شعار قسم ميدان

معجزة المجموعة.. النحل وصناعة عقل للتنظيم يفوق عقول أفراده

النحل

 

اضغط للاستماع

       

في الربيع، وأثناء موسم التكاثر، تترك ملكات نحل العسل الأوروبي أعشاشها، ويغادر معها آلاف الأفراد، في رحلة قد تجدها غاية في الغرابة، حيث يبقى جزء من المجموعة مع الملكة للعمل على حمايتها من الأذى أثناء الرحلة، بينما يتخذ الجزء الآخر قرارا مهما بشأن أفضل مكان تعشيش متاح، وما يحدث في تلك المرحلة هو حدثٌ في الحقيقة، يدعو للتأمل، حيث يجد أحد أفراد المجموعة موقعا ما، ليكن فتحة في شجرة ما، أعلى أحد المنازل، أو أيا كان، فيعود من جديد للقطيع كي يحاول إرشاد البقية إلى المكان المقترح عبر لغة خاصة عن طريق الرقص، نعم، إنها رقصة الهز(1) (Waggle Dance).

النحل الراقص

الرقص هو لغة النحل، مدة الرقصة وشدة الاهتزاز وزوايا الحركات هي ما يحدد المعاني في تلك اللغة، وبذلك فإن النحل يُظهر إحدى الصفات المهمة للغة وهي صفة الإزاحة (Displacement)، أي أن نستطيع استخدام اللغة للتواصل حول أشياء ومعاني ليست حالية في الزمن أو المكان، إذا كان العش المحتمل قريبا من القفير تكون الرقصة دائرية في اتجاه عقارب الساعة، وإن كان بعيدا تكون على شكل رقم 8. كذلك، في أثناء الرقص، إذا كان اتجاه جسم النحلة لأعلى أثناء الرقص فالمنزل الجديد في اتجاه الشمس والعكس صحيح، ولكل سلالة من سلالات النحل رقصات خاصة، لكن الأمر لا يتوقف هنا، فنحن الآن أمام مشكلة جديدة، لنقل مثلا أن خمسة من الكشّافين قد وجدوا خمسة أماكن مناسبة، كيف يمكن أن تختار المجموعة بين هذه الأماكن؟

هنا يظهر سلوك اجتماعي جديد لم نكن نتصور وجوده، حيث يعمل كل من الكشافين الخمسة على دعوة المجموعة للذهاب إلى المكان الذي اكتشفه عن طريق رقصه خاصة تحدد مكانه، هنا يقوم هذا الكشّاف بإقناع مجموعة من النحل أن مكانه هو الأفضل بطريقة تشبه إلى حد كبير اصطلاحا سياسيا نعرفه جميعا، الديمقراطية، فتذهب تلك المجموعة إلى الموقع وتعود من جديد، إذا اقتنع عدد كبير من الأفراد بالموقع الجديد فإنهم يذهبون لتفقده ويعودون لإقناع المزيد، وهكذا حتّى يبلغ عدد الأفراد الذين يذهبون لتفقد المكان الجديد نصابا محددا(2)، هنا يتوقف الجدل ويُحسم الأمر بأن هذا هو العش الجديد.

 

في كل مرة نتعلم عن عالم النحل سوف نتعجب حقا، لكنّ باحثين من جامعة شيفيلد(3) البريطانية قد أخذوا ذلك إلى مستوى جديد، لكن لفهم ما توصلت إليه تلك المجموعة، والتي نشرت ورقتها البحثية قبل عدة أيام في الدورية الشهيرة نيتشر(4) (Nature)، دعنا نرجع إلى عالمنا، عالم البشر، لنفترض أنك تحمل في يديك كيسا بلاستيكيا به تفاحتان يزنان معا نصف كيلوجرام فقط، ودون أن ترى قمنا بوضع تفاحتين إضافيتين بالوزن نفسه لهذا الكيس، هل سوف تشعر بذلك الوزن الجديد؟

 

بالطبع سوف تشعر بثقلهما واضحا، لكن ماذا لو وضعنا تفاحتين إضافيتين في كيس تحمله، لكنه هذه المرة لا يحتوي على نصف كيلوجرام فقط من التفاح، بل خمسة كيلوجرامات من التفاح، هل سوف تشعر بالفارق المضاف إلى الكيس؟ هنا قد لا تشعر بتلك الإضافة، ورغم أنها الإضافة نفسها التي تزن نصف كيلوجرام في الحالتين، فإن إدراكك لإضافتها كان مختلفا في كل مرة عن الأخرى، هنا سوف نسأل باستغراب: ما الذي يحدث هنا؟

