شعار قسم ميدان

بنزيما وزيدان وفرنسا.. عنصرية بمئة ألف يورو فقط

midan - بنزيما
من المدهش أن مسيرة حافلة كتلك التي حظي بها كريم بنزيما سيتم تذكّرها على الأغلب لسبب واحد رئيسي لا علاقة له بكرة القدم، فبينما كان رونالدو وبيل زميلاه في الميرينجي يهزون أوروبا بعروض رائعة مع منتخباتهم وبطولة للتاريخ، كان بنزيما يدلي بحديثه الشهير للماركا المدريدية عن "رضوخ مدرب الديوك ديدييه ديشان لضغوط الجزء العنصري من فرنسا". (1)

 

بالطبع بدت تصريحات كريم سخيفة للغاية، خاصة في بلد تناوب على تصدر نجومه أسماء كزين الدين زيدان، بلال ريبيري، وكريم بنزيما نفسه، قبل أن يلحق بهما مهاجر مسلم آخر هو بول بوجبا، بالإضافة إلى العشرات من أصول عربية وأفريقية شكّلوا القوام الرئيسي للديَكة في حقبته الأكثر نجاحا على الإطلاق.

 

لكن في نظر الكثيرين لم تقتصر السخافة على تصريحات بنزيما فقط، بل ربما الأمر برمته سخيف منذ البداية، مجرد اتهامه بالتورط في عملية ابتزاز مالي أمر لا يتجاوز الهزل، (2) لأنه بغض النظر عن كون فالبوينا أحد أصدقائه المقربين، فببساطة من غير المنطقي أن يتكبد كريم كل هذا العناء عبر شهور من أجل 100 ألف يورو في الوقت الذي يصل فيه راتبه الأسبوعي إلى 200، (2) لذا بينما كان الجميع يتحدث عن سخافة كريم تحدث "بنواه هامون" عن واقعيته، عن البلد الذي أصبح يعيش حالة من الإنكار لتصاعد موجات التعصب، والذي يرى اليساري البارز ووزير التعليم الأسبق أن عليه أن يكون أكثر صراحة ويقول إنه لا يحب بنزيما للسبب الحقيقي الذي يعلمه الجميع: سمته العربي. (3)

  

لمهاجم ريال مدريد  كريم بنزيما ومدرب الفريق  زين الدين زيدان
لمهاجم ريال مدريد  كريم بنزيما ومدرب الفريق  زين الدين زيدان
 
خميرة وزبدة

 هل يبدو لك هامون كسياسي يحاول انتهاز الفرصة لتوجيه ضربة رخيصة لخصومه من اليمين المتطرف؟ ربما، لكنه يتحدث عن البلد نفسه الذي وصف رئيسه السابق "نيكولا ساركوزي" شباب العرب المهاجرين بالـ"حثالة"، (4) كان هذا قبل أشهر قليلة من قيام أحدهم بقيادة الديوك إلى نهائي مونديال 2006، ربما هذا ما دعى وزير داخليته "برايس هورتفو" لإجراء تعديل بسيط بعدها بثلاث سنوات، ليتقبل وجود عربي واحد في المنتخب لأن "أكثر من واحد سيسبب مشكلة"، (4) ربما هذا هو السبب، أن المكان الوحيد كان قد حُجِز بالفعل لعادل رامي بعد أن ضربت الإصابات دفاع الديوك قبل البطولة.

 

أزمة الهوية في فرنسا معقدة ومتشابكة بقدر تاريخها الاستعماري، أحيانا تشعر وكأن السود هم المشكلة، ثم تكتشف أن المسلمين مشكلة أكبر، لكن الحقيقة الوحيدة أنها لم تغب عن الساحة أبدا، حتى "شيراك" الذي تعهد بتطوير الـ "Banlieues "أو الأحياء الفقيرة وتقريب المسافات بين الجميع فشل في الوفاء بوعده فعليا، (2) وظلت مجتمعات الـ"غيتو" المغلقة كقنابل موقوتة مستعدة للانفجار في أي وقت، الحقيقة أن كرة القدم لم تكن أكثر من مسكن مؤقت للمشكلة الحقيقية.

 

رأسيتان من "زيزو" في 98 كانتا كافيتين ليُستبدل شعار فرنسا من "أحمر – أبيض – أزرق" إلى "أبيض – أسود – زبدي" (Blanc, Noir et Beur)، باعتبار الزبدة هي المعادل اللوني للمهاجرين العرب، احتضن الجميع اللحظة التي كانت قوة فرنسا فيها في تنوعها وتعدد ثقافات وأصول مجتمعها، وبدا وكأن شيراك قد وفى بوعده رغم أنه لم يسعَ لذلك.

