شعار قسم ميدان

نهائي بوكا جورنيوز وريفربليت.. وأحداث المباراة التي لم تلعب أبدا

ميدان - بوكا

بدأت التكهنات منذ لحظة تحديد أطراف نصف نهائي كوبا ليبرتادوريس؛ هل يلتقى ريفربليت وبوكا جونيورز في النهائي؟. وبعد أيام قليلة نجح ريفربليت في انتزاع التأهل بصعوبة إلى النهائي، ولحق به البوكا بعد 24 ساعة، وأُعلنت المباراة الختامية كسوبر كلاسيكو جديد هو الأول من نوعه؛ فمنذ 58 عامًا لم يلتق قطبا الكرة الأرجنتينية قط في نهائي هذه البطولة. 

هيستيريا
 انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي منذ ذلك الحين عديدٌ من المنشورات تتنبأ بالعنف القادم في المباراة، واتخذ بعضها لغة هيستيريّة مُبالِغة. فلم يكن من الغريب أن تقرأ كلامًا منسوبًا إلى الرئيس الأرجنتيني الذي أُصيب بألم حاد في صدره فور سماع خبر صعود البوكا، واتصل بوالدته طالبًا منها الدعاء للأرجنتين بأن تتجاوز المباراة بسلام. أو أن شرطة العاصمة قد قررت الاستعانة بقوات مكافحة الشغب والقوات الخاصة في الجيش لتأمين المباراة، ولا مانع من أن تطلب دعم مشاة البحرية الأمريكية والسوات والجيش الأحمر الصيني .. وباتمان والأفنجرز!

أثارت تلك الهيستيريا سخرية الكثيرين. خاصة بعد تأجيل موعد مباراة الذهاب بين الفريقين من 10 نوفمبر إلى 11 نوفمبر، مما دفع البعض للإسراع بالقول أن الكارثة قد وقعت. ثم تبين لاحقًا أن السبب كان سوء الأحوال الجوية. وهي المباراة التي انتهت بالتعادل الإيجابي 2-2.

undefined

ربما قللت الهيستريا من إدراك حجم خطورة المباراة. فالسوبر كلاسيكو رغم كل شيء هو حالة طوارئ في العاصمة بيونس أيرس. والتقاء الفريقين في نهائي البطولة هو بالفعل محنة أمنية إلى أن يثبت العكس. وهذا العكس لم يثبت، وتأجلت مباراة العودة عبر الأيام الماضية أكثر من مرة. وبعد أن كان الموعد المقرر لها هو 24 نوفمبر الماضي، أصبح هو التاسع من ديسمبر الجاري.

في الأرجنتين، يقال: "إن لم تكن من مشجعي البوكا، فأنت من أعداء البوكا!". وهذه العباراة البسيطة تقف وراء كل أحداث الشغب التي وقعت.

الدجاج والخنازير
وصف أحد التقارير الصحيفة في الغارديان  ديربي بيونس آيرس فقال أن من يرى العاصمة في ليلة السوبركلاسيكو سيدرك أن ديربي إسكتلندا (أولد فيرم) الشهير بالعنف بين سيلتك ورينجيرز، لا يتجاوز مباراة في مدرسة إبتدائية. فقد تأسس الناديان في بدايات القرن العشرين في منطقة لابوكا الفقيرة نوعًا، وبعد انتقال ريفيربلات إلى منطقة نينوز الغنية، أصبح معظم مشجعيه من طبقة الأثرياء. أما بوكا جونيورز فظل مشجعوه من الطبقة الكادحة الفقيرة. ومنذ ذلك الحين يرى جماهير البوكا خصومهم «دجاج» ضعيف، ويراهم جمهور ريفر كـ «خنازير».

ساهم اللاعبون كذلك في توطين تلك الحالة، خاصة وأنهم في المعتاد يعتبرون أنفسهم مشجعين بالأساس. ففي موسم 2015، وبعد رحلة احتراف أوروبية طويلة، عاد كارلوس تيفيز إلى بوكا. ولكن الخبرة والعمر لم يمنعاه من أداء رقصة الدجاجة في الاحتفال بهدفه الأول في مرمى ريفربليت. أما ماتياس ألميدا مدافع ريفربليت فقد قرر أن يقف أمام مشجعي البوكا ويقبّل شعار ناديه كاحتفال بهدف في مرماهم موسم 2011. ونال كلاهما البطاقة الحمراء على كل حال!

