شعار قسم ميدان

بايرن ميونخ وسان جيرمان.. لأن الانطباعات الأولى لا تدوم!

Soccer Football - Champions League - Bayern Munich vs Paris St Germain - Allianz Arena, Munich, Germany - December 5, 2017 (L - R) Paris Saint-Germain’s Adrien Rabiot, Marquinhos and Dani Alves after the match      REUTERS/Michaela Rehle

للموسم الكروي بضع عادات حميدة لا يمل من تكرارها أبدًا ولا نمل من متابعتها أبدًا، أولها على سبيل المثال أن أغلب التوقعات التي تُبنى في الصيف تنهار بمجرد بداية الموسم ويخرج من أنقاضها توقعات أخرى جديدة، وبحلول منتصف الموسم تنهار الأخيرة بدورها لتتكرر العملية مجددًا، وفي كل مرة نتفاجأ وكأننا بدأنا متابعة اللعبة للتو، وفي كل مرة نشعر بالإثارة ذاتها، فبعض الأشياء تظل محصنة ضد الملل مهما تكررت مثل فيلم معين أو وجبة مفضلة، وصراع "المال" و"التقاليد" سيظل واحدًا منها بالتأكيد.
 
بالطبع لا يمكننا القول بأن المباراة قد هدمت التوقعات لموسم باريس الأوروبي، ولكن يمكننا القول إن هاينكس قد نجح في تصدير نفس علامات الاستفهام التي طرحتها المباراة الأولى تجاه خصمه، واضعًا البايرن في نطاق الإشادة للمرة الأولى هذا الموسم وبحرفية شديدة ليست مستغربة عليه، وكأنها واحدة من مرتداته المتقنة التي فتكت بأوروبا منذ عدة سنوات.

من برشلونة جئنا

ليس خفيًا على أحد أن مشروع باريس الكروي حمل عنوانًا واحدًا كبيرًا منذ بدايته وحتى اللحظة هو استنساخ نجاحات الفريق الكتالوني باستخدام نفس الأدوات، بداية من (4-3-3) ومرورًا بالاستحواذ والتمرير الأرضي القصير واللعب التموضعي، وانتهاءً بالثلاثي الهجومي الفتاك الذي وصل أخيرًا لشكله الأمثل مع انضمام مبابي ونيمار وعودة كافاني لموقعه الأصلي بعد سنوات الفرص الضائعة على الأطراف.
  
undefined
 
الجديد هذا الموسم كان أن باريس بدا مرشحًا قويًا للقب للمرة الأولى منذ بداية صحوته في 2011، كل شيء كان يسير أفضل مما توقعه الباريسيون أنفسهم حتى إصابة موتّا؛ أمر متوقع بل وحتمي مع تقدم سن الإيطالي، ولكنه كشف لإيمري أنه قد تسرع بالتفريط في مُعوضه الوحيد كريخوفياك، وبل ولم ينجح في ضم أي بديل بسبب مقابل انضمام نيمار الذي أثار الكثير من الغبار حول التزام ناديه بقوانين اللعب النظيف، وبالتالي لجأ منذ حينها إلى إقحام دراكسلر كلاعب وسط ثالث مع إعادة فيراتّي لمهام المحور مرة أخرى بديلًا لمواطنه.

جناح يتحول لثالث وسط (Mid-Trio) وصانع لعب متأخر، يبدو هذا مألوفًا بالطبع لأنها نفس التجربة التي مر بها إنييستا في كتالونيا، خاصة إذا أضفت لها تجربة الجناح الذي يتحول لمهاجم وهمي في العمق وأهم ظهير طرف مر على برشلونة منذ التسعينيات، بل إن حتى الأرجنتيني لوسيلسو الذي يتم إعداده للحلول محل موتّا كان ينشط كصانع لعب أو متوسط ميدان (CM) في المراحل السنية الأصغر، وهي تجربة أخرى مألوفة أنتجت للكتلان محور ارتكازهم الحالي.
 
المهم أن تحويل دراكسلر لمركزه الجديد أوحى لإيمري بأنه قد ضرب عدة عصافير بحجر واحد؛ تخلص من قنبلة موقوتة على الدكة لن تلبث أن تطالب بحقها في دقائق اللعب، وفي نفس الوقت أوجد حلًا لشغل الطرف الأيسر الذي يتركه نيمار شاغرًا بتوغلاته القطرية، وبدا وكأن دور الألماني كلاعب وسط أيسر هو ما كان يحتاجه باريس من البداية.
 

