شعار قسم ميدان

شياطين، دماء، ونهاية العالم.. لماذا خشي البشر القمر الدموي؟

midan -267-5-main

حينما وصل كريستوفر كولومبس إلى القارة الأميركية بعد رحلة طويلة، التقى في أثناء تنقلاته هناك بشعب الأرواك (Arawak)، وتفاجأ في الحقيقة كثيرا من كرم الضيافة والترحيب الذي وجده لدى السكان المحليين في تلك المنطقة التي نعرفها الآن باسم "جاميكا"، حيث وصل الأمر بهم أن تقاسموا معه، ومع رجاله، ما لديهم من طعام وممتلكات بسيطة، لكن بعد أن طالت إقامته هناك، مدة ستة أشهر، بدأت تلك الحالة من الترحيب تخفُت شيئا فشيئا، وانخفض حجم عطاياهم من الطعام، هنا لجأ كولومبس إلى حِيلة ذكية.

 

كان كولومبس على علم سابق1، عبر كتابات الرياضي والفلكي الألماني جوهانس مولر التي حملها معه، بأن خسوفا قمريا دمويا سوف يحل في وقت قريب، تحديدا في 29 فبراير/شباط للعام 1504، هنا طلب الالتقاء بقائد القبيلة، قبيل الخسوف، وقال له إن "إلهه" -يقصد إله كولومبس- قد غضب منهم لأنهم يمنعون الطعام عنه هو ورجاله، ولذلك فإن هذا الإله سوف يخفي القمر أو يشعله بنار الغضب خلال ثلاثة أيام، بعد ذلك حدث الخسوف فارتعب أهل القبيلة وطلبوا إلى كولومبس أن يتحدث مع إلهه لإيقاف الغضب، وبالطبع انتهى الخسوف القمري -بحكم طبيعته- وعاد القمر بلونه الأبيض المعتاد، ومعه عادت الأطعمة إلى رجال كولومبس، ونُفّذت أوامره.

   

كريستوفر كولومبس يخبر الجامايكيين بأن تنبؤاته كانت صحيحة وها هو الخسوف الدموي الذي يوحي أن إلهه كان غاضبا منهم 
كريستوفر كولومبس يخبر الجامايكيين بأن تنبؤاته كانت صحيحة وها هو الخسوف الدموي الذي يوحي أن إلهه كان غاضبا منهم 

    

نمر سماوي

قديما رفع البشر رؤوسهم إلى السماء ليلا بشكل دوري، حيث كانت لهم بأهمية الكهرباء لنا في العالم المعاصر مثلا؛ فاستخدموا نجومها لتحديد خط سير رحلاتهم، ولتنظيم مواسم الحصاد، وتوقع الطقس، فكان ظهور نجم خافت في الأفق قبيل شروق الشمس، يُدعى "البُطين"، يعني اقتراب الطقس الحار، أما ظهور نجم "الشعرى اليمانية" في الأفق فكان يعني اقتراب مواسم البرودة. وحسب تقاويم2 أسست نفسها على حركة النجوم والقمر والشمس في سماء الليل، أقام البشر حياتهم اليومية في جدول متزامن.

  

لهذا السبب تدخلت النجوم بكل شيء في حياتهم، تفاءلوا وتشاءموا بوجودها، بل وكانت قراراتهم بالسفر مثلا، أو بالزواج، أو بالعمل في مهنة ما، مرتبطة بموضع النجوم والقمر في أيام اتخاذ تلك القرارات. كذلك ربطوها بأساطيرهم ودياناتهم، ورسموا بين نجومها حكايات العدل، والغضب، والخيانة، والوفاء، ورد الجميل، وتأملوها وهم يحلمون بحياة سعيدة ومستقبل مسكون بالفرحة، لكنهم كذلك وضعوا فيها مخاوفهم من المجهول، فكانت كل الظواهر الطارئة والنادرة هي نذير حدث عظيم، كموت ملك، أو قدوم الحرب، أو انتقام من أهل السماء، إحدى هذه الظواهر هي خسوف القمر، بلونه الأحمر الدموي المرعب، والذي طالما كان ممثلا رسميا عن الشر!

