شعار قسم ميدان

الكلاسيكو.. قصة المقاومة الكتالونية ضد حكم مدريد

ميدان - الكلاسيكو.. قصة المقاومة الكتالونية ضد حكم مدريد
اضغط للاستماع
    
في كلاسيكو موسم 2012 في الكامب نو، وأمام ما يفوق من 400 مليون متابع عبر قنوات البث التليفيزيوني، رفع 98 ألف مناصر كتالوني لافتات تحمل ألوان الأحمر والذهبي[1]، هاتفين بكلمة واحدة: "الاستقلال.. الاستقلال".

 

وفي هذا الموسم، بتاريخ الأول من أكتوبر 2017، تقرر عقد استفتاء[2] شعبي لسكان الإقليم البالغين 7.5 مليون مواطن على الاستقلال. وهو ما اعتبرته الحكومة الإسبانية حدثًا غير شرعيّ. ولسبب لا يمكن أن يأتي من قبيل المصادفة، كان جدول الدوري قد وُضع بحيث يلعب برشلونة ضد لاس بالماس على الكامب نو في ذات اليوم. وبعد الصور المروعة التي أتت من هناك لما يزيد عن 800 حالة إصابة بعد الاشتباك بين الشرطة الإسبانية والمواطنين، رأت إدارة برشلونة أنه من غير المنطقي أن تُقام المباراة. لكن الاتحاد الإسباني أصر، وهدد برشلونة بعقوبات في حال تأجيلها، قائلاً أن تأمين المباراة هو مهمة الشرطة الكتالونية. فرضخ النادي، لكنه قرر عقد المباراة في ملعب بلا جمهور، في استاد بأبوابٍ مغلقة على سبيل الاعتراض. وفي الخارج كانت كتالونيا كلها تهتف: "الاستقلال.. الاستقلال!".

   

بويول وتشافي وكأس العالم وعلم كاتالونيا
بويول وتشافي وكأس العالم وعلم كاتالونيا

    

كارليس بويول وتشافي هيرناندز يفوزان مع منتخب إسبانيا بكأس العالم في جنوب أفريقيا، وأثناء الاحتفال يرفعان راية الأحمر والذهبي. بيب غوارديولا يتعرض لعقوبات من الاتحاد الإنجليزي بسبب ارتداء شارة سياسية، فيدفع الغرامة التي أقرها الاتحاد غير مقتنع بأحقيتها، ويستمر في ارتداء تلك الشارة الصفراء على صدر معطفه ناحية اليسار.

 

لكي نفهم إسبانيا عمومًا أو الكرة الإسبانية، ولكي نفهم كلاسيكو الأرض تحديدًا، لا يمكن أن ننظر الأعوام القليلة الماضية. ولكن علينا الذهاب إلى بداية القرن العشرين. تحديدًا عن عام 1936 عندما قرر الجنرال فرانشيسكو فرانكو أن يتحرك من المغرب نحو العاصمة مدريد.

 

فرانكو يصل إلى الحكم

في منتصف عام 1936 سادت إسبانيا حالة من الفوضى[3] السياسية أعقب فوز ائتلاف اليساريين الجمهوريين بانتخابات شرعية، انتهت بصعودهم لكرسي حكم البلاد. وهو بالطبع ما لم ترض به القوى اليمينية هناك. وتحركت قوى مدعومة من أصحاب المصلحة كالبرجوازيين والكنيسة من أجل إسقاط هذه الحكومة. وفي ذات التوقيت تحرك الجنرال فرانكو، قائد الفيلق الأفريقي في المغرب نحو إسبانيا، معلنًا نيته في إسقاط الحكومة، وإعادة الملكية التي يؤمن بها. وانضمت إليه كل القوى المستفيدة، وكذلك كل أسلحة الجيش باستثناء البحرية والطيران.

 

ومن هنا بدأت أحداث الانقلاب العسكري الأخير والحرب الأهلية الأخيرة في تاريخ غرب أوروبا الحديث. وأصبح طرفي النزاع هما الفاشيون العسكريون المدعومون من إيطاليا وألمانيا النازية ضد الجمهوريين المدعومين من الاتحاد السوفييتي.

 

وبعد حرب طاحنة لم تنته إلا في بدايات عام 1939، وبعد مقتل نصف مليون إنسان وتهجير رقم مماثل، فاز العسكر في الحرب. و رغم إيمان فرانكو بمبادئ محافظة، وبالنظام الملكي، إلا أنه رأى أن الأسرة الحاكمة أضعف من إدارة الأمور في إسبانيا. فاستولى على الحكم وبدأ عهد 36 عامًا من الحديد والنار.