دور دراكسلر الجديد  (سكاوكا)
دور دراكسلر الجديد  (سكاوكا)

  
على عكس المتوقع أتى أداء دراكسلر مقبولًا للغاية حتى خسارة ستراسبورغ في الأسبوع الماضي، وبدا وكأن الجميع في باريس قد نسي المشكلة الأصلية في زحام النتائج المبهرة والأهداف الغزيرة، وهي أن مردود الفريق الدفاعي قد تراجع بشكل عام بعد انضمام الثنائي الجديد للتشكيل، وحتى في وجود موتّا كان الفريق يعاني أمام أي خصم منظم، فما بالك باستبداله بجناح لم يعرف عنه يومًا إجادة الافتكاك والمحاصرة والضغط، والحقيقة أن كل ما كان يحتاجه باريس هو خصم منظم يعيده للمربع رقم واحد، ويثبت لإيمري أن حجره لم يُصب الشجرة من الأصل.

وإليها نعود

لسبب ما قد يخبرنا به هاينكس بعد اعتزاله، خَلت تشكيلته من ثنائية مارتينيز وفيدال التي اعتمد عليها في المباريات الماضية بأشكال مختلفة، ولحساب ثنائية جديدة من رودي وتوليسو الذي تمت تجربته في المحور للمرة الأولى هذا الموسم، ولنفس السبب خرج بواتنغ من اختيارات قلب الدفاع لصالح زوله الذي شارك بقسط كبير في مهزلة الذهاب، ورغم كل ذلك ظل هاينكس الشخص الأنسب لتدمير هذه النسخة من برشلونة، لأن أحدًا لم يدمر الأصل كما فعل.
 

تشكيل الفريقين وخطة اللعب والتقييم الرقمي  (هوسكورد)
تشكيل الفريقين وخطة اللعب والتقييم الرقمي  (هوسكورد)

 
خيميس في العمق ملتزمًا بالارتداد ومساندة ثنائي المحور، وكومان كجناح تقليدي على الخط، وريبيري في مكانه المفضل، والذي بدأ منه هاينكس رحلة الهدم في الشوط الأول بنفس الطريقة التي يبدأ بها إيمري رحلة البناء عادة، من الخلف للأمام وبنمطين واضحين من الضغط اعتمادًا على الانتشار العرضي الذي يتخذه دفاع باريس لحظة بدء الهجمة؛ أولهما ضغط عال متقدم – وسلبي في نفس الوقت – على داني ألفيش باعتباره أفضل عناصر الخط الخلفي في إخراج الكرة، لم يكن الهدف منه افتكاك الكرة بقدر ما كان إجباره على التمرير العرضي لثنائي المحور، وهنا تبدأ المرحلة الثانية الأهم.

يتراجع ريبيري وكومان وخيميس وحتى ليفاندوفسكي لحدود الدائرة بسرعة، ثم لحظات لالتقاط الأنفاس يتم خلالها ضرب الحصار على فيراتّي ورابيو بغلق كل زوايا التمرير الممكنة، ما يمنح الفرصة لتوليسو ورودي للتقدم واستخلاص الكرة من الثنائي الباريسي المعزول، والذي فشلت حتى محاولات نيمار لفك حصاره طيلة الشوط الأول، ومن هناك ينطلق البافاري لمباغتة الخط الخلفي في أسوأ وضع ممكن بينما تتأهب أطرافه للصعود.
 

تمريرات الثلاثي ألفيش وفيراتي ورابيو اتسمت بالسلبية نتيجة منطقة الضغط التي أوجدها هاينكس  (سكاوكا)
تمريرات الثلاثي ألفيش وفيراتي ورابيو اتسمت بالسلبية نتيجة منطقة الضغط التي أوجدها هاينكس  (سكاوكا)

   

محاولات البايرن لاستخلاص الكرة في وسط الملعب بالضغط على لاعبي وسط باريس  (سكاوكا)
محاولات البايرن لاستخلاص الكرة في وسط الملعب بالضغط على لاعبي وسط باريس  (سكاوكا)

  
خطة ذكية للغاية، صحيح أن نجاحها لم يكتمل بسبب رعونة التدخلات في هذه المنطقة والتي حولت أغلب الصراعات لمخالفات لصالح باريس، إلا أنها ذكّرت الجميع بتصريحات هاينكس قبل المباراة عن ضرورة إيقاف هجوم الضيوف – وبخاصة نيمار – بعمل جماعي، (1) ومع توالي التمرير السلبي في منطقة العزل بين لاعبي وسط باريس، اتضحت وجهة نظر الرجل في إيقاف البرازيلي المكوكي الذي يصعب مراقبته فرديًا، عن طريق قطع إمداداته من المنبع وإجباره على الابتعاد عن مناطق الخطورة إن أراد استعادتها.
 