  

undefined

 

ولكن حتى في بلد مهووس بالزبدة ويعتبرها المكون الأهم في أي طبخة، كان المزيد منها مزعجا للكثيرين، ربما لأنهم شعروا أنها بدأت تطغى على باقي المقادير لتصنع طبخة جديدة لا تعبر عن فرنسا بالشكل الكافي، بعد المونديال بعامين أظهرت استطلاعات رأي متفرقة عقبت فوز الديوك بالبطولة الأوروبية أن أكثر من ثُلث المصوتين يعتقدون أن المنتخب يضم عددا "أكبر مما يلزم" من اللاعبين ذوي الأصول الأجنبية. (5)

 

في العام التالي، أقيم لقاء ودي بين فرنسا والجزائر في آخر محاولة لاستغلال حالة الوحدة الخادعة التي أظهرتها صورة "زيزو" على قوس النصر، فكانت النتيجة هي صيحات الاستهجان أثناء عزف النشيد الوطني، والذي لم يكن وطنيا لقطاع كبير من "الزبدة" التي غزت الملعب قبل نهايته ما أدى إلى إلغاء المباراة. (6) بعد تلك الواقعة بعام واحد وصل العنصري "جان ماري لو بان" زعيم الجبهة الوطنية اليمينية إلى المراحل النهائية في الانتخابات الرئاسية، وهو الذي كان قد رفض شعار "أبيض – أسود – زبدي" معتبرا أنه لا يعبر عن "مبادئ" الديوك. (7)

 

نحو مزيد من الدقيق

صافرات الاستهجان تحولت إلى مشكلة أكبر عندما تساءل أحدهم عن سبب رفض "الزبدة" غناء النشيد الوطني "لا مارسييز"؟ نادرا ما شوهد زيدان يغني أثناء عزف النشيد، أما بنزيما فلم تنطق شفتاه "لا مارسييز" قط، نعم، الأزمة بهذا العمق وتلك الحساسية.

  

undefined

 

المشكلة أن النشيد الوطني الفرنسي مُربك ومحير كأزمة كريم بالضبط، الخلاف كله متمحور حول مقطع "فلتُغرق الدماء غير النقية حقولنا"، (8) وفي فرنسا القديمة كان مصطلح "الدماء غير النقية" يشير إلى الفئة الثالثة أو كل من لا ينتمون إلى طبقة النبلاء أو الكنيسة، لاحقا اتخذ المصطلح وظيفة جديدة هي وصف المهاجرين وساكني الـ"غيتو" باعتبارهم ليسوا فرنسيين حقيقيين، وهذا هو سبب تصريح بنزيما عن كونه "لن يُجبر" على ترديد النشيد، (9) التفسير المنطقي أن "روجيه دو ليل" مؤلف النشيد إبان إعلان فرنسا الحرب على النمسا في 1792 كان يقصد دماء الأعداء، (10) حتى بلاتيني نفسه تطوع بتذكير الفرنسيين أن جيله لم يغنِّ النشيد إلا نادرا، (9) وأن افتعال أزمة من العدم ليس هو ما تحتاجه فرنسا الآن، ولكن فرنسا كانت أكثر توترا وتحفزا من أن تنتبه لهكذا تفاصيل.

لذا لم يكن فوز "شيراك" على "لو بان" أكثر تأثيرا من رأسيتي "زيزو"، مجرد مسكن آخر منح فرنسا مزيدا من الوقت، نشطت الجبهة الوطنية وبدأت الطبخة تختمر لتكون المشهد الحالي.

 

في 2005 قال "جورج فريش" عمدة مونبلييه إنه ليس من الطبيعي أن يضم المنتخب 9 لاعبين سود من أصل 11، (11) في الوقت نفسه الذي كان يصرح فيه "آلان فنكلكراوت" أحد أبرز مثقفي البلاد لصحيفة "هآرتز" الصهيونية عن الديوك الذين صاروا أضحوكة القارة وشعار "أسود – أسود – أسود" الذي ساد المشهد في النهاية، (12) وبالطبع لم يفت "مارين لو بان" ابنة الزعيم السابق للجبهة الوطنية أن تمتطي موجة الكراهية لأنها "عندما تنظر للديوك لا تتعرف على فرنسا أو حتى نفسها". (13)