   

الجنرال فرانكو بعد الفوز بالحرب
الجنرال فرانكو بعد الفوز بالحرب

     

ومنذ اللحظة الأولى عرف فرانكو أن أمامه العديد من المشكلات. لكنه وجد الحل في كرة القدم لاثنين منهما. الأولى هي الأقاليم الانفصالية وخاصة إقليمي كاتالونيا والباسك. والثانية كانت حالة من النفور الأوروبي ضد الجنرال الذي رغم عدم مشاركة بلاده في الحرب العالمية، إلا أنه حمل وصمة عار أن يكون صديق هتلر، وحليف الديكتاتور الإيطالي موسولوني. ووجد الجنرال نفسه على كرسي حكم بلد تحاول بعض أجزاؤه التحرر، وبلد معزول أوروبيًا ودوليًا.

 

ضد برشلونة

«كانت مباراة الكلاسيكو الأولى لي في ملعب مدريد، ووعندما وصلنا كانت جماهيرهم تهتف: إسبانيا!.. إسبانيا! وكأنهم يقولون نحن الإسبان وأنتم لا علاقة لكم بإسبانيا.»

(المدرب برشلونة الإنجليزي في الثمانينات تيري فينابلز)

    

يحكي[4] غاري لينكر الشهير عن وصوله كلاعب محترف في صفوف البلوغرانا، ويقول رغم إدراكه لأهمية الخصومة بين ريال مدريد وبرشلونة، إلا أنه لم يكن يفهم الأمر جيدًا حتى أن وصل إلى كاتالونيا. وبدأ في سماع القصص عن هؤلاء الذين سُجنوا لأنهم تكلموا باللغة الكتالونية في عهد فرانكو. وهنا بدأ فهم طبيعة الكلاسيكو. إنه مواجهة بين برشلونة الممثل للهوية الكاتالونية، وبين بقية إسبانيا متمثلة في ريال مدريد.

 

قبل لينكر لاعب المنتخب الإنجليزي في الثمانينيات، وفي عام 1925 زارت أحد الفرق الإنجليزية مدينة برشلونة، وتقرر إقامة مباراة تجمع بين الفريق الإنجليزي والكاتالوني. وقبل البداية بدأ عزف النشيد الوطني الإنجليزي، فوقف رجال الملكة بالطبع في صمت وإجلال. وصفقوا له في النهاية. وبعده بدأ نشيد إسبانيا، ولم يلق له الحاضرون من الجمهور أي اهتمام. وعقب هذه الحادثة قررت السلطات الإسبانية طرد السويسري جوان جامبر من البلاد، وكان رئيس النادي أنذاك ومؤسسه منذ البداية. وتقرر وقف نشاط النادي لمدة 6 أشهر.

 

ومن ثمّ فلا يصعب أن نتخيل لماذا انحاز الإقليم للمقاومة الديموقراطية في أثناء الحرب الأهلية. ولماذ كان معقلاً للميليشيات الدولية التي تطوعت للحرب من أجل الديموقراطية. والثمن المدفوع لم يكن قليلاً. ففي عام 1938، ومع بداية تقدم الفاشيون نحو حسم الحرب، تعرضت كاتالونيا للقصف الجوي. ويُقال أن الطيران النازي هو من نفّذ هذه المهمة لصالح فرانكو. وفي 3 أيام فقط سقط عشرات الآلاف من الكتلان قتلى. وانهار مقر نادي برشلونة تحت القصف، ودُفنت الكؤوس إللي حققها النادي تحت الأن الأنقاض. وبعد مقف إطلاق النار، وقعت عقوبات إعدام طالت 25 ألف من أهل الإقليم المقاوم!

    

أسرى المقاومة الديمقراطية أمام الجيش بعد وقف القتال في الحرب الأهلية
أسرى المقاومة الديمقراطية أمام الجيش بعد وقف القتال في الحرب الأهلية

     

لم يتوقف الأمر هنا، فهناك حكاية جوزيب سانيول الرئيس التاريخي لبرشلونة. والذي كان عضوًا يسار كاتالونيا الجمهوري، وهو حزب انفصالي ومعادٍ للفاشية العسكرية الإسبانية. وكان الرجل كذلك عضوًا في المقاومة. وانتهت حياته على آيدي إحدى الميليشات التابعة لفرانكو بعد إعدام دون محاكمة!