 

فمثلا، تخيل الهنود الحمر، في إمبراطورية الإنكا3، أن أرواح الموتى قد تحولت إلى نمر سماوي ضخم غاضب يهاجم القمر أثناء الخسوف الكلّي ليأخذ قضمة منه، بالتالي يتسبب ذلك في إصابة القمر فتخرج الدماء لتصبغه باللون الأحمر، وكانت مخاوفهم أنه حينما ينتهي هذا النمر من أكل القمر فسوف يلتفت للأرض، لذلك كان الناس، حينما تحدث ظاهرة الخسوف، يلقون بالرماح ناحية القمر، ويصدرون الكثير من الضوضاء بأي طريقة ممكنة، حتّى إنهم كانوا يضربون كلابهم لتعوي بصوت مرتفع، عسى أن تتمكن تلك الضجة من إخافة هذا النمر وطرده، وهو ما كان يحدث بالفعل، لأن لكل خسوف نهاية بالطبع.

     undefined

    

أما شعب البومو، وهم السكان الأصليون لما نعرفه الآن باسم "كاليفورنيا" بالولايات المتحدة الأميركية، فقد تصوروا أن هناك دبا سماويا ضخما كان يسير في الحزام اللبني لمجرتنا "درب التبانة"، لكن في أثناء رحلته كانت الشمس واقفة في طريقه، وأبت أن تتحرك لتجعله يمر، هنا يتعارك معها الدب فتغطي بقايا هذا العراك وجه الشمس فتنكسف، وتعود كما كانت حينما يمر، ثم في طريقه يلتقي الدب بالقمر (مؤنث بالنسبة لهم، وهي أخت الشمس)، وكالشمس يرفض القمر أن يسمح للدب بالمرور، فتنشأ معركة أخرى يتلون خلالها القمر بالدم على أثرها، لكن الدب يمر في النهاية ليستكمل طريقه، ويعود من وقت لآخر كي تبدأ المعركة من جديد.

  

أفلام هندية مرة أخرى!

الآن دعنا نسافر إلى حضارة بلاد ما بين النهرين4، وكانوا قديما على علم بالحسابات الفلكية، فكان من الممكن لعلمائهم أن يحسبوا مواعيد الخسوفات القمرية بطريقة ذات دقة مناسبة، في أثناء ذلك كله كان لديهم معتقد أن الخسوف القمري هو نوع من الاعتداء على الملك، والذي كان يمثل "الأرض" بالنسبة لهم، لذلك، ومع اقتراب كل خسوف، كانت الطقوس تقضي بأن يتم استبدال الملك بشخص غير مهم، وأن يتنكر الملك في صورة فرد من عامة الشعب، بحيث يضرب اعتداء القمر هذا البديل فقط، ويبقى الملك الحقيقي في سلام إلى أن يمر الاعتداء كاملا، نقصد الخسوف القمري الدموي.

  

أما في الهند القديمة، فكان الأمر، حسنا، يشبه الأفلام الهندية المعاصرة، وتقول الحكاية5 إن مجموعة من الآلهة كانت تود أن تصنع "أكسير الخلود"، ولذلك استعانوا بمجموعة من الشياطين لكي تقوم بتقليب المحيط الكوني باستخدام أحد الجبال كعصا تقليب، وفي نهاية تلك الطبخة تتخثر السماء ويظهر كل من الشمس والقمر كنتيجة لتلك العملية، وكانت الآلهة، أثناء الاتفاق مع الشياطين، قد وعدتهم بأن تعطيهم من الإكسير، لكن بعد الانتهاء من الطبخ تنكر الإله فينشو في صورة امرأة، وسحر الشياطين، وسرق حصتهم من أكسير الخلود.

     

راهو يبتلع الشمس
راهو يبتلع الشمس

     

لكن الشيطان "راهو" أبى أن يبقى الوضع هكذا، فتسلل إلى معسكر الآلهة وأراد سرقة بعض هذا الإكسير، هنا يراه كل من الشمس والقمر، ويطلعان الآلهة بعملية التسلل، فيقوم "فينشو" باصطياده وقطع رقبته، لكن راهو شيطان لا يموت، لذلك يستمر حيًّا بعد قطع رقبته، ويقرر مطاردة كل من القمر والشمس في السماء عقابا على إخبار الآلهة بوجوده، إذا أمسك راهو بالقمر وابتلعه ينخسف ويتخذ لونا دمويا، وإذا أمسك بالشمس وابتلعها يخفيها فتنكسف. لكن الخسوف والكسوف ينتهيان، لأن رقبة راهو مقطوعة، وحينما يبتلع كلًّا منهما ينفلت من الفتحة في رقبته، ويعود للسماء من جديد، وهكذا يستمر راهو في مطاردة الشمس والقمر وابتلاعهما كلما سنحت الفرصة، لكنهما ينفلتان من رقبته المقطوعة.

