شعار قسم ميدان

ليونيل ميسي.. لغز "الرجل الكلب"

ميدان - ليونيل ميسي ولغز الرجل الكلب
اضغط للاستماع
    
المراوغة في تعريفها هي أحد أشكال الكذب، بحيث يخفي الإنسان نيته الحقيقية عن خصمه من أجل الوصول إلى غايته. والمراوغة في كرة القدم لا تختلف عن هذا التعريف. ولكن هل يجعل هذا ميسي مراوغا؟

   

عناصر اللعبة الثلاثة؛ المهاجم (ميسي في حالتنا)، والمدافع، والمشاهد، يعرفون تحديدا ما سيفعله القزم. زيدان كواحد من أساتذة المراوغات كان هو فقط من يعلم حركته القادمة، تاركا المدافع والمشاهد مندهشين. أما رونالدينيو فهو نفسه لم يكن يعلم الحركة القادمة، في مسيرة قائمة في كل تفاصيلها على الارتجال، تاركا نفسه والمدافع والمشاهد ذاهلين.

  

بالتعريف إذن، وبالمقارنة، فميسي لا يراوغ بل يمر، يمر في كل مرة بذات الحركة المعتادة المتكررة. والمدافع هنا ليس في حاجة إلى تخمين الحركة القادمة، ولكنه يحتاج السرعة، ولكن إن ميسي أسرع، أو يحتاج إلى عرقلته، وهي التقنية التي لا تفلح دوما، خاصة أن البولغا (البرغوث بالإسبانية) لا يبحث عن العرقلة بقدر ما يحاول تفاديها لاحقا بالكرة. وهذا يتركنا مع كلمتين نصف بهما الرجل الكلب؛ السرعة والتماهي.

  

الرجل الكلب

  

هل حاولت قبل ذلك متابعة حركة كلب يطارد كرة؟ دعني أخبرك قصة الكلب "توتين" الذي يعيش مع أسرة أرجنتينية في إسبانيا. ذات مرة تعرض منزل الأسرة للسرقة، ولكن توتين لم يتحرك من مكانه، و لم يحاول مطاردة اللصوص، وربما لم يُحدث أي صوت من الأساس. فاعتبرته الأسرة كلبا غبيا، وربما ليس كلبا من الأصل، فهذا الذي ترك اللصوص يخرجون بالمسروقات، يتحول إلى حالة من الهياج عندما يمسك أحدهم بقطعة من الإسفنج الخاص بتنظيف الأطباق، ويطارد حاملها محاولا التقاطها.

   

فقط صاحبه[1] "هيرنان كاسشياري" اعتبر هذا التناقض مثيرا للبحث وليس علامة غباء، فأخذ قطعة الإسفنج ووقف أمام توتين، فقام الكلب من مكانه وانتبهت حواسه. حرّك هيرنان القطعة يمينا، فتحرك الكلب معها، ثم يسارا، فانطلق الكلب إلى اليسار. وكرر الحركات مرارا، وفي كل مرة لم يتخل الكلب قط عن متابعة الكرة بغض النظر عن طول الوقت أو تحريكها في اتجاهات غير متوقعة. ومن هنا خرج "هيرنان" بفكرته عن "ميسي الرجل الكلب".

   

الرجل الأسبيرغر

  

قبل عدة سنوات خرج الشهير البرازيلي "روماريو" ليخبرنا عبر تويتر[2] أن ميسي مصاب بمتلازمة أسبيرغر، وهي أحد الأشكال المخففة من التوحد (Autism Spectrum Disorder)، وهذا هو سر قدرة البولغا الأرجنتيني على التركيز والتماهي مع الكرة إلى هذه الدرجة الاستثنائية. وتزامن كلام روماريو مع تزايد الشائعات[3] حول تشخيص ميسي بالمرض في سن الثامنة -وهي تقريبا السن التي انتقل فيها إلى مدرسة الكرة ببرشلونة- وإخفاء الأمر كنوع من حماية الطفل نفسيا.

