برشلونة.. مجرد نادٍ لا أكثر!
ولأن الصدمة لا تنتج إلا خيارين لا ثالث لهما هما الإنكار أو المبالغة، كان من الطبيعي أن تقود النظريات المتطرفة المشهد الكتالوني، فالأولى تحمّل إنريكي المسئولية كاملة في إنكار تام وتسطيح مُخل للوضع الحالي، ولكنه إنكار مغري ويصعب مقاومته، لأنه يَعِد بأن كل شيء سيعود لسابق عهده في خطوة واحدة هي تغيير المدرب، وبناءً عليه خرجت نظرية مضادة في الاتجاه مساوية في القوة، تؤكد أن حقبة البرسا الذهبية قد ولّت بلا رجعة، لأن من صنعوها رحلوا أو قاربوا على ذلك، بما فيهم الساحر الأرجنتيني الذي نضبت حيله وخلت جعبته من الجديد.
وهو مفهوم يتناقض بفجاجة مع المشهد الأخير الذي سينطبع في ذاكرة الكتلان عن حقبة إنريكي، لقطة مونييه ظهير باريس وهو يستخلص الكرة من نيمار في ثُلث ملعبه، ثم ينطلق بها لحدود منطقة جزاء البرسا دون إعاقة ليصنع الهدف الرابع، محولًا هزيمة ثقيلة يمكن التعافي منها لفضيحة مدوية، لم تكتف بإعلان خروج برشلونة من ثُمن نهائي بطولته المفضلة منذ عشر سنوات، بل خروج الكتلان من جلدهم لأول مرة في نفس العدد من السنين؛ إعلان خروج برشلونة من برشلونة، وتحوله لمجرد كتيبة أخرى مخيبة من النجوم من التي تعج بها صفحات التاريخ، ويُستدل بها على أن اللاعبين لا يصنعون مدربًا حتى ولو كانوا يساوون ثقلهم ذهبًا.
ولكن هذه المقارنات العابرة للزمن، والتي تتجاهل ما وقع بين إنجاز بيب ولقطة مونييه، هي الطريقة الأمثل للوصول للإجابة الخاطئة، لأن الواقع يقول أن الإجابة الصحيحة تقع في مكانٍ ما بين هذا وذاك، وأن المشهد الحالي ما هو إلا نتاج مجموعة من الخيارات والظروف المتتالية يلعب فيها إنريكي دورًا كبيرًا، ولكن لا يتحملها وحده بطبيعة الحال.
ما ينساه أو يتناساه الجميع أن تلك القائمة من المشاكل لم تكن جديدة، بل كانت جزءًا من تركة بيب نفسه، وينسى الجميع أن إنريكي قد نجح في حلها بينما فشل كل من سبقوه، والسبب أنه دخل برشلونة وسيخرج منها وهو عاجز عن حل أزمة الجبهة اليمنى؛ الأزمة التي مثلت أول اختيار حقيقي لكتالونيا ما بين الماضي والحاضر، الهوية الدائمة والنجاح اللحظي.
ففي نهاية موسم تاتا اكتشف الجميع أن الجبهة اليمنى أصبحت السبيل الأمثل لخنق البرسا بعد أن كانت رئته الرئيسية، والمشكلة لم تكن في نزوع ميسي للعمق فحسب، بل في انخفاض المردود البدني لتشافي وألفيش بدرجة مرعبة، وعجز الثنائي عن مواجهة هجمات خصوم تلك الجبهة بعد أن حررهم غياب البولجا عنها، وكانت تلك هي اللحظة الأولى التي يجد البرسا فيها نفسه مضطرًا للتضحية بأحد أعضاء الجيل الذهبي دون مُعوض حقيقي.
هنا قرر إنريكي أن الوقت قد حان لإنجازه الخاص، والذي يمكن تلخيصه في "قدرته على إقناع صانع لعب كراكيتيتش بالتضحية بمهامه الهجومية لصالح الدفاعية، وإقناع ميسي بالعودة مرة أخرى للجناح وإفساح المجال لمهاجم حقيقي كسواريث".