 undefined

وتأتي كل تلك التفاصيل في مرتبة تالية لـ «كارثة البوابة رقم 12» (4). فعقب ديربي يونيو 1968، والذي أقيم على إستاد ريفيربلات المونومنتال، وبسبب التدافع، لقي 71 من المشجعين مصرعهم، وأصيب 190 آخرون. وألقى كل من الفريقين اللوم على الآخر. إذ ادعت جماهير البوكا أن البوابة 12 كانت مغلقة من الخارج ولم يُعلمهم أحد بذلك، بينما ادعى رئيس الريفير آنذاك ويليام كينت أن جماهير البوكا قامت ببعض التصرفات غير اللائقة آلت إلى ذلك الهرج والمرج الذي سبب التدافع وموت المشجعين. وبعد تحقيقات الشرطة لا يعملون إلى الآن من المتسبب الحقيقي وراء أكبر كارثة رياضية في تاريخ الارجنتين. ولكن الواقعة جعلت العلاقة بين جماهير الفريقين قائمة، وبشكل حرفيّ، على دماء الرفاق السابقين. وتجاوزت الأمور السباب إلى ما هو أبعد. وصار من الشائع جدًا أن تقرر الشرطة منع جماهير الفريق الضيف من الدخول لملعب المباراة؛ فجماهير البوكا لا تدخل لملعب المونومنتال وجماهير ريفر لا تدخل ملعب البومبونيرا.

   

قبل المباراة التي لم تُلعب
 قبل لقاء العودة الذي كان مقررًا له تاريخ 24 نوفمبر الماضي، كتب الطالب الأرجنتيني ماتياس ألفاريس عبر صفحته على فيسبوك أنه لن يبادل تذكرته لحضور اللقاء بأي قدر من المال، لكنه عاطل عن العمل، ويمكنه أن يمنح التذكرة لمن يعرض له وظيفة. وانهالت على الفتى مئات العروض.
  

بداية من العام القادم سوف يتغير نظام نهائي كوبا ليبرتادوريس؛ وبدلاً أن يكون بمبارتي ذهاب وعودة، سوف يكون مباراة واحدة في ملعب محايد. وهو ما يزيد من أهمية هذا السوبر كلاسيكو. فالمباراة الثانية التي كانت ستلعب على ستاد مونومنتال هي الفرصة الأخيرة للبوكا كي يفوز على الخصم بين جماهيره وعلى أرضه، وهي كذلك فرصة ريفربليت الأخيرة. ومن ثم ارتفع سعر التذكرة إلى 2000 دولار في السوق السوداء. وخصصت المدينة 2000 شرطي من أجل تأمين اللقاء.
  

هذه المباراة هي فرصة كل فريق كي يسجل انتصارًا تاريخيًا على خصمه، ويزيد المدرب الأرجنتيني الشهير ماوريسيو بييلسا على ذلك فيقول أن السوبركلاسيكو ليس فقط حول الفوز، ولكنه حول رؤية خصمك وهو يعاني. لذلك فإن الهزيمة كابوس أسود.

 

:

وبسبب هذه الحال، ولأن البوكا سوف يفتقد دعم جماهيره في تلك المباراة، فقد فتح لهم ملعب التدريب في أرضه طالبًا تشجيعهم. وبعد ساعات قليلة امتلأ الملعب عن آخره بعشرات الآلاف من الأنصار الهاتفين، مما دفع بلدية المدينة إلى إغلاق أبواب ستاد البومبونيرا خوفًا من حوادث تدافع. ووصف أحد الصحافيين هذه الهتافات، وكأن الجماهير ترسل لاعبيهم إلى الحرب المقدسة!

كما أعلنت جمعية أطباء أمراض القلب في الأرجنتين عن بعض تخوفاتها فيما يخص المباراة، فطلبوا ممن يشاهدوا المباراة ألا يفرطوا في تناول الأطعمة الدسمة والكحوليات قبل المباراة وأن يهتموا بالتمرن قليلاً وشرب المياة. وأن يحذروا من الانفعالات نظرًا لقدرة هذه العوامل على إصابة البعض بأزمة قلبية!

هذه هي الظروف التي سبقت المباراة الأخيرة، وهذه هي الخلفية التي وقعت على إثرها أحداث العنف التي أحاطت ملعب مونومنتال قبل المباراة التي تقرر إلغاؤها.

 

دموع وقمامة

بدأت أحداث الشغب والتي تسببت في تأجل اللقاء عندما وصلت حافلة الفريق الضيف بوكا جونيورز إلى محيط ملعب الخصم. وبمجرد ظهورها تسابقت الجماهير في رشقها بالحجارة والقمامة وكل شيء ممكن، وهو ما أدى لتهشم زجاج النوافذ واضطرت الشرطة لاستخدام الغاز المسيل للدموع كي تفرق الجماهير!
  

  
عقب وصول حافلة الفريق الضيف إللى ملعب اللقاء ظهر أن العديد من اللاعبين قد تعرضوا لاستنشاق الغاز، وظهر كذلك أن قائد الفريق بابلو بيريز قد أصيب في عينه ببعض شظايا الزجاج. وأعلن اتحاد كرة القدم لأمريكا الجنوبية CONMEBOL تأجيل المباراة لمدة ساعة واحدة. ورغم استماتة الفيفا واتحاد القارة لإقامة المباراة يوم الرابع والعشرين إلا أن الأمور لم تذهب نحو ذلك. وأكد أطباء ينتمون لاتحاد القارة أن الحالة الصحية للاعبي البوكا لا تمنع إمكانية بدء المباراة. ورغم ذلك تقرر تأجيل المباراة للمرة الثانية ولمدة ساعة ونصف.
 