     

ومن وجهة نظر علمية محايدة، فلا يمكن القول إطلاقا بإصابة ميسي بهذه المتلازمة، إذ إن كلمة "متلازمة" (syndrome) تعني تطابق عدد معين من الأعراض على المريض، ومن دون أحد هذه الأعراض فلا يمكن تشخيص الحالة. وفي موقفنا هذا، فمريض الأسبيرغر يعاني دوما من صعوبة تناسق حركة العضلات، فلا يمكنه مثلا ربط أزرار القميص، ولا يمكنه ركوب دراجة أو الركض بصورة سليمة، لأن هذه الأفعال معقدة، تحتاج إلى تآزر عصبي عضلي، وهو بالقطع ما لا يعاني منه البرغوث الأرجنتيني.

    

ولكن لا يمكن أن نتجاهل العديد من السمات الأخرى للأسبيرغر، والتي تكاد تتطابق مع حالة ميسي. أول هذه الأعراض هو صعوبة التواصل الاجتماعي مع المحيط. هل لاحظت قبل ذلك ميسي في محاوراته التلفزيونية؟ وتلك الابتسامة البلهاء نوعا التي تخبر عن انعدام قدرته على التفاعل مع من حوله؟ وهل تعلم أن ميسي في المدرسة كان يُلقب بين زملائه بـ "الصامت" (El mudo)؟

  

ولكن مرضى الأسبيرغر محظوظون بقدرة استثنائية على الإدراك الحسي، إذ إن الزمن المطلوب كي يستوعب المخ ما يراه وما يسمعه يصبح أقل مما يحتاجه الشخص الطبيعي، وتقل الفترة الفاصلة بين إدراك المخ للمؤثرات وبين بداية تحريك العضلات، وهو ما يعني امتلاك "رد فعل" أسرع، وهو ما يمكن أن يفسر قدرة ميسي الدائمة على سبق الآخرين في الملعب في اتخاذ القرارات.

    

  

ثم تأتي مسألة الأفعال التكرارية كأحد أهم أشكال التشابه بين ميسي ومرضى الأسبيرغر. ميسي كما قلنا لا يراوغ، بل يمر، وكأنه يحتفظ في مخه بأنماط مكررة من الأفعال ينفذها ولا يغيرها أبدا. وهكذا أصحاب الأسبيرغر، يكررون ما يعرفون. وهذه الذاكرة العضلية تحتفظ أيضا بأنماط مكررة لأفعال المدافعين وحركات حراس المرمى، فيبدو كل موقف يتعرض له في الملعب وكأنه ذكرى من موقف آخر قديم، يعرف ميسي كيف يتعامل معه. ومسألة التكرارية ربما تفسر أيضا الإتقان الفائق لتنفيذ الركلات الحرة، وربما تفسر تكرار إخفاق ميسي مع ضربات الجزاء، فهي لا تملك نمط "pattern" خاص يعرفه مخ ميسي.

  

وفي النهاية هناك ذلك الهوس الذي يجمع بين مرضى التوحد عموما وبين ميسي، فمن المواصفات التشخيصية لمرضى التوحد هو الاهتمام الحصري بشيء واحد، والتماهي معه بصورة كاملة، إذ قد يبدأ المريض الكلام عن ذلك الشيء ولا يتوقف أبدا لساعات، ولا يرى أو يهتم بأي شيء آخر. هل لاحظت قبل ذلك كيف يتفاعل "ميسي الرجل الكلب" مع من حوله في لحظة أن يقرر إحراز هدف منفرد (Solo Goal)؟ ميسي لا يرى الجمهور ولا يرى المنافسين ربما، ولا يرى زملاءه في بعض الأحيان، فقط هو يرى الكرة والمرمى. لا يبحث عن خطأ أو ضربة جزاء، ولا يحاول التمويه أو الارتجال، كل ما يريد، وما يجيد أيضا في واقع الأمر، هو الاحتفاظ بالكرة لأطول فترة ممكنة، مانعا الجميع من الوصول إليها.

  

سرعة فلاش الضوء

مسألة التماهي ومسألة التكرار لها جانب سيئ، فهي تحدّ من الابتكار وتوقف عنصر المفاجأة، وهو، كما ذُكر، الفارق بين زيدان أو رونالدينيو وبين ميسي. وهنا يظهر عنصر السرعة، فلكي ينجح ميسي في تكرار ذات الأفعال، ولكي يتمكن من المرور في كل مرة، يجب أن تكون له سرعة خارقة في حركة العضلات، وهنا يظهر "فلاش"[4] البطل الخارق.