  

وارتبطت بظاهرة الخسوف القمري طقوس عدة، فمثلا6 كان بوذيو التبت، وإلى الآن، يعتبرون أنه أثناء خسوف القمر تتضاعف أعمال الخير، والسيئات كذلك، عشر مرات، وفي جنوب القارة الأفريقية يعتبر الناس أن القمر والشمس، أثناء الخسوف، يتعاركان، لذلك فهو وقت للتسامح وإظهار الحب كي تراهم الأجرام السماوية فتفعل مثلهم، وفي الهند كان الناس، وما زال بعضهم، يتجنبون الطبخ والأكل والشرب أثناء خسوف القمر والشمس. فهم يعتقدون أن الغذاء يفسد بشكل أسرع في غياب ضوء الشمس، وقد يؤدي إلى عسر الهضم.

  

في العالم العربي

وفي بعض المناطق من الجزيرة العربية تصور الناس7 أن الحامل إذا لمست بطنها أثناء الخسوف فإن الطفل سيولد بنصف وجه أسود كالقمر المخسوف، أما إن حدث ذلك أثناء الكسوف الشمسي فسوف يولد الطفل بوجه أزرق اللون وجسد أحمر، وكان يُطلب من النساء الحوامل البقاء في بيوتهن لأن الخسوف قد يلعن الجنين، فيُولد مُشوّها، أو مجنونا، فكانت النساء أثناء الحمل إذا جاء الكسوف تلجأ إلى الغرف المغلقة، وإن اضطرت للخروج فتخرج منكّسة الرأس، ولا ترفع رأسها للقمر أبدا، بل وقد تضع بعضهن آنية بها ماء على سطح المنزل أثناء الخسوف ثم تستخدمه للاستحمام كي تتخلص من السحر، كانت تلك العادات منتشرة في الجزيرة العربية حتى عدة عقود فائتة، وما زال البعض القليل يعتقد بها إلى الآن.

  

وكانت الحكاية العربية تقول إن حوتا ما (هنا بصيغة المؤنث "حوتة") يطارد القمر، ويتحول لون القمر إلى الأحمر حينما يبتلعه هذا الحوت، هنا يخرج الناس للشوارع ويُصدرون أصواتا عالية سواء عبر الصياح أو دق الهاون أو الضرب على الأواني النحاسية أو أي شيء آخر لإخافة الحوتة وإرجاع القمر، فينتصر القمر وتهرب الحوتة ليعود السلام من جديد، تتخذ هذه الحكاية أشكالا سردية عدة في دول الجزيرة العربية المختلفة، وتختلف الأغاني المستخدمة كذلك، فيقول البعض8 مناديا أثناء الخسوف: "يا حوتة يا مكحوتة، قمرنا أكل الحوتة، والحوتة راحت مكحوتة"، والبعض الآخر في العراق: "يا حوته يا منحوته، هدي قمرنا العالي، وإن جان ما تهدينا لضربج بسجينه، هدي قمرنا العالي، هذا قمرنا الغالي"، وأيضا: "يا حوتة زوعي وردي القمر"، أو: "يا حوتة خلي قمرنا اسمعي دنين النحاسي".

    

    

أما في مصر، فقد اتخذت القصة خطًّا مشابها وإن كان يختلف قليلا، فقد تصور الناس9 أن الجن تخنق القمر (القمر مخنوق)، وتصور البعض أن بنات الحور، وهن من سكان النيل الغاية في الجمال، يمنعون ضوءه عنهم، ولذلك فكلما انخسف القمر خرج الناس للشوارع بالأصوات العالية قدر إمكانهم مغنين: "يا بنات الحور، سيبوا القمر يدور"، و"يا بنات الجنّة، سيبوا القمر يتهنّى"، وقبل عدة عقود من الزمن فقط كانت تلك الأغاني من التراث الشعبي لا تزال تملأ الشوارع، خاصة في قُرى مصر، أثناء ظاهرة الخسوف القمري، ويظل الناس يطوفون الشوارع ويغنون إلى أن تذهب "خنقة" القمر.

  

خسوف العقلانية!