 

كما أن فرانكو في محاولة للسيطرة[5] على الأقاليم الإسبانية الانفصالية، قرر منع استخدام اللغات المحلية في هذه الأقاليم. وبذلك تغير اسم برشلونة من FC Barcelona وأصبح Barcelona CF. وقرر كذلك منع تطبيق قانون نادي أتليتكو بلباو الذي يقصر تمثيل ألوان النادي على مواطني إقليم الباسك فقط؛ إسبان أو فرنسيين. وقرر كذلك تغيير اسم النادي من اسم Athletic Bilbao الباسكيّ إلى Atlético Bilbao! وهنا ظهر شعار برشلونة الشهير لأول مرة.. أكثر من مجرد نادٍ!

 

الحقيقة أن فرانكو لم يكن مشجعًا حقيقيًا لكرة القدم، أو مهتمًا باللعبة من الأساس. لكنه أدرك قوتها مبكرًا جدًا. وأدرك أن شعبية تلك الأندية يمكن ببساطة أن تصبح معبرًا عن رغبتها السياسية. ولذلك حاول قمعها بقوة. وهو ما أدّى بالطبع إلى عكس ما أراد. لكن النجاح الحقيقيّ الذي حققه الديكتاتور العسكري كان في استخدام ريال مدريد كوسيلة اختراق للعزل المفروض على البلاد سياسيًا واقتصاديًا. وجسرًا للعبور نحو علاقات طبيعبية مع المحيط الأوروبي.

 

مع مدريد

«لم ألعب كرة القدم في مدريد من أجل فرانكو، ولكن من أجل الناس!»

(دي ستيفانو)

    

بين عامي 1939 و1954 لم يفز ريال مدريد بأي لقب إسباني هام. بينما فاز برشلونة بخمسة ألقاب. وتزامنت نهاية تلك الحقبة مع إدراك فرانكو للدور الذي يريده من ريال مدريد سياسيًا. وتزامنت كذلك ظهور[6] ألفريدو دي ستيفانو الأرجنتيني الشهير. والذي شارك في بطولة وديّة أقيمت في مدريد مع فريق ميلوناريوس الكولومبي، فالتفتت إليه أنظار برشلونة على الفور. وتعاقدوا مع اللاعب عن طريق الاتفاق مع ناديه الأصلي ريفير بلات، بشرط موافقة النادي الكولومبي والتي كانت موافقة صورية لأن الفيفا لم تكن قد أدرجت الدوري الكولومبي بعد في قوائمها. وبالفعل لعب دي ستيفانو 3 مباريات وديّة بقميص البلوغرانا.

 

هنا تدخل الجنرال فرانكو بطريقة مباشرة عن طريق أحد الإداريين في النادي الكولومبي. والذي اعترض على الصفقة وعرقلها. ودفع بها في مصلحة ريال مدريد. وأصبح الأمر هنا في يد الفيفا. والتي أقرت اتفاق برشلونة. لكن فرانكو الذي لا سلطة له على الفيفا، يمتلك سلطة كاملة على الاتحاد الإسباني. والذي أصدر قرارًا بمنع شراء اللاعبين الأجانب! وبذلك أصبح مصير انتقال دي ستيفانو في يد فرانكو! وفي اتفاق هزلي، تقرر أن يصبح اللاعب مقسمًا بين الناديين؛ موسم في الريال، وموسم في البرسا. ووافق إنريك كاريتو رئيس النادي الكاتالوني على هذا الاتفاق! ولعب دي ستيفانو موسمه الأول لريال مدريد محرزًا رباعية في شباك برشلونة في الكلاسيكو الأول!

  

undefined

     

لم يتم الاتفاق بالطبع كما كان مخططًا له. وتحت ضغط جمهور كاتالونيا استقال كاريتو من منصبه كرئيس للنادي. وبدأ عهد دي ستيفانو مع جلاكتيكوس الريال الأول، والذي سيطر على كرة القدم الأوروبية في النصف الثاني من الخمسينيات. مانحًا الجنرال فرانكو المكاسب السياسية الخارجية التي أرادها!

    

كانت كرة القدم الإيطالية والألمانية هي الملهم الأول لفرانكو في خطته[7]؛ فقد رأى تنظيم الحكم النازي لأولمبياد برلين واستخدامها سياسيًا كوسيلة بروباجندا للنظام هناك. ورأى كذلك منتخب إيطاليا الفائز بكأس العالم والذي كان يغني للدوتشي قبل وعقب كل انتصار. وقرر أن يلعب ريال مدريد هذا الدور.

