غوارديولا 2017.. هل حان وقت تفكيك أكذوبة "التيكي تاكا"؟
هناك بضعة حقائق كُتب عليها أن تظل صادمة للأبد، والسبب بالطبع هو أنها لا تُقال كثيرًا، فأنت تعلم عادة التكرار الكريهة بقطع الشعرة الفاصلة بين الأكذوبة والحقيقة، فقط يكفي أن تُردد الكذبة لعدد كافٍ من المرات وستتحول مع الوقت إلى يقين لا يقبل الجدل، لذا لا يهم إن كان الأحمر لا يستفز الثيران ولا أن الوطاويط ترى أقوى من البشر بثلاث مرات، (1) (2) وبالطبع سيظل الناس يتفاجأون في كل مرة يسمعون فيها أن السُكّر لا يُهيج الأطفال أو أن الفايكنغ لم يضعوا قُرونًا على رؤوسهم، (3) (4) ببساطة لأن العكس قد تكرّر حتى تَقرّر واستقر في وجدان الجميع، وصار الحل الوحيد لإزالته هو أن ينطق الثور أو الوطواط مصححا المعلومة بنفسه.
بالطبع إذا كنت أحد مشجعي كرة القدم فسيصعب عليك أن تجد لفظة تكررت في العقد الماضي مثل التيكي تاكا، وبالمثل سيصعب عليك أن تصدق أن الرجل الذي صك المصطلح لأول مرة لم يكن غوارديولا أو أحد مساعديه أو لاعبيه أو حتى أحد محللي اللعبة، بل معلق إسباني اسمه أندريس مونتيس أثناء إذاعة واحدة من مباريات إسبانيا في مونديال 2006، أي قبل أن يتولى بيب تدريب الكتلان بعامين كاملين. (5)
أنت تعلم بالطبع أن هناك دورة معينة يمرّ بها أي مدرب في بداية مسيرته، تبدأ باستنباط طريقة لعب ناجحة تساعده على الانطلاقة الأولى، ثم يمر بالاختبار الأصعب عندما يبدأ الجميع في تطوير الأساليب المضادة بعد أن كشفوا نقاط قوتها وضعفها، وتلك المرحلة هي ما يفرّق لاحقا بين مدرب جيد وآخر ممتاز. تلك هي الطبقة الأولى هنا، برسا بيب نال من المشاهدات والاهتمام الإعلامي عقب 2009 ما لم ينل رُبعه قبلها، ومع الأضواء أتت التحليلات التي أكدت أنه الفريق الأكثر تكاملا منذ زمن بعيد، وأنه فتاك في المساحات لدرجة غير مسبوقة لم يشاهدها أحد من قبل، وبالتالي كان الحل الوحيد لمواجهته هو تكوين أصلب التكتلات الدفاعية الممكنة، وحتى حينها لم يكن النجاح مضمونا.
كل ذلك تطلّب تعديلات جوهرية لمواكبة المتغيرات التي أجبرت الفريق على وضعية غاية في الهشاشة أمام كل الخصوم تقريبا، وضعية تتطلّب الصعود بكامل الفريق إلى عشرين مترًا إضافية على الأقل وترك مساحات شاسعة خلف خط دفاعه، وبالطبع البحث عن حلول جديدة للتعامل مع ضيق المساحات في الثلث الهجومي واتساعها في الثلث الدفاعي، والذي ازداد حجمه ليشمل نصف ملعب كامل في أغلب الأحيان.