كما ترى، فرغم الاختلاف الواضح بين الآلية التي تُسرد بها قصص الخسوف عبر تاريخ البشر، فإن هناك سمة رئيسية تجمع الغالبية العظمى منها، إنها حالة الرعب العارمة التي تجتاح الناس بسبب الخسوف القمري، وبالطبع يشير اللون الأحمر إلى شيء واحد نعرفه جميعا، إنها الدماء، لذلك أيضا اتخذ كوكب المريخ، الذي يلمع باللون الأحمر في سماء الليل، في الأساطير القديمة، موضع الإله آريس الذي اختص بالحرب والدماء، لكن رعب البشر من ظاهرة الخسوف تحديدا، والكسوف كذلك، ربما امتد إلى ما هو أعمق من ذلك كثيرا.

  

وهذا لأن الشمس والقمر، بالنسبة للبشر قديما، وقبل اختراع الكهرباء على أي حال، كانا مصدر الضوء الوحيد في السماء، كانا -ببساطة- مصباحي البشر، ما جعل امتناع هذا النور عن الناس مصدر رعب وتشاؤم أساسي، من هنا انطلقت كل تلك الحكايات الخائفة، أضف إلى ذلك أن السماء منتظمة، بمعنى أن دوراتها مستقرة، خذ مثلا تعاقب الليل والنهار، دورة الفصول الأربعة، دورة القمر كل شهر، وهي أشياء شبه ثابتة، ما دعا الإنسان للاعتقاد بالثبات كحالة طبيعية وأساسية على مر الزمن، لذلك فإن الحالات الطارئة والنادرة سوف تُثير انتباه الناس ومخاوفهم لا شك.

  

لهذا السبب، ومع تقدم الحضارة البشرية، وظهور الفلسفة ثم العلوم الفلكية، واتضاح آليات تلك الظواهر، انحسرت تدريجيا تلك الأساطير وانضمت إلى قوائم التراث الشعبي في بلادها، لكن على الرغم من ذلك ما زلنا نرى بعض الخرافات المرتبطة بظاهرة الخسوف، خذ مثلا ما نسميه بـ "نبوءة القمر الدموي"10 (Blood Moon Prophecy)، وقد استقاها البعض من الكتاب المقدس، تقول إن وجود أربعة خسوفات قمرية كاملة متتالية، بينهم ستة بدور، تزامنا مع الأعياد اليهودية، يعني بداية "نهاية العالم"، وما زالت تلك الخرافة منتشرة إلى حد ما، خاصة بعد أن شهد العالم أربعة خسوفات دموية بين عامي 2014 و2015.

    undefined

     

لكن، في النهاية، فإن ذلك لا يمكن بحال مقارنته بالوضع قبل، قُل، 100 سنة مثلا، وكلما تراجعنا بالزمن للخلف ازدادت الخرافة بصورة أكثر ترددا وحِدّة، لكن البشر كانوا دائما قادرين على التعلم. نعم، ضحّت مسيرة البشر بالكثير من أجل كل معلومة واحدة حصلنا عليها، لكنها كانت في كل خطوة أقرب للحقيقة، وأكثر تكيفا مع هذا الكون الواسع، ومع كل نتيجة علمية جديدة، كانت كشفا لجسيم دون ذري لم يكن من الممكن أن نتصور وجوده، أو نجم نابض على مسافة من الاتساع بحيث لا يمكن هضمها، كنّا يوما بعد يوم أكثر تأكّدا، كما يقول11 نيل أرمسترونج في حوار قبل صعوده للقمر: "إن مواجهة تحديات كتلك هو جزء من الطبيعة العميقة لأرواحنا كبشر، من الضروري أن نفعل ذلك كما هو ضروري لسمك السلمون أن يسبح ضد التيار".

  

وما يدعو للتأمل حقا، والتساؤل، والحزن كذلك، هو أننا نمر بفترة من تاريخ العالم يضرب الشك خلالها قواعد كل شيء تقريبا، بداية من العقلانية وصولا إلى أساسات العلم، ما أفقد البشر ثقتهم في ذواتهم، في قدراتهم، وهو ما رفع بدوره وتيرة الخرافات المؤامراتية (خذ مثلا، الأرض المسطحة والمجوفة)، وأعلى من صوت مروجيها، وألجأ الناس إلى الأخبار الكاذبة المنتشرة بصورة بشعة، والعلاجات بالطاقة والطب البديل وعلاج السرطان ببذور المشمش! بالتأكيد سنتجاوز ذلك يوما ما، لكن ما يُثير القلق دائما هو حجم الخسائر الممكن بعد معارك كتلك، كم سوف نفقد من الأفكار والأرواح في أثناء كل هذا التخبط؟