متاهة فيراتّي

على الجانب الآخر كان القدر قد أعد بضع مفاجآت سارة لهاينكس كمكافأة على عمله، أولها أن ألفيش كان يستعد لتقديم واحدة من أسوأ مبارياته في السنوات الأخيرة، أعجزته خلالها بدنياته المتواضعة عن مواكبة إيقاع التحولات السريع، وكللها مبكرًا بكسر مصيدة التسلل في الهدف الأول، وثانيها كان تألق أولرايخ اللافت في المرات التي أفلت فيها الضيوف من المصيدة، وعدا ذلك سارت أمور البايرن في متوالية من النتائج المتوقعة؛ فتشتت فيراتّي بين أدوار بدء الهجمة وكسر الضغط من جهة، وبين ضرورة مساندة ألفيش على الجبهة اليمنى من جهة أخرى، والنتيجة أن الارتكاز الإيطالي قدم واحدة من أقل عروضه على مستوى المردود الدفاعي، والتي انحصرت في اعتراض وحيد فقط لا غير ، وكم لا بأس به من التدخلات الفاشلة (0%)، لتنتهي المباراة وقد أفسد دراكسلر كمًا أكبر من هجمات أصحاب الأرض (13%).

مع بداية الشوط الثاني بدأ هاينكس المرحلة الثانية من خطته مدعومًا بهامش آمن من التفوق كفلته أهداف ليفاندوفسكي وتوليسو، ومع الألماني لا تحتاج لكثير من التفكير لتخمن أن المرحلة الثانية هي التراجع وضرب دفاع باريس البطيء بالهجمات العكسية، والحقيقة أنه يصعب لومه، ببساطة لأن ارتداد الضيوف السييء طيلة الشوط الأول وضع هجوم البايرن في العديد من مواقف التكافؤ العددي، لذا يمكنك تخيل الوضعية في المرتدات الأكثر سرعة ومباغتة.
  

رغم أن هجمة الهدف الأول بدأت تقليدية للغاية من أقدام هوملز وفي وضعية دفاعية جيدة لباريس، إلا أن بوصولها لمنطقة الجزاء كان هناك 3 من لاعبي البايرن مقابل نفس العدد من مدافعي الضيوف  (مواقع التواصل)
رغم أن هجمة الهدف الأول بدأت تقليدية للغاية من أقدام هوملز وفي وضعية دفاعية جيدة لباريس، إلا أن بوصولها لمنطقة الجزاء كان هناك 3 من لاعبي البايرن مقابل نفس العدد من مدافعي الضيوف  (مواقع التواصل)

  
ما حدث أن التنفيذ قد خان الخطة مرة أخرى، وتلقى البايرن هدفه الوحيد في الوقت الذي حظي فيه الثلاثي الفتاك بأقل مساحات ممكنة، وبقيادة ألمعهم في هذه المباراة كيليان مبابي الذي يُنصب نفسه سريعًا كأهم مراهق شهدته اللعبة منذ سطوع ميسي ورونالدو، وهو ما يؤكد صحة نظرية هاينكس من البداية في عزلهم عن ثلاثي الوسط، وخطأ التخلي عنها مع بداية الشوط الثاني في نفس الوقت.
 
المهم أن باريس حظي بأفضل أوقاته في المباراة في مطلع الشوط الثاني رغم غياب نيمار وكافاني شبه التام عن المشهد، وارتكب هاينكس ثاني أخطائه بالتأخر في التعديل لربع ساعة كاملة عقب الهدف، ثم أخرج ريبيري بعد أن استنفذ كل طاقته في ملاحقة ألفيش في الساعة الأولى، لينتقل كومان إلى مكانه ويدخل مولر في العمق، في تجاهل تام لجبهة كورزاوا – نيمار التي استسلمت لسوء مستوى الأول وفردية الثاني، وبعد دقيقة واحدة كان الجناح الفرنسي يقود المرتدة الأولى عبر ألفيش ليصنع الهدف الثالث لتوليسو، ولا أدل على تواضع منظومة باريس الدفاعية سوى أن توليسو هو من بدأ تلك الهجمة من وسط الملعب.
 