تفاح

 

قوانين للنفس

يسمى ذلك بقانون فيبر(5) (Weber’s law)، أو قانون "العتبة الفارقة"، وتعني العتبة الفارقة هنا تلك النقطة التي يمكن عندها أن نميز بين مؤثرين من النوع نفسه، فمثلا في لعبة التفّاحات كان المؤثران هما ثقل كيس التفاح قبل وبعد إضافة التفاحتين، ويشير القانون إلى أن هناك حدا أدنى يمكن أن نلاحظ بعده هذا الفارق، لكنه ليس حدا مطلقا، بمعنى أنه ليس فقط (نصف كيلو تفاح) في كل مرة، لكنه يتعلق بالفارق بين المؤثر السابق والمؤثر الجديد، وهو دائما يجب أن يكون نسبة ثابتة، فكلما ارتفع وزن التفاح السابق بالكيس احتجنا إلى عدد أكبر من التفاحات المضافة كي ينتبه حامل الكيس للإضافة الجديدة.

 

يشمل ذلك مؤثرات أخرى كشدة الضوء أو الصوت مثلا، وتقع القوانين مثل العتبة الفارقة ضمن فرع من علم النفس نسميه(6) (Psychophysics) السايكوفيزياء، ويشمل تلك المجموعة من القوانين التي تربط حالتنا العقلية بالحالات البدنية، فمثلا يشير قانون هيك-هايمان7 (Hick-Hyman’s Law) إلى أن الوقت الذي يحتاجه الشخص لكي يتخذ قرارا ما يزيد بزيادة عدد الخيارات أو المعلومات المتاحة، ولا نقصد هنا فقط الوقت الذي يتخذه الشخص للمفاضلة بين الخيارات، ولكن الوقت الذي يحتاجه لكي يبدأ في الاستجابة لوجودها بالأساس، ويتأثر ذلك بعدة عوامل، العمر مثلا، كلما كان الإنسان أكبر في السن كان أكثر بطئا في التفاعل مع المثيرات.

undefined

 

يتبع ذلك قانون آخر يسمى قانون بييرون(8) (Piéron’s Law) والذي يقول إن متوسط الوقت اللازم للتفاعل مع مؤثر ما ينخفض بارتفاع شدة المؤثر، يمكن فهم ذلك ببساطة حينما نقارن بين استجابتك لصوت عادي ولصوت مرتفع جدا، كلما ازداد ارتفاع الصوت سوف تستجيب بسرعة له، كذلك في شدة الضوء، أو الحرارة، أو حتّى درجة مرارة الطعام، ويجمع تلك القوانين، وغيرها من القوانين السايكوفيزيائية، أنه يمكن صياغتها في معادلات رياضية وبناء تجارب لإثبات صحتها عبر ملء جداول البيانات ومقارنتها بالقوانين، هنا يتدخل الفريق البحثي ليربط بين عالمين غاية في الابتعاد عن بعضهما البعض، عالم النحل وعالم البشر.

 

مستعمرة من نحل على قلب رجل واحد!

ما نعرفه هو أن تلك القوانين التي تربط بين المؤثر والاستجابة ليست حصرية على البشر فقط، بل يمكن أن نراها في مدى واسع من التعقد في الكائنات الحية بداية من الأميبا، ومرورا بالأسماك والطيور وبقية الثدييات، لكن الجديد في الأمر هو إمكانية أن تنطبق على "كائن خارق" (Superorganism)، ولا نعني بهذا الاصطلاح أي شيء له علاقة بشركة مارفل وأفلامها عن الأبطال الخارقين بقيادة الكابتن أميركا، لكننا فقط نطلق هذا اللفظ على مجموعة من الكائنات الحية من النوع نفسه والتي تتفاعل معا بشكل تعاضدي، أي إنها تحقق فائدة أكبر بعملها معا من مجموع الفوائد التي تأتي نتيجة العمل المفرد لكل منها على حدة.

