شعار قسم ميدان

هل أنت من عصافير الصباح الباكر أم بومات الليل؟

"للرجال من كل نوعٍ خصائصهم، ملامحهم المميزة، مزاياهم وعيوبهم وذنوبهم القاتلة. وبالنسبة لذئب البراري، كان الطواف حول أطراف الليل هو أحد هواياته المفضلة، كان الصباح وقتًا بائسًا بالنسبة إليه. كان يخافه، ولم يجلب له أي خير. في كل صباح في حياته كان في حالة معنوية سيئة، ولم يفعل أي شيء جيد قبل منتصف النهار، لم تكن لديه أية فكرة سعيدة، ولم يبتكر أية متعة لنفسه أو للآخرين. وبحلول فترة ما بعد الظهيرة، كان يتحمس وتدب في جنباته الحياة. وفي المساء فقط، في الأيام الجيدة، كان مثمرًا، نشطًا، وأحيانًا متوهجًا بالسعادة "

هكذا يصف هيرمان هيسّة، الكاتب الألماني ذائع الصيت، طبيعة يومه، في الصفحة السادسة والعشرين من رواية السيرة الذاتية الخاصة به "ذئب البوادي Der Steppenwolf"(1)، أحد أشهر أعماله والتي نُشرت في العام 1927، وهو الوصف الذي ربما سوف يتفق -بدقة مفاجئة- مع طباع البعض، حيث يعيش ككائن ليلي، يفضل الأجواء بعد التاسعة مساءًا، ينتعش خلال منتصف الليل، بل وربما يمتلك تركيزًا أفضل ويحقق إنجازًا في العمل لم يكن ليستطيع إنهاءه إلا في تلك الفترة من اليوم، ولا تضربه موجات التثاؤب، ربما، إلا بعد ظهور الشمس في الأفق، فينام بينما يصحو العالم من حوله.

يشيع أن نسمي البشر، من أصحاب هذا السلوك اليومي الساهر، بأنهم بومات الليل(2) night Owls (يتضح من الاسم سبب اختياره). وفي المقابل منهم سوف تلتقي بـ عصافير الصباح Morning Larks، وهي -على العكس تمامًا- المجموعة التي تستيقظ مبكرًا جدًا وتذهب للنوم في وقت مبكر جدًا أيضًا، هؤلاء لا يمكن لهم البقاء حتّى وقت متأخر، وتكون قمة نشاطهم وحماسهم وإنجازهم في أوقات صباحية للغاية، وتبدأ موجات التثاؤب معهم حول غروب الشمس. إذا كنت واحدا من العصافير أو البومات فأنت تعرف نفسك، لكن المشكلة التي تواجهنا حينما نتحدث، أو نتجادل، على الإنترنت، هي عن سبب تلك العادات، هل هو حتمي مكتوب في جيناتنا أم هي فقط حالة من التعود على سلوك ما لفترة طويلة يمكن تغييرها؟

إجباري أم اختياري؟

في تلك النقطة يمكن أن نبدأ من دراسة نشرت قبل حوالي عام واحد، في الدورية المعروفة(3) "Cell  سيل"، حاول خلالها الباحثون، من جامعة روكفيللر، تقصي الارتباط بين طفرة في جين يدعى CRY1، بـ 70 شخص هم أعضاء ست عائلات، واضطراب طور النوم المتأخر(4) (DSPD)، وهو خلل تنظيمي في الساعة البيولوجية الخاصة بعدد قليل من الناس يؤثر الأوقات التي يكون الإنسان فيها متيقظًا والأخرى التي يكون خلالها غير متيقظ، وبالتالي على المواعيد التي يجب أن يذهب فيها للنوم، أو يستيقظ خلالها، فيواجه المصابون بهذا الاضطراب صعوبة شديدة في الاستيقاظ مبكرًا، وإن اضطروا بسبب العمل أو الجامعة مثلًا إلى البقاء مستيقظين نهارًا فإنهم يشعرون بالنعاس الشديد Excessive Daytime Sleepiness والدوار الذي يشبه اضطراب الرحلات الجوية Jet Lag، لذلك تمت تسمية تلك الحالة بالفارق الاجتماعي Social lag.

