نابولي ويوفنتوس.. حين يخدعك كل شيء
تملك تلك المباراة عدداً مهولاً من النقاط الإيجابية للفائز والسلبية للخاسر، فقد كتبت كلمة النهاية لسلسلة اللاهزيمة الخاصة بنابولي وفي عقر ديارهم، كما قلصت الفارق بينه وبين يوفي إلى نقطة وحيدة، ليس ذلك فقط، بل تركت صدارته في مهب الرياح، انتظاراً لنتيجة مباراة إنتر ميلان مع كييفو فيرونا، والتي إن فاز بها يتقدم عبرها على الفريق الجنوبي بفارق نقطة.
منذ اللحظة الأولى بدا ماسيميليانو أليغري مدرب يوفنتوس عاقداً عزمه على تقديم عمله الدفاعي المؤذي لأعين الباحثين عن المتعة -ولا تلوموه فقد أخبركم مسبقاً إلى أين تذهبون- بـ4-4-1-1 بدأت بتسليم دفة اليمين لماتيا دي تشيليو على حساب العجوز بارزالي إمعاناً في مواجهة إنسيني، يتقدمه دوغلاس كوستا في أعلى نسخ التزامه الدفاعي بتاريخه، وعلى الجهة الأخرى يقابله كوادو أسامواه على حساب أليكس ساندرو لنفس الغرض الدفاعي، يتقدمه لاعب وسط قوي المزايا الدفاعية هو بليز ماتويدي، في دور ليس بغريب عليه تماماً منذ أيام باريس سان جيرمان.
أصر ماكس على تحصين الأطراف بشكل مبالغ في صرامته، أملاً بحصر المعركة بين العمق والعرضيات، وفي الحالتين هو المتسيد، ففريق نابولي ليس بأفضل أحواله من جانب، ومن جانب آخر قانون الاحتمالات والمنطق يقضيان بافتراس فريقه لمعركة الهواء داخل منطقة جزائه، ليضع أصحاب الديار أمام معادلة صفرية بلا مفر، مستغلاً أعظم أسلحته التكتيكية على الإطلاق: مرونته منقطعة النظير، واستعداده الكامل لإخراج أي رسم تكتيكي من عباءته طالما أن الأمر يستلزمه.
نظرة وحيدة على الإحصائيات تخبرك بالحقيقة كاملة، فريق يمتلك الكرة طوال الوقت، يهاجم طوال الوقت، يفترس خصمه يميناً ويساراً ولكنه فقط لا يملك الحظ الكافي للتسجيل، بينما ارتكن خصمه للدفاع على ثمرة هدف مبكر للغاية من خائنه المتخصص في تعذيبه، والمتفنن بالتسجيل في شباك كبار الكالتشيو غونزالو هيغوايين، ولكن الحقيقة ليست كذلك مطلقاً.
الواقع هو فشل تام من أقوى منظومة هجومية في إيطاليا، شأنها شأن أي منظومة مشابهة ظهرت في أي وقت أو مكان، فقط فكك أحد تروسها الحيوية ليبدأ البقية في الانهيار واحداً تلو الآخر، فليأخذ السرطان أبيدال فيبدأ الدفاع في التهاوي، وليتراجع تشافي ليرقع موقعه راكيتيتش، وليرحل ألفيس فيقتحم لاعب وسط موقعه، وهكذا ترقيع يجر الآخر وصولاً إلى باولينيو، أو ماريو روي.
وكأن تلك الليلة أرادت أن تلقي الضوء على أغلب عيوب نابولي دفعة واحدة، كشرت كارثة غياب الجزائري فوزي غلام عن أنيابها بقوة، فالظهير الأيسر كان نقطة انطلاق كل شيء في الجبهة التي لطالما أسرف نابولي في الهجوم من خلالها، وبالتالي كان الحجر الذي تهاوى البنيان لسقوطه، فلم يحصل هامسيك على الحرية التي يمنحها له، ولم يجد إنسيني المساندة الهجومية التي كان يحظى بها منه، ولم يملك نابولي من يفتح له هذا الشارع الأزلي ليتمكن الثنائي السالف ذكره من غزو العمق كما يحلو لهم.
ابتعد غلام بإصابة طويلة الأمد، ليكشف النقاب عن بديل خيب الآمال بقوة، ماريو روي أحد أسوأ رجال تلك المباراة: صفر من التدخلات الناجحة (من أصل محاولة يتيمة)، صفر من المراوغات، صفر من التمريرات المفتاحية، صفر كبير تشاطر به التقييم الأسوأ مع راؤول ألبيول، وأمام هذا البنيان الخرساني على وجه التحديد، الذي ألقاه أليغري في وجههم بتزمت الثنائي دي تشيليو وكوستا إلى درجة الهوس.