 

بحلول عام 2010 وبالتزامن مع إضراب لاعبي المنتخب في جنوب أفريقيا، لم تعد "مارين لو بان" هي أكبر مشاكل مهاجري فرنسا، ومع الوصول إلى لحظة اليورو التي أطلق فيها بنزيما اتهامه، أظهر استطلاع رأي أجرته صحيفة "لو فيجارو" أن الضيق من وجود الإسلام في فرنسا لم يعد مقصورا على أجنحة اليمين المتطرف، بل تمدد ليشمل الطيف السياسي الفرنسي بأكمله، (14) فمنذ 6 أعوام كان 39% من المصوتين يعتقدون أن الإسلام يلعب دورا "أكثر أهمية مما يجب"، الآن ارتفعت النسبة إلى 52%، ومنذ ثلاثة عقود كان واحد من كل 3 فرنسيين يؤيد بناء المزيد من المساجد لاستيعاب أعداد المهاجرين المتزايدة، بينما حاليا لا تتجاوز النسبة 1 من كل 10.

  

ماري لوبان رئيسة حزب الجبهة الوطنية (فرنسا) اليميني المتطرف  (رويترز)
ماري لوبان رئيسة حزب الجبهة الوطنية (فرنسا) اليميني المتطرف  (رويترز)

 

طبخة تورام

ربما لو أجرينا استفتاء من نوع آخر على مستوى العالم لأجاب 9 من كل 10 أن كل هذا منطقي جدا، وأن ما تعرضت له فرنسا من أعمال إرهابية علت وتيرتها في الفترة التي سبقت تنظيم البطولة قد يبرر كل هذا الهلع، وأن الجبهة الوطنية لم تفعل سوى استثماره.

 

كل هذا رائع ومنطقي ومبرر، لكن ينقصه تفصيلة واحدة كانت فرنسا أكثر توترا وتحفزا من أن تلاحظها: الإرهاب لا يهتم بكل هذا الهراء ولا تعنيه نسبة الزبدة أوالدقيق في الخلطة، لأن الهدف هو الطبخة نفسها، مجرد وجودها يهدد وجوده، لأنه يخبر العالم أن هناك طريقة أخرى غير طريقته، والحافلة الملغمة التي كانت في طريقها لملعب "ستاد دو فرانس" لم تكن لتستثني المسلمين الخمسة في صفوف الديوك، أو الأربعة في صفوف المانشافت، كما لم تستثنِ ابن عم الحسن ديارا، الذي كان من المفترض أن يبدأ المباراة. (15)

  

"تورام"، أحد هؤلاء الذين كانوا سببا في خروج "أبيض – أسود – زبدي" إلى النور، والذي عاد لفرنسا بعد رحلة احتراف طويلة لينشئ مؤسسة لمحاربة العنصرية
 

"تورام"، أحد هؤلاء الذين كانوا سببا في خروج "أبيض – أسود – زبدي" إلى النور، والذي عاد لفرنسا بعد رحلة احتراف طويلة لينشئ مؤسسة لمحاربة العنصرية، يرى أن الأسود والزبدي عليهم أن يقدموا صورة مثالية للمجتمع الفرنسي حتى وإن لم تكن حقيقية، والتغاضي عن العنصرية والتطرف كلما أمكن، لأن الأجيال التالية الخارجة من الـ"غيتو" عليها أن تجد مثالا متسامحا في بنزيما ورفاقه، يساعد المجتمع على تخطي إرثه الاستعماري القديم. (16)

 

الآن يقف الديوك على باب معترك دولي جديد ولم يُستدع بنزيما بعد. الرجل يمر بأسوأ مواسمه على الإطلاق منذ حل على مدريد ولا خلاف في ذلك، لكن في الواقع لا مبالغة إن قلنا إن كريم الذي قدم أفضل مواسمه مع الميرينغي قبل وقوع الأزمة لم يعد كما كان أبدا بعدها، وانحدر مستواه حتى وصل إلى الحالة الحالية، وكلها تفاصيل لا تؤثر كثيرا في مجرى القصة لأن فرنسا لم تستدع كريم حتى وهو يلعب دورا مهما في ثانية عشر الريال الأوروبية، لذا قد تكون طبخة تورام منطقية بالفعل في فرنسا مثالية. فرنسا لا تعامل الـ"غيتو" كالمستعمرات ولا تشترط "زيزو" جديد كل بضعة أعوام لترضى عن نسبة الزبدة في الخلطة.