شعار قسم ميدان

صلاح أم دي بروين.. هل المصريون مؤهلون للديمقراطية؟

midan - انفوجراف

عادة ما يُفتتح الحديث في مثل هذه المناسبات باعتراف. اعتراف بأن شهادتنا مجروحة وبأننا نواجه صعوبة في التغلب على عواطفنا أو الحكم بشيء من التجرد. بالطبع كان هذا الاعتراف ليصبح أكثر قيمة لو لم يفز هدف صلاح في السيتي بجائزة أفضل هدف في الأسبوع منذ أيام، ولكن الحقيقة أن الوضع صعب، والاستفتاءات الأخيرة لم تمنح العالم انطباعا جيدًا عن قدرة العرب – وبخاصة المصريين – على التعامل مع الديمقراطية، والاعتراف بالتحيز بعد كل ذلك سيكون استهانة بذكاء العالم إن جاز التعبير. (1)

  

التصويت يمنح صلاح جائزة لاعب الشهر في البريميرليغ حتى ولو لم يكن الأفضل، والتصويت يجعل من صلاح لاعب الأسبوع في أوروبا رغم أن هناك من تفوق عليه، بل وحتى في سباق أفضل هدف، يمحي التصويت مقصية رونالدو وكأنها لم تكن، ولو أحرزها البرتغالي من 60 ياردة لما نجحت في التغلب على أي هدف يحرزه المصري، حتى ولو كان في مرماه. نحن لسنا أمام شهادة مجروحة، بل الملايين منها، وهي ليست مجروحة وحسب بل شق أحدهم رأسها بفأس ثم مثّل بجثتها وسط تشجيع الجميع. (2) (3)

 

ماذا تعلم عن المنطق؟

الأمر مركب ومعقد للغاية. كل الأمور التي تمس هذا الكم من البشر لابد وأن تكون مركبة، ومعقدة، وما يزيدها تعقيدًا هو الإجابات القاطعة التي تتجاهل كل هذا التعقيد. تحتاج أن تكون متعصبًا من طراز فريد لتجزم أن البلجيكي أو المصري يستحقان الجائزة بلا تفكير أو تمحيص، في الواقع وصل الكثيرون لتلك الإجابة بالفعل بعد أن استخدموا أقدم حيلة في الكتاب؛ من أحرز أهدافًا أكثر؟ صلاح؟ إذن فيم نتحدث؟

       

   

بعد ذلك يأتي دور الصحافة الأجنبية. إذا كنت تظن أن الإجابات القاطعة هي الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يزيد الأمور المعقدة تعقيدًا فأنت لا تعلم الكثير عن مدى التعقيد الذي يمكن أن تصل له الأمور المعقدة، وللأسف ليس هناك طريقة أكثر تهذيبًا لنقول إن الإعلام الأجنبي ينافق صلاح حتى ولو كان يستحق البالون دور وليس فقط أفضل لاعب في إنجلترا، أو ينافق المصريين للدقة، أو ينافق أعداد المصريين بالأحرى. المهم أن التجربة أثبتت أنه بإمكانك تضخيم أي شيء حتى لو كان أفضل لاعب في التاريخ، بطريقة ما صار كل شيء في عصر السوشيال ميديا، ينال أكثر من حقه وأقل منه في آن واحد.

   

لا شيء أجمل من مشاهدة صفحتك على الفيسبوك أو يوتيوب أو تويتر وأرقام الإعجاب بجانبها تتزايد في جنون، وكأنك تنظر إلى رصيد حسابك البنكي. لا ليس كأنك، بل هذا ما يحدث فعلًا. يعتقد المؤرخون أن حساب فيورنتينا الرسمي كان أول من رصد هذه الظاهرة وحاول استثمارها، ومن ثم تبعه روما وليفربول وكل المواقع الرياضية تقريبًا، والحقيقة أنك تحتاج لقدر هائل من التجرد لتلومهم، تجرد مشجع ليفربولي مصري اختار مقصية رونالدو كأفضل هدف في ذهاب دور الثمانية من دوري الأبطال.