وكأنها ثنائية (One-Two) بطول الملعب، قطع توليسو 45 مترًا تقريبًا قبل أن ينجح وسط باريس في الارتداد لـ30 مترًا فقط  (مواقع التواصل)
وكأنها ثنائية (One-Two) بطول الملعب، قطع توليسو 45 مترًا تقريبًا قبل أن ينجح وسط باريس في الارتداد لـ30 مترًا فقط  (مواقع التواصل)

  
قبل أن تسأل عن دور إيمري في كل ذلك، فإن الرجل قرر ادخاره للحظات الأخيرة، خاصة أن هدف مبابي أعاد له الأمل في المباراة وأغراه بالاحتفاظ بأوراقه الرابحة على الدكة، ولكن بمجرد تسجيل الهدف الثالث أدرك الأسباني المخضرم أنه لم يتبق سوى 20 دقيقة لتعديل الأمور، من ثم انتظر لخمس دقائق أخرى حتى أعلن تياغو عجزه عن إكمال المباراة، فتدخل بلا تردد مشركًا قلب دفاعه البديل كيمبيمبي على أمل مفاجأة هاينكس بهذا التغيير المباغت، ولكن – وعلى العكس من التوقعات – فشل المدافع الشاب في تحريك المياه الراكدة، فقد قرر إيمري تمرير عشرين دقيقة إضافية ثم الدفع بالشاب جيوفاني لو سيلسو بدلًا من دراكسلر ولكن خاب أمله مرة أخرى، فأدرك أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها واستسلم للواقع حتى النهاية، ثم صافح دي ماريا وباستوري ومونييه وتمنى للجميع ليلة سعيدة وعاد إلى منزله وهو يلعن الحظ والتحكيم.
 

الانطباعات التي لا تدوم

قبل المباراة قال هاينكس إنه لا يحب لفظة الانتقام في كرة القدم،(1) تصريح ديبلوماسي وراقي من رجل يقدر قيمة المنافسة، ولكنه لا ينفي أن هذا ما حدث على أرض الواقع، بايرن ميونيخ انتقم من هزيمة مذلة كشفت عن مدى التهالك الإدارى والفني الذي وصل له واحد من عمالقة أوروبا وزوار نصف النهائي المعتادين، ولأنه كأي انتقام، يغلب عليه العاطفة وحتى لو أداره هاينكس بعقله، فقد أنسى بافاريا المشكلة الأصلية التي أوصلت فريقها لهذا الوضع في المقام الأول.

المهم أن الانطباعات قد تبدلت داخل الملعب على الأقل، ورغم كوارث الإدارة الألمانية في الفترة الماضية، عاد البايرن بفعاليته الفائقة واستغلاله لأقل الفرص في التسجيل، تتذبذب العروض في البوندزليغا ولكن الجميع يشعر أن القادم أفضل في وجود هاينكس، وهي الأجواء التي تساعد الرجل على تقديم الأفضل فعلًا، نفس الأجواء التي لم يحظ بها أنشيلوتي أبدًا منذ أن وطئت قدميه أرض ألمانيا، ولا أدل على ذلك من قبول ريبيري التبديل في الدقيقة 67 عن طيب خاطر، وهو من اعتبر الخروج في نفس التوقيت إهانة بالغة مع أنشيلوتي رغم أن لياقته لا تسمح بالاستمرار في الملعب لهذا الوقت في الحالتين.
 
مرة أخرى يكتشف باريس أنه قد بالغ في التفاؤل وأن انطباعاته الأولى لم تدم بدورها، تلك المرة أتت بلا خسائر تقريبًا لأنها في دور المجموعات، ولكنها وضعت العاصمة الفرنسية أمام خيارات صعبة قد تكفل الاستمرار في المنافسة على اللقب أو الإطاحة بها من ذاكرة الموسم؛ أولها هو ضرورة قبول ألفيش لدور البديل حتى لو كان ذلك سيعني إهدار راتبه الضخم، وثانيها هو مشاكل دفاعية لا حصر لها، تبدأ بالخط الأمامي ولا تنتهي عنده، خاصة أن فيلم الثلاثي الهجومي الفتاك الذي يتمحور حوله الفريق قد تم عرضه من قبل في برشلونة والجميع يعلم نهايته، وإذا سألت الكتلان فسيؤكدون لك أنه كان فيلمهم المفضل لفترة لا بأس بها، ولكنه فقد حصانته ضد الملل بأسرع مما توقع الجميع.

المصدر : الجزيرة