اختار إنريكي التشبث بالماضي في محاولة للنجاح اللحظي السريع، ربما لأن التخبط الذي سيطر على موسم فيانوفا حرمه من الوريث الشرعي الوحيد المؤهل لشغل مكان تشافي وهو تياجو، وربما لأن جماهير البرسا لم تكن في حالة تسمح بالمزيد من التجارب مع خريجي لاماسيا بحثًا عن بديل آخر. المهم أن راكيتيتش تم استنزافه تمامًا في محاولة تعويض قيمة تشافي واستكمال مهام ألفيش الدفاعية، وهي اللحظة المفصلية التي لا يمكن تحليل الوضع الحالي بمعزل عنها، والتي تساقطت بعدها كل قطع الدومينو متتالية وصولًا له، لأن خيار إنريكي عَنى التضحية بأول أعمدة الوسط في منظومة لعب الكتلان.
جرت الأمور على ما يرام في الموسم الأول ولم يكتشف أحد حيلة إنريكي الصغيرة، لأن تركيبته منحت الكتلان 5 ألقاب من 6، ولكن في مطلع الموسم الثاني ظهر الفريق في حالة أقرب إلى الاعياء في مباراتي السوبر الاسباني والأوروبي، فخسر لوتشو الأولى برباعية وكاد يخسر الثانية لولا أداء فردي استثنائي من الملك الأرجنتيني، وعادت نفس المشكلة للظهور بشراسة مع رباعية سيلتا وهزيمة الكامب نو أمام ريال زيدان، وبدا وكأن الجبهة اليمنى قد تحولت لثقب أسود يبتلع كل الجهود لإغلاقه دون جدوى، وكأن تعويض تشافي أصبح يتطلب جهدًا إضافيًا يفوق قدرات الجميع.
أضيف لما سبق حالة من الاجهاد والاصابات ضربت الفريق وخاصة عناصر الوسط راكيتيتش وإنييستا وبوسكيتس، وتراجع اسهام خط الوسط في صناعة اللعب لحد غير مسبوق، فقرر إنريكي أن الوقت قد حان لإنجاز لحظي آخر، واستطاع اقناع ميسي أنه لاعب وسط، لأن وقت إنييستا قد حان بدوره، كما حان من قبله وقت تشافي وألفيش؛ المزيد من فقد القيم المطلقة في الفريق والمزيد من الجهد الاضافي للجميع لتعويض الفنيات الاستثنائية، والفارق الوحيد هذه المرة أن إنريكي لم يجد بعد الـ"راكيتيتش" المناسب للتضحية به.
بين سطور ثلاثياث إنريكي وثنائياته، كانت عملية إجهاد ميسي تتم على قدم وساق، فالاحصائية المرعبة تقول إن الثلاثي ألفيش، تشافي وإنييستا هم الأكثر مساهمة – بعد ميسي – في صناعة اللعب عبر العقد الأخير، بمجموع يصل لـ 353 تمريرة حاسمة من أصل 1474 هدف أحرزها البرسا بنسبة تصل لـ 25% تقريبًا، وفي نفس الفترة صنع ميسي 204 هدف آخر ليصل اسهام الرباعي في صناعة اللعب لحوالي 40% من اجمالي الأهداف.
تلك النسبة للثلاثي شهدت انخفاضًا ملحوظًا في المواسم الأخيرة، لتستكمل أزمة الجبهة اليمنى المزمنة وتحولها لدائرة مفرغة تفضي لبعضها بعضًا، فإذا سألت عن سبب فشل روبرتو في تأدية مهامه الحالية، سيكون السبب هو هبوط ميسي الدائم للخلف ومحاولته القيام بدور راكيتيتش بجانب دوره الأصلي، تاركًا روبرتو يتحمل عبء الجبهة اليمنى بمفرده، ما يقودك للسؤال عن سبب عجز الكرواتي عن تأدية مهامه في الأصل، فتعيدك الاجابة المنطقية للمربع صفر؛ لأن الكرواتي قد استُهلك بدنيًا عبر موسمين مرهقين في تأدية مهام الظهير بالإضافة لدوره، وهكذا.