     

   

صلاح أم صلاح.. هذا هو السؤال

لأنه واحد من تلك المواقف التي يمكن تلخيصها في نكتة، فإن أحدهم فعل ذلك مستبدلًا مشهد القرموطي الشهير "مع السلامةيا حبيبي..مين ده؟" بـ"صلاح طبعًا.. هو كان إيه السؤال؟". نعترف بكل ذلك. القول بأن شهادتنا مجروحة ليس كافيًا بالتأكيد، والسؤال الوجودي الذي طرحه الراحل عمر سليمان طفى على السطح مرة أخرى لأن أحدًا لم يستطع مقاومة المفارقة الساخرة. (4)

  

أما وقد اعترفنا، وبعد أن شققنا طريقنا وسط مستنقعات التحيز الأعمى وعواصف العاطفة التي لا تهدأ، فلا بأس من تذكر السؤال الأصلي؛ صلاح أم دي بروينه.. ولماذا؟ سنتحدث في كرة القدم الآن فخذ حذرك.

 

أول ما سيواجهنا هو المعضلة التقليدية؛ نجم بين النجوم أم خارق وسط عاديين؟ دي بروينه يمتلك أفضلية واضحة كونه يلعب في فريق بطل، ويجاوره مجموعة من أفضل لاعبي البريميرليغ. صلاح لا يلعب مع مجموعة من العاديين بالضبط، ولكنهم أقل من مجموعة السيتي على المستوى الفردي بالقطع. في الواقع صلاح نفسه كان يقع تحت نفس التصنيف حتى الصيف الماضي. لذا فالسؤال هنا ينحصر في كل ما هو نسبي، أي ببساطة، أيهما كان أكثر تأثيرًا على نتائج فريقه؟

 

أمّا ثاني ما سيواجهك فهو المعضلة التقليدية؛ نجم بين النجوم أم خارق وسط عاديين؟ صلاح يمتلك أفضلية واضحة كونه يلعب بلا ضغوط في فريق لا ينافس على اللقب وبجواره مجموعة من اللاعبين الجيدين الذين يسهل اللمعان وسطهم، على الأقل مقارنة بما يتطلبه التألق بجوار سيلفا وأغويرو وساني. لذا فالسؤال هنا ينحصر في كل ما هو مطلق، أي ببساطة، أيهما اللاعب الأفضل في العموم؟

        

     

ثالث ما سيواجهك هو المعضلة التقليدية؛ الفارق بين النسبي والمطلق وأهمية كل منهما في تقييم موسم واحد لا جائزة تُمنح عن مجمل الأعمال، فالجائزة نفسها نسبية لأنها تفضل لاعب على آخر وتقارن ما قدمه الثنائي مقارنة ببعضهما البعض، وقبل أن تدرك ستجد نفسك في معضلة ميسي ورونالدو من جديد. السوشيال ميديا قادرة على منح كل الأشياء أكثر وأقل من حقها في آن واحد، وهي كذلك قادرة على تحويل كل شيء إلى ميسي ورونالدو مهما بدا بعيدًا عن ذلك في بداياته؛ صلاح ودي بروينه، غوارديولا ومورينيو، ميسي ومارادونا، مارادونا وبيليه، صلاح وأبو تريكة، صلاح ومحرز. القائمة لا ولن تنتهي.

  

صلاح أم صلاح.. لا يوجد سؤال

دي بروينه نفسه اختار صلاح. الرجل كان قد صرح أنه يرى نفسه جديرًا بالجائزة، ولكن بما أنه لا يستطيع اختيار نفسه طبقًا للوائح التصويت فقد اختار منافسه واعتبره المرشح الأبرز للفوز. لفتة جميلة وما يجعلها كذلك أن البلجيكي عبر عن تفضيلاته الشخصية ثم تجاوزها بنضوج يُحسد عليه. (5)

 

لا شيء أجمل من مشاهدة صفحتك على الفيسبوك أو يوتيوب أو تويتر وأرقام الإعجاب بجانبها تتزايد في جنون، وإذا كان هناك ما سيمنحك ذلك بشكل أفضل من التصويت فهو التصويت على التصويت. أغلب مواقع الصحف الرياضية ذهبت إلى التصويت على التصويت سواء اكتفت به أو سبقه رأي محرريها في الأمر. التليغراف الإنجليزية كانت الصحيفة الوحيدة تقريبًا التي قررت أن أعداد المصريين ليست مخيفة لهذه الدرجة ومن ثم نشرت تصويتًا بين محرريها يكتسح فيه دي بروينه صلاح بخمسة أصوات لواحد، لذا إن سمعت عن غلق التليغراف قريبًا فأنت تعلم السبب. (6) (7) (8)

  

بالطبع ذهب البعض لأن الاختيار بين الثنائي يكاد يكون مستحيلًا ولكن كتاباتهم لم تُقرأ، لأن في معركة كتلك فإن أسخف ما يمكن فعله بالنسبة للجماهير هو ألا تختار أحد الطرفين بوضوح، هؤلاء أغضبوا الجميع رغم أنهم طرحوا الأسئلة الأهم. (9)