بالمثل أصبح الحل الوحيد للتسجيل هو التدريب على المزيد والمزيد من التمرير الأرضي لأنه الطريقة الأضمن لتدوير الكرة، ومن ثم ترك مهمة الإنهاء أمام المرمى لنفس اللاعبين المهرة أصحاب القدرات التقنية العالية، ومع الوقت زادت التمريرات العرضية في انتظار الثغرة، ولم يعد الهدف الوحيد من الاستحواذ هو صناعة الفرص، بل أصبح خط الدفاع الأول أمام مرتدات المنافسين القاتلة، ناهيك عن أن تفضيل طراز معين من اللاعبين في الثلث الأخير ترتب عليه بالتبعية إهمال ألعاب الهواء بشكل شبه تام، وبالطبع لم تعد الضربات الثابتة أو التسديد من خارج المنطقة حلولا مطروحة من الأصل، لسبب بسيط هو أن نسبة نجاحها لا تتعدى 30% في أفضل الحالات، وهو ما يعني أن 70 كرة من كل 100 ستتحول إلى مرتدة. (6)
هنا أضيفت الطبقة الثانية للأكذوبة، فلا يوجد مدرب واحد في العالم كله يفضّل أن يقوم فريقه بـ2431 تمريرة قبل كل هدف، وفي الوقت الذي أُجبر فيه برسا بيب على كل هذا الصبر والحذر، والذي وصل إلى درجة الملل أحيانا، وقع الخلط الكارثي بين ما هو إجباري وما هو اختياري، وافترض الكثيرون أن هذا هو الشكل الأمثل لكرة القدم كما يفضّلها بيب، وقبل أن ندرك كانت إحصائيات التمرير تطغى على ما عداها، وحتى لو كان أغلبها عرضيا أو بلا فائدة حقيقية سوى الاحتفاظ بالكرة حتى اللحظة المناسبة، وبينما كان غوارديولا وفريقه يستحقون الإشادة لتخطيهم المرحلة الثانية بنجاح والمحافظة على معدل تهديفهم وانتصاراتهم الجنوني أثناء ذلك، قرر العالم تسليط الضوء على الشيء الوحيد الذي كرهه الرجل في العملية كلها، لا لشيء إلا قابليته للترويج إعلاميا.
بمرور الوقت ازداد الوضع سوءًا، ونشأ بين الجماهير والمحللين ما يمكن تعريفه بثقافة التيكي تاكا، وبطريقة ما أصبح ذلك المصطلح مضادا للعب المباشر العمودي السريع، وانتشرت نظرية لا محل لها من الإعراب تعتبر الأخير أقل رتبة على سلم الرقي التكتيكي، بل وصل الأمر إلى درجة التوجس من فالفيردي قبل قدومه إلى كتالونيا، ليس لأن هناك اختيارات أفضل ولكن لأن الرجل بنى سمعته في بيلباو على اللعب المباشر، وبالتالي خرجت النظرية المضادة لتتحدث عن التيكي تاكا المملة التي تمرر من أجل التمرير، وهذا النزاع المفتعل هو ما يؤكد للمرة الألف أن الكثيرين قد شاهدوا موسم بيب الأول في برشلونة بلا تدقيق كافٍ، وأن أكثر منهم شاهده ونسي ملامحه في زحام التكتلات والتمريرات اللانهائية التي عقبته.
هنا كان بيب على موعد آخر أقل درامية، فحقبة البايرن بالإضافة إلى موسم أول للنسيان مع السيتي منحته فرصة لإعادة ترتيب أولوياته ومن ثم مباغتة الخصوم مرة أخرى، ومباغتة الخصوم لم تكن لتتم إلا بنفس الكرة الكهربائية السريعة التي قدمها مع البلوغرانا في الموسم الأول بشكلها الشمولي، التمرير الأمامي كلما أمكن، والمخاطرة كلما أمكن، ومحاولة الوصول إلى المرمى بأقصر السبل المتاحة، بالإضافة إلى استغلال كل الطرق الممكنة للتسجيل، ومن ضمنها التسديد البعيد والرأسيات التي عادت إلى الصورة مجددا بعد غياب طويل.
|
لا يجب أن نسمي أسلوب لعب السيتي بالتيكي تاكا، بل هو أشبه بهجوم العصابات، يصوبون مسدساتهم إلى عنقك وعليك أن تمنحهم هدفا بأي ثمن.