تضمنت الدراسة(5) تجربة عاشت فيها امرأة أميركية في السادسة والأربعين من عمرها، اضطرت للذهاب إلى الطبيب من أجل الحصول على علاج لاضرابات النوم، تحت الملاحظة، لمدة 14 يومًا في غرفة مغلقة بدون ساعات أو نوافذ أو إنترنت أو أية طريقة لمعرفة الوقت، هنا نجد أن الخاضعة للتجربة قد نامت بشكل مجزأ وغير مستقر مع قيلولات قصيرة، وعندما قام الفريق البحثي بتحليل الحمض النووي الخاص بها وجدوا طفرة في جين يدعى CRY1، والتي ظهرت أيضًا في أفراد عائلتها الذين أبلغوا عن مشاكل في النوم، وعدة عائلات أخرى.

هذا الجين مسؤول(6) عن إنتاج بروتين يثبط عمل  مجموعة أخرى من البروتينات المسؤولة عن عمل الساعة البيولوجية الخاصة بالبشر، من تلك المجموعة بروتينات مسؤولة عن الاستيقاظ خلال النهار، وتتسبب تلك الطفرة في حذف جزء من ذيل الجين بحيث يصبح أكثر فاعلية عن طبيعته، في معظم الحالات التي تم فحصها ووجدت تلك الطفرة في الجين CRY1 فيها، كان الأشخاص ينامون في وقت متأخر من الليل (2 إلى 3 صباحًا) ويستيقظون كذلك في وقت متأخر.

ساعة.. بالداخل !

في كل الأحوال، فنحن نعرف أن هذا الإيقاع البيولوجي اليومي المعروف باسم الساعة البيولوجية، أو النظام اليوماوي(7) Circadian Rhythm، موجود في كل الكائنات تقريبا، وينظم وظائف أجسامها وخلاياها على مستوى طرفي ومركزي، في الثدييات توجد أداة التنظيم الرئيسة في منطقة نسميها النواة الفوق تصالبية (Suprachiasmatic Nucleus SCN) في منطقة الوطاء (Hypothalamus) من المخ، وهي ما ينظم الإيقاع اليومي لوظائف الجسم، حيث تلتقط الشبكية المحتوى الضوئي وترسل المعلومات إلى تلك النواة فتُزامن بدورها الوظائف الخلوية بشكل يومي عبر الهرمونات والجهاز العصبي الطرفي.

undefined

تتدخل تلك الساعات البيولوجية في كل شيء وليس فقط نمط نومنا، بل في درجات حرارة أجسامنا في أوقات متعددة من اليوم، وإفراز الهرمونات، وسلوكنا الغذائي، وآليات حرق الغذاء، والدهون، والطاقة في العضلات، وسلوكنا ودرجات انتباهنا، وإفراز الكورتيزول، والميلاتونين، والإنسولين، بذلك فإن فهمنا للآليات الدقيقة لتلك العملية سوف يفتح بابا واسعا لفهم العديد من الأمراض التي تصيبنا، كاضطرابات الشهية، ضغط الدم، السكري، اضطرابات النوم، الاضطرابات المزاجية والعقلية كالاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب واضطرابات الذاكرة.. إلخ.

وكانت هناك ميول سابقة لتوقع التدخل الجيني جزئيًا في الإجابة عن سؤال "السبب" الخاص بحدوث ذلك السلوك، وذلك لأن الإنسان الطبيعي لا يظل(8) على نفس النمط طوال عمره، بل نجد أن المواليد والطفال الصغار يميلون بطبيعتهم لأن يكونوا من "عصافير الصباح الباكر" مع فترات نوم قد تصل إلى 12 ساعة بحلول عمر المدرسة، بعد ذلك يتناقص هذا النمط تدريجيًا وبالوصول إلى المراهقة يتحول الطفل لبومة ليلية في معظم الأحوال، حتّى أنه يحبب إلى تلك المرحلة العمرية السهر للعب حتّى الصباح، مع فترة نوم يصل في معدلها إلى 10 ساعات يوميًا، يستمر ذلك حتّى عمر العشرين تقريبًا، بعد ذلك يتراجع هذا النمط مرة أخرى ليصبح الشخص أكثر ميلًا للاستيقاظ مبكرًا مرة أخرى كلما اقترب من فترة الشيخوخة.