مع الوقت تحول الأمر إلى الاختيار بين الحاضر أو المزيد من استنزاف ميسي، وبحلول المراحل الحاسمة من موسم إنريكي الثاني كان البولجا قد استُهلك بالفعل، خاصة بعد ثلاثة أعوام مرهقة خاض خلالها بطولتي كوبا ومونديال حتى النهائي، ولم ينل أي راحة تقريبًا في ظل تزايد اعتماد الكتلان على مجهوداته الاستثنائية لإنهاء المباريات الصعبة، والتي لم يكن ميسي يحتاج لتكرارها بنفس الكثافة إبان فترة جوارديولا، لأن الفريق كان ينعم بقمة عطائه البدني والفني.
بل أن مجرد تخيل موسمي البرسا السابقين بلا هدف نهائي الكأس أمام بيلباو، أو هدفي بايرن ميونيخ في نصف نهائي الأبطال، أو تمريرتي إشبيلية الحاسمتين في نهائي الكأس وركلاتهم الحرة في سوبر أوروبا، كفيل برسم صورة واضحة لتزايد دور البولجا في انتصارات الكتلان الأخيرة لدرجة مخيفة، وهو ما يفسر تعطله في عدد لا بأس به من المباريات الصعبة التي غالبًا ما يكون لها دور كبير في شكل الموسم، فيظهر خلالها برشلونة وكأنه الأرجنتين، وميسي برشلونة وكأنه ميسي الأرجنتين؛ مجرد مجموعة من الأسماء اللامعة المبعثرة بلا مدرب أو مردود فني أو خططي حقيقي في الملعب.
مواهب بدت واعدة في صفوف فرقًا أخرى، ولكن مشاركتها أثبتت أنها بحاجة لكثير من الوقت للتأقلم مع هوية كتالونيا وطريقتها في لعب الكرة، ولم يدرك الكتلان العبرة من قصة الصيف إلا بعد فوات الأوان، فعشرات الألقاب التي أحرزها الفريق في الأعوام الأخيرة لا تعني بالضرورة أن خزائنه صارت بلا قاع، أو أنه سيتمكن من مجاراة مليارات الخليج والروس في الميركاتو ومنازعتهم على نجوم الصف الأول باستمرار.
وللمرة الثالثة فشل إنريكي وكتالونيا بأكملها في اختبار الهوية، وتحول صداع الجبهة اليمنى لغيبوبة للفريق بأكمله أفقدته شخصيته وأسلوب لعبه، وصولًا للمشهد الأسوأ في عقدهم الأخير والذي لم يكن مباراة باريس على عكس المتوقع، بل مباراة سوسييداد التي فشل فيها البرسا في الخروج من ملعبه طيلة التسعين دقيقة، الأمر الذي تكرر هذا الموسم أكثر من مرة حتى أصبح مشهدًا مألوفًا، أما مباراة باريس فلم تكن سوى قطعة الدومينو الأخيرة التي سقطت مدفوعة بعشرات القطع والاشارات السابقة على أن شيئًا ما ليس على ما يرام، وأن استمرار الكتلان في حصد الألقاب حتى في ظل خسارة ألفيش وتشافي وانخفاض مستوى إنييستا وبوسكيتس لابد وأن يكون له ثمن ما.
المؤسف أن إنريكي أنفق كل فرصة الأخيرة في محاولات مضحكة لإقحام جوميش في مكان بوسكيتس، وتوران في مركز راكيتيتش، ودينيس في مكان توران، في عدد لا نهائي من التشكيلات التي أتت على ما تبقى من استقرار الفريق وأسلوب لعبه، حتى لم يتبقى له سوى تجربة سيليسين كرأس حربة.