أثناء التأخير خرج لاعبو الفريق الضيف بتصريحات بلغت الصحافة، وكانت ضد إقامة المباراة. فقال كارلوس تيفيز أن الأجواء لا تناسب لعب المباراة خاصة مع إصابة بابلو في عينه لأن اللاعبين كذلك يشعرون بالاختناق والغثيان، وقال فيرناندو غاغو لاعب البوكا أن الفيفا هي من تدفع لإقامة المباراة. وغرّد الحارس البرغواياني التاريخي تشيلافيرت قائلاً أن الفيفا تقتل كرة القدم بإصرارها على إقامة المباراة في تلك الظروف. وتقرر في النهاية تأجييل المباراة 24 ساعة عن موعدها الأصلي، وأن تُقام يوم 25، و هو ما لم يحدث بالطبع.

في يوم الخامس والعشرين وقبل 3 ساعات من موعد المباراة خرج رئيس الـ CONMEBOL أليخاندرو دومينغويز بقرار تأجيل اللقاء إلى أجل غير مسمى. وقال أن ثلاثة من لاعبي البوكا احتاجوا لتدخل طبيّ، وأن الفريق خسر جهود قائده بابلو بيريز. وأضاف أن إقامة المباراة في يوم 25 يعني مخالفة مبدأ تكافؤ الفرص. وقال أن ما حدث في يوم الرابع والعشرين هو شيء غير كرة القدم التي نريدها. وأعلن أنه لايعلم أين ومتى سيقام لقاء العودة. فقط سيقام قبل 12 ديسمبر وهو الموعد المقرر لركلة بداية كأس العالم للأندية.

  

في التاسع والعشرين من نوفمبر تقرر[5] عقد مباراة العودة يوم التاسع من ديسمبر على ملعب سنتياغو بيرنابيو بالعاصمة الإسبانية مدريد، وكان ذلك بعد ضغط عنيد من رئيس بوكا جونيورز دانييل أنجليتشي، والذي طالب بضرورة إقامة المباراة على أرض محايدة بعد ما صدر من شغب عن جماهير ريفربليت. ورغم مقاومة الخصم لهذا القرار وأن يبعد عن ملعبه 6000 ميل إلا أن الاتحاد القاري وقع مطالب أنجليتشي. ووقع غرامة 400 ألف دولار على ريفربليت مع حرمانه من استخدام ملعبه لمدة مبارتين.

  

العنف لا يعني شيئًا إلا العنف
 ما سرده هذا التقرير قد يثبت أن القلق الذي سبق لقاء بوكا جونيورز وريفربليت ربما يكون هيستيريا في صياغته ولكنه بالتأكيد كان منطقيًا في تخوفه. فالشظايا تي أصابت بابلو بيريز مثلاً كانت يمكن أن تتركه وقد أنهت مسيرته كلاعب وسلبته عينه لمجرد أن مشجع متحمس قرر إلقاء الأحجار على حافلة الفريق الخصم. فهل تستحق كرة القدم أن تتسبب في ذلك؟

undefined

كثيرًا ما يُساق تصور طفولي عن العنف المرتبط بكرة القدم على أنه أحد أشكال الولاء للفريق، وغرينتا التشجيع. لكن العنف هو ببساطة عنف. إنه طاقة غضب وكراهية تكتسح كل ما يقابلها. لقد بدأ الأمر بين البوكا والريفر منذ 100 عام كصراع طبقيّ، وتحول الآن إلى صراع بين (الدجاج) و(الخنازير) .. صراع تسيل له الدماء وتضيع من أجله الأرواح. يًقال أم  بيل شانكلي هو صاحب عبارة "كرة القدم ليست مسألة حياة أو موت، لأنها أهم من ذلك بكثير". ولكن من منا يريد أن يفقد حياته أو حياة أحد أحبائه من أجل كرة القدم؟!

   

يمكننا فهم عبارة شانكلي في سياق المجازات والتشبيهات، أما أن تتحول إلى واقع، فهذا هو عين البلاهة وفقدان العقل.
  

في الأرجنتين قامت أحد مؤسسات المجتمع المدني واسمها Salvemos al Fútbol (انقذوا كرة القدم) بسرد قائمة بضحايا العنف في البلاد. فبدأت القائمة بطفل على مقعد متحرك مات في 1922 أثناء صدام جماهيري، وانتهت بشاب في العشرين من عمره فقد حياته بعد إصابه في الرأس تعرض لها في أعمال شغب جماهيري بعد لقاء جيمناسيا لابلاتا وديبورتيفو مورون في الرابع من نوفمبر 2018. سردت القائمة أسماء 328 ضحية؛ منهم 6 في العام الجاري و93 في العقد الحالي. وليس في ذلك أي غرينتا أو ولاء بل هو فقط العنف والموت. والحياة أهم من كرة القدم!

المصدر : الجزيرة