   

القوة الخارقة التي يمتلكها فلاش هي الحركة بسرعة الضوء، وهو ما يعني أننا لو تخيلنا سوبرمان وفلاش يقفان على بُعد 10 أمتار من نقطة معينة، فسوف ينجح فلاش كل مرة في الوصول إلى هذه النقطة أسرع من سوبرمان. وإذا ما حاولنا تفسير موقف أكثر تعقيدا، فيمكن أن نتخيل المشهد حول فلاش وكأنه يتحرك بسرعة 30 كادر في الثانية، ولكن فلاش نفسه يتحرك مثلا بسرعة 100 كادر في الثانية. هذا ما يجعله وكأنه يرى المشهد بالتصوير البطيء، بينما يرى خصومه المشهد بالسرعة العادية. ومن ثم فهو يتحرك بمعدل أكبر من الحركات، وكأنهم يستطيعون الحركة بمعدل 30 حركة في الثانية، وهو يستطيع أن يصل إلى معدل 100 حركة في الثانية. ومن ثمّ فالسباق محسوم النتيجة دوما، ويمكننا أن نشاهد مشهد فلاش وهو يحاول أن يسابق سرعة الرصاصة، ويمكننا أن نشاهد ميسي وهو يحاول أن يسابق المدافعين في هدف خيتافي الشهير، وسوف ندرك التشابه بوضوح.

   

     

     
ميسي القادم من المستقبل

قبل الظن بأن ذلك التشبيه بين ميسي وفلاش هو أحد أشكال الخيال، فهناك ورقة علمية[5] صدرت منذ سنوات قليلة بعنوان: "هل يستطيع ميسي إبطاء الزمن؟".

   

طرح هذا التساؤل العالمان ساجد جعفري وليزلي صامويل سميث، الأول هو أستاذ في مجال الهندسة الحيوية الطبية بإحدى جامعات طهران، والثاني أستاذ في علوم الحاسب والرياضيات بجامعة ستيرلنج في المملكة المتحدة، وخلاصة الورقة تقول الآتي:

  

تبدأ حركة عضلات الجسم من مخ الإنسان عن طريق إشارة كهربية، تصل هذه الإشارة إلى الحبل الشوكي ثم إلى الأعصاب الطرفية ثم إلى العضلات، وفي لحظة الوصول تبدأ الحركة. لو اُفترض مثلا أن الوقت الفاصل بين بدء إشارة المخ وبين حركة العضلات هو 0.1 من الثانية، فهذا الزمن هو اللازم كي تعبر الكهرباء مناطق التشابك العصبي بين مكونات الجهاز العصبي والعضلي. فماذا لو أن بعض الأشخاص يمتلكون أجهزة عصبية تستطيع أن تمرر الإشارة في وقت أقل؟ ويصبح الزمن اللازم هو مثلا 0.05 ثانية بدلا من 0.1 ثانية؟ حينها سوف يتحرك هؤلاء بصورة أسرع، لأن عدد الحركات التي يستطيعون القيام بها في الثانية الواحدة أكبر من عدد الحركات التي يستطيع الجسد العادي القيام بها، فيبدو وكأنهم يستطيعون رؤية الزمن بصورة أبطأ. فبينما يحتاج المدافع إلى 10 حركات عضلية مثلا كي يصل إلى الكرة، تستغرق زمنا مقداره 1 ثانية، فإن ميسي يستطيع أن يؤدي ذات الحركات الـ 10 في نصف ثانية. وبينما يقف المدافع في الماضي يحاول منع ميسي من القيام بحركته المتوقعة، يكون ميسي بالفعل قد عبر إلى المستقبل قبل أن يستطيع المدافع إدراك ذلك.

    

تخيّل أن هذا السباق يتكرر مرة و10 مرات و1000 مرة، وتخيل أن ميسي يستطيع الفوز به والمرور في أغلب هذه المرات، وتخيل المدافع يستطيع الوصول إلى النقطة التي يعرف أن الكرة ستمر منها، ولكن بعد أن يكون ميسي قد سبقه في العبور. هذا يجعل الأرجنتيني حالة فريدة، لكنها ليست قادمة من كوكب آخر، بل هو ببساطة قادم من المستقبل، بينما نحن كمشاهدين ومدافعين ما زلنا نقف في الماضي!

المصدر : الجزيرة