لكن على الرغم من ذلك، فإنه ليست هناك توجهات بحثية تؤكد أن التحكم الكامل لعمليات مواعيد الاستيقاظ والخلود إلى النوم موجود فقط في يدي الجينات، وذلك لأننا نعرف أن الظروف البيئية، سواء المتعلقة بنمط الحياة أو بالبيئة الخارجية المحيطة بالشخص، لها أيضًا مجموعة من التأثيرات الواضحة تجريبيًا على نمط نوم الناس، تسمى تلك التأثيرات في مجملها بالمؤقتات Zeitgeber، ومنها مثلًا الطقس، كميات الضوء (الأشخاص الذين يتعرضون للضوء في المنزل يميلون للسهر مثلًا)، الأدوية التي يتلقاها الشخص، كان رياضيًا أم لا، التفاعلات الاجتماعية المختلفة، نمط الأكل والشرب اليومي الخاص به، وهنا يشير الباحثون إلى أن التأثير متبادل (بيئي/جيني).

حسنًا.. من أنت؟undefined

حسنًا، في تلك النقطة ربما سنتوقف قليلًا للإجابة عن السؤال الرئيس للبعض، هل يمكن أن أغير نظام نومي أم أنني مجبر عليه؟ لكن الإجابة عن هذا السؤال تتوقف بالأساس على ما نعرفه عن نسب بومات الليل أو عصافير الصباح بين الناس، حيث تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي صورة خاطئة عن أن البشر إما بومات ليل أو عصافير صباحية فقط، لكن هناك نوع ثالث أساسي، صاحب نمط النوم الطبيعي من البشر (ينام قبل 12 منتصف الليل إلى الصباح) يمثل(9) 80% تقريبًا من الناس، بينما تقع المجموعة الباقية على جانبي منحنى التوزيع الطبيعي الخاص بنمط النوم.

نقول ذلك لأنه يبدو أن الغالبية من الناس، كما نرى في وسائل التواصل الاجتماعي بالوطن العربي بعد انتشار أخبار عن بومات الليل وعصافير الصباح الباكر، على ما يبدو، يصنفون أنفسهم تلقائيًا على أنهم "بومات ليل" وكأن الأمر حتمي بشكل ما، إلا أن ما نعرفه هو أن هؤلاء من المفترض أنهم يمثلون فقط نسبة قليلة من الناس، ليس ذلك فقط ولكن كلما تطرفت مواعيد الاستيقاظ والخلود للنوم، كأن يسهر الشخص طوال الليل مثلًا حتى الصباح، كانت النسب أقل بفارق واضح، لتصل إلى .2% فقط من الناس، ما يعني أنه، نعم، قد تتواجد حالات لا يمكن لها بسهولة أن تغير من نمط نومها، إلا أن معظم الناس يمكن لهم الحصول على قدر كاف من النوم بين 11 مساءًا و7 صباحًا بلا مشكلات واضحة، ويعني ذلك بدوره أن سلوك النوم لأغلب هؤلاء الذين يتحدثون على السوشيال ميديا هو فقط عادة تسبب فيها نمط حياته الاجتماعي، ويمكن تغييرها مع بعض الجهد إن أردت.

والفكرة المهمة هنا هي أن البعض يروج، بطريقة كتابات التنمية البشرية، أن العباقرة فقط، أو أصحاب الإنجازات الكبيرة، هم من يستيقظون قبل الخامسة صباحًا ليؤدون التمارين الرياضية ويمارسون التأمل أو يقرأون كتب التنمية البشرية، وكانت تلك الكتابات قد انتشرت قبل فترة من قبل مجموعة من روّاد الأعمال المشاهير، لكن ما نعرفه الآن هو أن ذلك غير مؤكد أو مدعوم بدلائل واضحة، فمع معرفتنا أن الاستيقاظ صباحًا جيد في كل الأحوال، إلا أنه لا يمتد ليشمل تلك النطاقات كما يبدو، هناك أشخاص – لأسباب قد تكون اجتماعية أو جينية أو ممتزجة – يميلون للسهر، وآخرين يميلون للنوم مبكرًا، لكن ذلك دائمًا ما يتدرج في نطاق ساعتين قبل أو بعد التاسعة أو العاشرة مساءًا.

ويحاول الباحثون في هذا المجال تتبع عادات الأشخاص من النوعين، يسمى هذا بالنمط  الزمني (Chronotype)، ودعنا في تلك النقطة نوضح أن هناك درجات واسعة من الضجة والجدل حول هذا الجزء بالذات، فيتم تقسيم الأشخاص حسب نمط نومهم بشكل يشبه "الأبراج" مثلًا، إلا أننا نعرف أن النمط البحثي الخاص بهذا المجال لازال وليدًا، وفي حاجة إلى فترة طويلة من العمل لكي ينتج ما يمكن أن نعتبره جوهريًا وذا أثر، لكن في النهاية فإنه يميل إلى اعتبار أن الأشخاص الأكثر ميلًا للاستيقاظ مبكرًا هم أصحاب مكاسب أكبر، لكن ذلك هو تنبؤ مرتبط بالأسباب الطبيعية المتعلقة بالواقع الاجتماعي النهاري للبشر.