الاجابة المنطقية هنا ستكون أن هؤلاء بحاجة لمزيد من الخبرة، وأن أحدًا منهم لا يشي بتشافي أو إنييستا أو بوسكيتس آخر، ولكن هذا المنطق يأكل نفسه بنفسه، لأن التجربة أثبتت أن الخبرة لا تكتسب من الجلوس على دكة البدلاء، وهنا تكمن أزمة هوية الكتلان الحالية، المتمثلة في تغير المزاج الجمعي لجماهيرهم وادارتهم، واعتيادهم على التتويج لدرجة لا يطيقون معها صبرًا على أي لاعب جديد، وهم بذلك يفقدون كل ما ميز فريقهم عبر السنوات الماضية، وجعله أكثر من مجرد نادي.
بل أن هذا المزاج الاستثماري إن جاز التعبير، يطرح أسئلة عديدة لم ولن يجيب عنها جمهور الكتلان، فهل كان جريمالدو الراحل لبنفيكا ليكون ظهيرًا أسوأ من دين؟ وألم يكن نشاط وحركية رافينيا ودينيس وفنياتهم الرائعة أفضل من بطء توران ومَوَات جوميش؟ ألم تكن سرعاتهم في الارتداد دفاعًا واعتيادهم على الضغط العكسي لتمنح بوسكيتس راحة مستحقة؟ وما الفارق الواضح بين ألكاثير ومنير الذي يبرر إنفاق 30 مليون يورو لجلب الأول والتخلي عن الثاني بلا مقابل؟
لذا لم ولن يرى في لاعبي أكاديميته الجدارة الكافية لاحتلال موقع أساسي في التشكيل، لأنه ينتظر منهم أن يتحولوا لجيل ذهبي آخر بمجرد أن تخطو أقدامهم على العشب، متناسيًا أن تشافي قضى سبع سنوات في الظل قبل أن يحوله رايكارد وبيب لأحد أهم اللاعبين الأسبان في التاريخ، وأن إنييستا ظل يتنقل في المراكز لثلاثة مواسم قبل أن يستقر في موقعه الأخير، وأن أشد المتعصبين والمتفائلين لم يكن ليتوقع نصف ما قدمه ميسي مع البرسا، ناهيك عن بوسكيتس الذي يعد المثال الأوضح على خصوصية طريقة اللعب الكتالونية وتفردها، وقدرتها على إخراج الأفضل من المؤمنين بها، حتى ولو لم يمتلكوا الصورة الذهنية التقليدية لبدنيات لاعب الارتكاز، فلا شك أن لاعبًا كبوسكيتس لم يكن ليحصل على نصف فرصة في أي نادٍ آخر.
رحيل إنريكي أصبح ضرورة، ليس لأنه أسوأ مدرب مر على البرسا، بل أن تجربته كانت ضرورية لتدرك كتالونيا مصير الفريق حال تخليه عن المبادئ التي قام عليها، واضطراره للمساومة على شخصيته التي صنعت مجده، لأن مشكلة برشلونة الحالية ليست في عجزه عن صناعة جيل آخر ناجح حتى ولو لم يكن بنفس البريق، ولكن في كونه نسي كيف صنع الأول، واختزل مفهوم الهوية مع الوقت للنتائج الكبيرة على عمالقة القارة والتتويج والمزيد منه، ونسي الجميع كيف بدأ كل ذلك في المقام الأول، وأثناء ذلك قررت كتالونيا تأجيل السؤال الحتمي مرة تلو الأخرى خشية عواقب مواجهته، فكانت النتيجة هي بالضبط ما حاولت تجنبه عبر السنوات القليلة الماضية؛ انفصال الفريق عن الشعار الذي بني عليه.