 

وكان الجالاكتيكوس الأول للريال على موعد مع النجاح عندما حسم الألقاب الأوروبية الخمسة الأولى في التاريخ بشكل متتال. وبذلك أصبحت صورة إسبانيا في أوروبا هي الفريق الكروي الذي يجتاح ملاعب الخصوم. وعقب ذلك نجح فرانك في استخدام منتخب إسبانيا في خطته. وبدأ الأمر في أمم أوروبا عام 1960 عندما انسحب لا روخا أمام المنتخب السوفييتي المرعب في ذلك الوقت. والسبب الحقيقي للانسحاب كان خوف فرانكو من الهزيمة أمام المعسكر الشيوعي الذي ساند الديموقراطيين أثناء الحرب الأهلية. وهو ما لم يتكرر في أمم أوروبا 1964 عندما تواجه المنتخبان في نهائي البطولة. والهزيمة حينها لم تكن خيارًا يمكن أن يقبله فرانكو تحت أي ظرف. وبالفعل استطاع المنتخب أن يحقق لقبه الأول والوحيد في القرن العشرين. ويلحق الهزيمة بالسوفييت.

 

استخدم فرانكو هذه الانتصارات أولاً في تشتيت الانتباه داخليًا عن فساد حكومته وقوانينها الجائرة. واستغل البث التليفيزيوني في وصول هذه الحالة إلى أكبر عدد ممكن من الشعب الإسباني. وكانت واحدة من الحالات التي فيها كرة القدم فعلاً أفيون للشعوب. ثم استمر استثمار النجاحات بسلب جزء من أفضلية برشلونة محليًا لصالح ريال مدريد. وعقب سنوات طويلة من تراجع الملكي محليًا، عادت إليه التتويجات. خاصة وأن الفريق امتلك جيلاً ذهبيًا وتعاقدات من طراز دي ستيفانو وبوشكاش. ودوليًا استفاد فرانكو كذلك بعودة العلاقات مع المحيط الأوروبي، خاصة وأنه وجد لنفسه مكانًا في الخطة الأمريكية لمواجهة المد الشيوعيّ السوفييتي في أوروبا! واستطاع الجنرال أخيرًا أن يتخلص من وصمة عار أصدقائه السابقين؛ هتلر وموسوليني.

    

الـ 11-1

«لا يمكنك أبدًا أن تفصل كرة القدم الإسبانية عن السياسة في البلاد»

(جيمي بيرنز، مؤلف كتاب لا روخا)

  

كثيرٌ من عداوات كرة القدم تعود، كما قيل[8] في هذه السلسلة من تقارير ميدان، إلى أسباب اقتصادية أو دينية أو طبقيّة. ولكن الأسباب السياسية تبقى هي الأقوى. وتبقى حالة الكلاسيكو كمثال على صراع نشأ من جذور سياسية لكنها لم تنتهِ إلى الآن. ومازالت تلك المباريات تمثل أهمية خاصة منفصلة عن البطولة التي تُلعب فيها. إنها الفرصة الإسبانية الدائمة للتأكيد على مركزية مدريد وقبضتها على كل أقاليم البلاد. وهي الفرصة الكتالونية المستمرة للمقاومة ضد الطابع الإسباني الذي لا يراه الإقليم معبرًا عنه.

    

صحيفة الماركا تنشر خبر فوز الريال على برسا بنتيجة 11- 1 في إحدى مباريات الكأس عام 1943
صحيفة الماركا تنشر خبر فوز الريال على برسا بنتيجة 11- 1 في إحدى مباريات الكأس عام 1943

     

الصراع محتدم منذ نشأته ولم تغيره السنوات. فهو محموم منذ البداية. يُحكى في تاريخ كرة القدم عن مباراة أسطورية جمعت بين فريق نازي وفريق أوكراني وقت احتلال ألمانيا لأوكرانيا. وتقول الأسطورة[9] أن مبعوث من هتلر قد نزل إلى غرف خلع الملابس وهدد اللاعبين الأوكرانيين بضرورة الهزيمة. وإلا سوف يقتلون جميعًا. الحقيقة أن هذه الأحداث لم تقع قط في أوكرانيا، ولم يجرؤ النازي على هذا الجنون. لكن رئيس أمن الدولة في حكومة فرانكو أقدم[10] عليه عام 1943. عندما نزل بين شوطي مباراة العودة في أحد جولات الكأس الإسباني. وهدد لاعبي برشلونة بضرورة الهزيمة بعد أن تقدموا في مباراة الذهاب بثلاثة أهداف نظيفة. وانتهت المباراة بالفعل بنتيجة كرتونية للريال 11-1. ورفضت الفيفا لاحقًا اعتماد هذه النتيجة.

 

لقد أقدم الفاشيون الإسبان على ما يحلم به النازيون أنفسهم من درجات الجنون. ليمهدوا الطريق نحو عداوة دائمة في كرة القدم لا يمكن أن تنفصل أبدًا عن تاريخها المليء بالقتل والظلم والمقاومة والتحدي.

المصدر : الجزيرة