فعلى الرغم مثلًا من إشارة بعض الأبحاث إلى ارتفاع نسبي(10) في القدرات الإبداعية لدى محبي السهر، إلا أنه في المقابل أشارت أبحاث أخرى إلى أن عصافير الصباح أكثر قدرة(11) على تحقيق إنجازات عملية بحكم ارتباطهم بالعمل نهارًا، وأقل ميلًا للإصابة بالاكتئاب (اقتباس هيرمان هيسة بالأعلى ربما هو اشارة لحالة شبيهة مع درجة واسعة من عدم التأكد بالطبع)، أو تواجد الصفات السيكوباثية بهم، وأقل ميلًا للغضب، كذلك وجدت بعض الدراسات أن السهر لفترات متأخرة وعلى مدى زمني واسع قد يقلل معدلات الأعمار(12) بنسبة 10%، كذلك فهم أكثر استهلاكًا للمنبهات كالكفايين، وللكحول، وربما السجائر.

وجود علاقة لا يعني السببية

والمشكلة هنا هو أنه لا يمكن لنا بسهولة فهم الأسباب من النتائج، فمثلًا قد يكون الأشخاص الأكثر إنتاجًا في الأعمال الإبداعية كالكتابة أكثر ميلًا للتواجد في ظروف هادئة، هنا سوف يمثل الليل مهربًا جيدًا لهم، بعيدًا عن أية ارتباطات جينية. قد يتسبب سلوك النوم الخاص بفرد ما – مثلًا – في رفع  درجات استهلاك الكفايين (القهوة) لديه، أو قد يكون العكس، وهو أن يدفعه الكفايين للسهر مثلًا. أو قد يتسبب الاكتئاب في عزل الشخص ليلًا، أو قد يتسبب هذا العزل في الاكتئاب، لكن في النهاية فإننا نعرف أن اضطرابات الساعات البيولوجية الخاصة بالبشر، ولا نتحدث هنا عن مواعيد النوم والاستيقاظ الخاصة بالأفراد بقدر ما نتحدث عن اضطرابات أثناء النوم نفسه، قد تكون ذات علاقة بأمراض كالاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب.

"وجود علاقة لا يعني السببية" إذن هو المشكلة التي نواجهها هنا، لكن دعنا نتوقف قليلًا لنوضح أن الهدف الرئيس من هذا التقرير هو توضيح أن تلك التقسيمات التي تملأ وسائل التواصل حول أشخاص مجبرون على أن يكونوا بومات ليلية أو عصافير صباحية هو في غالب الأمر ليس صحيحًا، فمعظم الأشخاص يميلون بشكل طبيعي للنوم في مواعيد ليلية والاستيقاظ في مواعيد صباحية، كما أن التعامل مع الصفات السلوكية للمجموعتين بطريقة "الأبراج" هو هراء بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث لا تؤكد الأبحاث هذا التمايز "الرهيب" بين الأشخاص بسبب سلوك نومهم، وإن تشابهت عادات الساهرين -مثلًا- مع بعضهم البعض، وذلك متوقع بحكم أن الليل يختلف عن النهار.

النوم هو سر(13) عظيم، فرغم تقدمنا الشديد في فهم تركيب أجسامنا إلا أن هذه الظاهرة الغريبة التي ندعوها "النوم" لا زالت محل بحث نشط، لكن ما نعرفه أنه ربما يتدخل في كل شيء بحياتنا تقريبًا، فمثلًا نجد أن شيئًا ببساطة أن يمتنع الشخص عن النوم لليلة واحدة يتسبب أن تنخفض قدراته على التعلم بنسبة 40%، حيث يحتاج الدماغ لحالة يومية من التوقف والتجدد لكي يحفظ ما سبق ويبدأ في تعلم الجديد، كذلك نعرف أن كل كشف جديد يتعلق بالنوم، أو بالساعات البيولوجية الخاصة بنا، يؤثر بقوة في مجالات عدة تمتد من علم النفس إلى علاج السرطان، لكن في النهاية لا يزال السؤال الأهم غير مجابًا بعد، لماذا -أصلًا- ننام؟

المصدر : الجزيرة