بالتالي وجد نابولي نفسه مضطراً إلى تجربة الجهة الأخرى ربما للمرة الأولى، ليتبين أن سر اللجوء الدائم لليسار ليس ارتفاع كفاءتها بقدر كونه قلة كفاءة الجانب الآخر! حيث أقحم خوسيه كاليخون نفسه في قائمة الأسوأ عن جدارة، بمباراة قتلت أغلب الآمال الهجومية الباقية، إلى درجة سماحها بتحول هيساي -الظهير المعروف بتفوقه الدفاعي- إلى بارقة الأمل الهجومي، بل والأعلى مراوغة بمحاولتين ناجحتين من الثلاثة الذين حققهم الفريق بأسره، من أصل 7 محاولات.
وعليه تحولت سيطرة نابولي الأمامية إلى عرض عشوائي من التسديدات الطويلة البائسة، غير القادرة على تهديد مرمى جيانلويجي بوفون باستثناء محاولة وحيدة منهم هي التي أثارت حماس قفازه، بمجموع 6 تصديات لجميع التسديدات التي وصلت مرماه من أصل 21 تسديدة. لتظهر أيضاً خسائر حرمان الفريق من مهاجم لديه ولو بعض التميز بالكرات الرأسية، أو إصابة أركاديوز ميليك عاثر الحظ مع الصليبي وعدم وجود من يعوضه، ليظهر الجانب السلبي من توحش دريس ميرتينز في مركز المهاجم على يد ساري، فهو سلاح فتاك حين تعمل المنظومة بكفاءة، ولكنه سلاح يظهر حده الثاني أمام تلك التكتلات.
فقط لأن الكعكة بحاجة لما يزينها، كان دفاع البارتونيبي بحاجة لترك بصمة ولا أسوأ في مواجهة مرتدات يوفنتوس، خاصةً لقطة الهدف التي أتت في الدقيقة 13، فحين تعيد مشاهدة اللقطة لا يمكنك منع نفسك من التساؤل.. عما كان يفعله أخطر أسلحة الخصم الهجومية -والذي يعرفه نابولي جيداً قبل غيره- هنا وحده ليتسلم البينية الحاسمة بمنتهى الأريحية.
اختصاراً فشل ساري في إدارة معركته، سواء لنقص في أدواته أو لقلة خبرته أمام غول كأليغري، المحصلة واحدة، فسواء سحب ألان المعتاد وإشراك بيوتر زيلينسكي، أو حلول أوناس الاضطراري على حساب إنسيني المصاب مزيداً في أوجاعه، أو حتى قراره بالغ التأخر بإشراك ماجيو على حساب روي، لم يملك ساري في جعبته ما يُمكِّنه من تغيير سير الأمور التي مالت جميعها على هوى الخصم.
حظي أليغري على كل ما يشتهيه ويقظة تغييراته تؤكد ذلك، فلم ينتظر طويلاً حتى قرر مواجهة نشاط وسط نابولي بإقحام كلاوديو ماركيزيو على حساب سامي خضيرة، ولم يتطلبه الأمر جهداً حين قرر تثبيت أقدامه بإشراك خوان كوادرادو بدلاً من كوستا الذي أدى دوره "المطلوب" على أتم وجه، وبالتالي لم يكن غريباً حين دفع بأندريا بارزالي كحجر إضافي في مواجهة أوناس على حساب دي تشيليو، كلما تحرك ساري خطوة وجد ماكس يتبعه إليها بلا هوادة.
رغم كل شيء، نابولي لا يزال رقمياً ثاني أقوى هجوم في إيطاليا وأقوى دفاع مناصفة مع إنتر ميلان وروما، إلا أن استمرار عملية الترقيع ببدائل أقل كفاءة لن تؤتي ثماراً، ولن تدفن حقيقة حاجة الفريق لمن يعوض غياب غلام، ولا حاجة الفريق الكلية لدكة بدلاء أقوى من تلك التي يملكها، ولا حاجته الماسة لخيار إضافي في الخط الأمامي لمثل تلك المباريات المغلقة.
ختاماً، عاد يوفنتوس كالعادة إلى الصورة بخطوات ثابتة، وفي معركة النفس الأطول الكل يعرف من المنتصر سلفاً، وفي معركة الدكة الأفضل الأمر أوضح من أن يُقال، وعليه فإن نابولي لا يملك خياراً سوى إعادة حساباته وتدعيم فريقه كما ينبغي في يناير، هذا إن لم يرغب بضياع الحلم الغائب منذ مغيب شمس مارادونا، وإن لم يرغب بالوقوف والتصفيق ليوفنتوس وهو يعتلي منصة اللقب السابع على التوالي.