النتيجة أن سيتي بيب سجّل نصف أهدافه تقريبا في دوري الأبطال (5/12) من رأسيات متقنة، ويحتل حاليا المركز الثاني بين الستة الكبار في البريميرليغ في عدد الأهداف الرأسية بفارق هدف وحيد عن الأول (6-7)، والمركز الأول في الأهداف المسجلة من تسديدات بعيدة بسبعة أهداف أخرى. إحصائيات تتناقض بشدة مع المواسم السبع الماضية من مسيرة الرجل، ولكنها تتفق بشدة مع موسمه الأول في كتالونيا، والفارق بين هذا وذاك لم يكن أبدا الرغبة في مزيد من التمريرات بقدر ما كان تحكم الخصوم في المساحات المتاحة. (7)
ما فعله بيب هذا الموسم هو أنه أعاد الشريط إلى نقطة البداية مع اختلاف التفاصيل، لا أكثر ولا أقل، ولطالما كان الشكل الحالي الذي يقدمه مع السيتي هو الأساس، وما أضيف إليه لاحقا لم يكن أكثر من شكليات أو محاولات للتأقلم مع الأساليب المضادة. لذا وقبل أن نصل إلى المشهد الذي تعود فيه التكتلات الدفاعية المتراكمة إلى الظهور، وقبل أن تخرج تحليلات جديدة زاعمة أنه اخترع لعبة جديدة في إنجلترا وتطلق عليها اسما إعلاميا آخر على غرار سيتي – تاكا أو شيئا من هذا القبيل، لا يوجد ما هو أنسب من أول أهداف برسا بيب لدحض هذه النظرية.
صدّق أو لا تُصدّق.. مرتدات ورأسيات وتسديد بعيد ولعب عمودي في برشلونة
الموسم الحالي للمواطنين يثبت أن ما يفرق بيب عن غيره لم يكن كم المباشرة في أسلوب اللعب بل كيفيتها، إنه يفعلها أفضل من غيره وبشراسة منقطعة النظير وإصرار هيستيري، وإن كل تلك التدريبات على التمرير لم يكن الهدف منها هو تدوير الكرة فحسب، بل الوصول بالأساسيات إلى درجة الإتقان، ثم تشجيع لاعبيه على المخاطرة لصناعة فرص التسجيل بغض النظر عن حالة منافسيه، والحصيلة لكل ذلك أن السيتي هو أول فريق إنجليزي في التاريخ يفوز بـ16 مباراة من أصل أول 17 في كل المسابقات، وأول من يصل إلى فارق أهداف +31 ويراكم 31 نقطة بعد 11 جولة في تاريخ البريميرليغ. (9)
كل ذلك يمكن أن يتغير لاحقا، يمكن ألا يحافظ السيتي على معدل النقاط أو التهديف، ويمكن ألا ينهي موسمه في المركز الأول ولا الثاني حتى، ولكن لا شيء يعبّر عن قيمة عمل مدربه مثل الإحصائية المرعبة التي تقول إنه أنجز كل ذلك رغم كونه الفريق الأكثر إهدارا لفرص التهديف المحققة في البريميرليغ (Clear-Cut Chances) بإجمالي 28 فرصة، (10) أي أكثر من ضعف ما أهدره الثاني مانشستر يونايتد 13، والثالث تشلسي 12، والرابع توتنهام 11.
الخلاصة أنه لا يوجد شيء في كرة القدم اسمه تيكي – تاكا، ولو كان موجودا فبيب لم يخترعه، ما فعله الرجل باختصار مُخل، هو إتقان هذا الأسلوب من اللعب -أيًّا كان اسمه- لدرجة قاربت الكمال ولم يصلها أحد من قبله بما فيهم كرويف ملهمه الأول، وعلى الرغم من أن الفترة التي تلت موسمه الأول كانت أصعب بكثير مما قبلها، وعلى الرغم من كونها ما عَبَر به من خانة المدرب الجيد إلى الممتاز، لأنه اضطر حينها للتعامل مع مساحات أقل وخصوم أقوى وأدرى بتفاصيل فريقه، فإنها -على عكس الشائع- لم تشهد أقصى درجات تحكّمه في اللعب، ولم تكن أبدا الهدف من البداية، بل فُرضت عليه أساليبها فرضا، وهو ما يسبب الارتباك الإعلامي الحالي في التعامل مع نسخته من السيتي التي تعج بالتحولات السريعة واللعب المباشر، ما يجعلها تتناقض بوضوح مع الصورة الذهنية الدارجة عن التيكي – تاكا.
المدهش في هذه القصة أن الثور قد نطق فعلا ليصحح المعلومة في أكثر من مرة، لكنه فشل فشلا ذريعا في إيقاف المد الكاسح للمصطلح الشهير، فلا يهم عدد المرات التي قال فيها غوارديولا إنه يمقته، ولا يهم إن أصرّ في أكثر من مرة أنه صناعة إعلامية خالصة ولا علاقة له بما يجري على أرض الواقع، (14) فسيظل الرجل مجرد وطواط أعمى آخر يحاول إخبار الجميع أنه ليس كذلك.