 

هل كان السيتي ليخسر البريميرليغ هذا الموسم لو لم يمتلك دي بروينه؟ سؤال صعب بدوره يستحيل الإجابة عليه عمليًا. لنطرح السؤال الأسهل إذن؛ هل كان ليفربول ليصل إلى مقعد مؤهل لدوري الأبطال ونصف نهائي البطولة لو لم يقدم صلاح ما قدمه؟ بالقطع لا. في الواقع فإن أكثر ما قدمه صلاح كان في غياب ما يمكن اعتباره دي بروينه ليفربول، كوتينيو الذي رحل لبرشلونة ولم يؤثر على موسم الريدز سلبًا في وجود صلاح، إن لم يكن قد حرر الفريق من سطوته والاتكالية على مهاراته.

 

هنا تتوالى الإجابات وكأن العقدة قد انفكت مرة واحدة، وتختفي معضلة النسبي والمطلق لأن صلاح هو أول من ينجح في إقحام نفسه في ثنائية ميسي ورونالدو عنوة، وعندما تقترب من الاثنين فلقد نجحت في تحويل النسبي إلى مطلق فعلًا ولم يعد للسؤال قيمة، وحتى لو لم يكن الثنائي في أوج عطائهما الرقمي إن جاز التعبير. ناهيك عن حقيقة أن نصف موسم دي بروينه الثاني لم يكن بجودة الأول. تلك هي إحدى الحقائق القليلة المؤكدة في هذا السياق، لأن الإرهاق بدا واضحًا على البلجيكي منذ يناير ولم تكن عروضه في 2018 بنفس روعتها في 2017، وباعتراف الرجل نفسه. (10)

      

    

صلاح أم عمر سليمان.. هذا هو السؤال

وبما أن العقدة قد انفكت فمن الواجب القول بأن المصريين ليسوا مؤهلين للديموقراطية فعلًا، وتسليط الضوء على مجهودات صلاح صار معقدًا للغاية ويتطلب مجهودًا خارقًا بدوره، لأن المبالغات، وعلى عكس المُراد منها، صارت تنتقص من كل ما يفعله صلاح وتنزع المصداقية عن كل رأي يؤكد على استحقاقه، حتى وإن تظاهرنا بالعكس.

    

تلك المرة فاز صلاح بكل التصويتات الممكنة وغير الممكنة، وعلى الأغلب سيفوز بالجائزة. ليس فقط لأن موسمه قد يكون أفضل مقارنة بالبلجيكي ولكن لأن حكايته أفضل كذلك، وحكايته أفضل لأنه كان رائد ما فعله وأول من فعله من مصر، بكل ما يتطلبه ذلك من تعامل مع ضغوط لا إنسانية من جهة، ومن جهة أخرى إشادات متطرفة كفيلة بنسف تواضع غاندي نفسه.

   

متى سيصبح المصريون – أو غيرهم – مؤهلين للديموقراطية؟ ببساطة عندما يعتادونها، كغيرهم أيضًا. عندما يمتلكون أكثر من 10 صلاح في دوريات أوروبا الكبرى ولا يضطرون للتشبث به وكأنه أول وآخر محترف مصري يشعرهم بأن صلتهم بالعالم الخارجي لم تنقطع بعد. عندما لا تصبح حكاية صلاح مجرد حكاية تتكرر مرة كل 20 أو 30 عامًا. (11)

  

في الواقع السؤال خادع للغاية. عمر سليمان لم يسأل أبدًا ما إذا كان المصريون مؤهلين للديموقراطية أم لا بل جزم بأنهم ليسوا كذلك مع أول تجربة، مع أول هزيمة لمقصية رونالدو وأول جائزة غير مستحقة، بينما صلاح يمتلك فرصة لطرح السؤال مجددًا في المواسم القادمة مع كل أداء مشابه يضعه تحت طائلة التصويت. شهادتهم ستظل مجروحة لفترة من الزمن بالتأكيد ولكنها قد تتعلم من التجربة. الشهادة الوحيدة التي ستظل مجروحة مهما حدث هي شهادة عمر سليمان نفسه لأنها أطلقت حكمها دون تجربة، وهي ليست مجروحة وحسب بل شق أحدهم رأسها بفأس ثم مثّل بجثتها وسط تشجيع الجميع.