 

ولفهم أفضل لما نقصده حينما نقول "سلوك تعاضدي" دعنا نضرب مثالا بسيطا، لنفترض أن أحدهم يمتلك مصنعا صغيرا لإنتاج الملابس، يعمل في المصنع عامل واحد فقط، ينتج المصنع 50 قميصا في اليوم، هل تعتقد أن إضافة عامل آخر، سوف يرفع إنتاج المصنع ليصبح 100 قميص في اليوم؟ من الممكن فعلا، لكننا هنا نتجاهل فكرة أن أحد العمال من الممكن أن يحمّس الآخر على الإنتاج، أو ربما يدفعهما التنافس إلى العمل بطاقة أكبر، أو أنّ العلاقة بين كلّ منهما قد تتطور بحيث يتخصص كلّ منهما في صناعة جزء ما من القميص يبرع فيه، بينما يصنع الآخر جزءا آخرَ يبرع فيه، يمكن هنا أن نحصل على 125 قميصا في اليوم.

نحل

يعني ذلك إذن أنه أمكن لمجموعة من الأفراد أن يحققوا في المجموع نتائج أكبر مما يمكن أن يحقق كل منهم على حدة، في علوم التعقد(9) (Complexity Sciences) نسمي ذلك بظاهرة الانبثاق (Emergence)، ويعني ظهور صفة طارئة أو حادثة على منظومة معقدة (Complex System) تأتي من أثر تعاضد أفراد تلك المجموعة معا، وهي صفة لم تكن لتوجد لو كان كل منهم يعمل على حدة، نرى هذه الصفة واضحة في الأنظمة المعقدة على تنوعها، سواء كانت ضمن عوالم النمل أو النحل، أو كانت أنظمة بيئية، أو اقتصادية، أو سياسية حتّى.

 

دعنا الآن نعود للنحل كي نوضح ما اكتشفه الفريق البحثي، وهو أن تلك القوانين السايكوفيزيائية لم تنطبق على أفراد مستعمرة النحل بشكل فردي، ولكن على مستعمرة النحل ككل، ككائن واحد، أي إن هذا القطيع، أو المستعمرة ككل، استجابت كشخص واحد، للمؤثرات المتعلقة بقوانين فيبر، وهيك، وبيرييون، في أثناء اختيارها للعش الجديد، وعلى نحو مشابه للخلايا العصبية في الدماغ البشري، حيث لم يوجد فرد(10)، بشكل صريح، تظهر في أعماله البسيطة الديناميكيات التي تحدد تلك القوانين السايكوفيزيائية؛ بدلا من ذلك كانت المجموعة ككل التي تعرض مثل هذه الديناميات، بالضبط كما تتفاعل الخلايا العصبية في أدمغتنا لتحديد استجاباتنا للمؤثرات.

 

من نحن؟

النحل
   

بذلك، يفتح هذا التشابه(11) المرصود في الاستجابة للمؤثرات بين الدماغ والكائنات الحية الدقيقة، النحل هنا، الباب للمزيد من التعرف على السلوك الجماعي من خلال وجهات نظر بحثية جديدة تجمع بين علم الأعصاب ودراسات الذكاء الجماعي، ويمكن لتسليط الضوء على تلك المقارنات أن يساعدنا، ليس فقط على فهم كيف تعمل عوالم النحل، وبالتالي عوالم الحالات الاجتماعية العليا (Eusociality) في العموم، كالنمل مثلا، لكن أيضا يمكن أن يساعدنا في فهم كيفية عمل أدمغتنا، والأخير هو سؤال غاية في الصعوبة، فعلى الرغم مما وصلنا إليه من إنجازات في علوم البيولوجيا والطب، لكننا لا نعرف بوضوح كيف يعمل الدماغ.

 

لكن، في النهاية، دعنا لا نتوقع الكثير، بالطبع يتطلب الأمر المزيد من البحث لفهم تلك العلاقات بين عوالم الكائنات الخارقة، النحل مثلا، وأدمغتنا، وإن كانت هناك بالفعل الكثير من الفرضيات التي تشرح الدماغ البشري كنظام متعقد، وتحاول من خلال مقاربات حاسوبية أن تفسر آليات عمله، بل ويشير البعض إلى أن الوعي هو صفة طارئة (Emergent) على تلك المنظومة، لكن تلك الفرضية الأخيرة لم تتخط حاجز الفلسفة بعد، بل ربما يعد الوعي هو -إلى الآن- اللغز الأكبر في تاريخنا كبشر، ذلك الذي، بمقاييس مقارنتنا ما نعرف إلى ما نجهل، لم نتحرك قيد أنملة بعد في فهمه، لكن في كل الأحوال، سواء تحدثنا عن النحلات الراقصة، أو دماغنا المتعقد، فإن طبيعة الأشياء في هذا العالم، طبيعتنا، تدفعنا دائما إلى الكثير من التأمل والتساؤل عن: من نحن؟

المصدر : الجزيرة