيموجلوبين في البشر، بحيث تفقد كرات الدم الحمراء قدرتها على حمل الأكسجين وتتغير إلى شكل المنجل، من تلك الوجهة -الإضرار بالنمط الطبيعي لحياة البشر وتكاثرهم- يمكن اعتبارها مرضا بلا شك، لكن العجيب أن هذا الجين الجديد صاحب الطفرة يتسبب في أن الأشخاص الذين يحملون على الحمض النووي الخاص بهم نسخة واحدة منه تظهر لديهم مقاومة للملاريا، بالتالي نجد أنه في وسط أفريقيا، موطن انتشار الملاريا، يعتبر وجود نسخة من هذا الجين على أحد شريطي الحمض النووي هو شيء ضروري للإبقاء على صحة المواطنين، هنا نسأل: من وجهة النظر تلك.. هل يمكن أن نعتبر جين أنيميا الخلايا المنجلية عطلا في جينات مواطني وسط أفريقيا؟!

    

  

وجهات نظر أخرى

حينما نقول جملة "من وجهة النظر تلك" في حديثنا فإننا -بدرجة ما- نضغط على أساس الفكرة الموضوعية التي تقول إن المرض هو مرض من كل وجهات النظر، لذلك، في الجهة الأخرى الأكثر مرونة، يحاول لينارت نوردنفيلت11 (Lennart Nordenfelt)، الفيلسوف السويدي، أن يعرض حلا لمشكلات نموذج كريستوفر بروز عبر تقديم نظرية كليّانية (Holistic Theory) جزئيا للتفرقة بين الصحة والمرض، فيقول إن هناك مستويين لتعريف هذا الفارق، في المستوى الأول ننظر إلى الجانب التحليلي، فنفكك الكائن إلى كميات وأرقام تمثل أعضاءه، كلٌّ على حدة، حسب نموذج بروز، لكن هناك مستوى كلّي ننظر خلاله إلى الكائن كوحدة واحدة، ننظر إلى قدرات تلك الوحدة، وأهدافها لتحقيق السعادة، ضمن بيئة محددة، ونطاق زمني محدد.

      

على الرغم من ذلك تتعرض تلك النماذج، سواء التي تقدم حلولا وسطية لمشكلات النظرة الطبيعانية، أو تلك التي تقدم رفضا مباشرا لها قائلة إن المرض هو حالة بنائية تخضع بالأساس للمعايير الاجتماعية، للنقد من جهات عدة، وبحجج مقبولة، والمشكلة هي أن نطاق فلسفة الطب ما زال حديثا، كما أن مشكلاته أكثر اتساعا من غيرها في نطاق فلسفة العلم، كفلسفة الفيزياء مثلا، بحكم اتساع نطاق الطب نفسه في الجانب التجريبي، أقصد طبيعة تلك العلوم التي تواجه بدورها مشكلات قصور تحديد12 (Underdetermination) تجريبية.

     

بالطبع نتحدث هنا بدرجة واسعة من التبسيط بغرض توصيل فكرة رئيسية تقول إن أمرا بتلك البساطة والوضوح قد لا يبدو كذلك إن اقتربنا قليلا منه وتأملنا تعقده، وذلك التفلسف في موضوعات كالصحة والمرض ليس درجة من درجات الرفاهية العلمية كما يعتقد البعض، بل له دور مهم في تحديد نطاقات السياسات الصحية التي قد تتخذها دولة دون أخرى مع سكانها. هنا، على مستوى أعداد ضخمة من السكان، قد يتسبب انتقال بفارق 1% للداخل أو للخارج قربا أو بعدا عن المتوسط في وظيفة عضو ما في تحريك عدد ضخم من البشر ضمن نطاق التأمين الصحي، أو خارجه.

       

undefined

   

قضايا شائكة

كذلك تتدخل فلسفة الطب في محاولات للحكم في بعض القضايا ذات الجوانب السياسية والاجتماعية، خذ مثلا قضايا المثلية الجنسية، فبغض النظر عن إشكالية كونها درجة من درجات التنوع البيولوجي، أو عدم إمكانية علاجها كحالة طبية، فإن تعريفها كمرض من عدمه قد يدخل ضمن نطاق فلسفة الطب، فمثلا، وحسب نموذج بورز، تعتبر المثلية الجنسية مرضا بحكم وقوعها ضمن فئة الـ 4.55% في منحنى التوزيع الطبيعي، لكن بورز، كما قلنا، يفرق بين الاعتلال والمرض، وهو هنا يقول إن المثلية الجنسية قد لا تكون اعتلالا ولكنها مرض، من جهة أخرى تتدخل نظريات مقابلة لتقول إن المثلية الجنسية ليست مرضا.

   

في تلك النقطة يمكن أن نتأمل، مثلا، أحد النماذج المعروفة في تعريف الحد الفاصل بين المرض والصحة، نموذج ريتشل كوبر13 (Rachel Cooper) الفيلسوفة من جامعة كامبريدج، والذي يحدد المرض ضمن نطاق معايير تتضمن أن نقول إن المرض هو شيء سيئ وغير مقبول، ويضاف إلى ذلك أن يكون المرض هو شيء قابل للعلاج طبيا، هنا يُعاد تعريف المثلية الجنسية على أنها ليست مرضا ضمن نطاق قيمي، وبالطبع يتعرض نموذج كوبر كذلك للكثير من التساؤل حول ما يعنيه أن يكون الشيء "سيئا" أو "يمكن علاجه"… إلخ.

    

إذن فتحديد ما هو مرض وما هو ليس مرضا لا يخضع فقط للمشكلة البيولوجية، أو الطبية، البحتة، وإن كان ذلك الجانب الفلسفي لا يضع بشكل إجباري حدود القوانين التي يعمل بها الأطباء والباحثون في معاملهم، ولكنه يعطينا فرصة لتأمل نقاط تظهر فيها علاقات حرجة بين نطاقات لم تكن يوما لتتصور أن تجتمع معا، كالطب مع السياسة، مع الاجتماع والفلسفة، ويعلّمنا كذلك أن هذا السؤال البديهي الذي يقول "لماذا يحتاج الطب إلى فلسفة؟" له عدد أكبر من توقعاتنا من الإجابات، بل إنه يطرح بدوره المزيد من الأسئلة في أدمغتنا حول ما يعنيه أن تكون طبيعيا، أو ألا تكون كذلك، خاصة حينما يشير أبرام هولمز صاحب الورقة البحثية التي تحدثنا عنها قبل قليل، بشكل أو بآخر، إلى أنه "من الطبيعي أن تكون غير طبيعي بعض الشيء"!