شعار قسم ميدان

جاكا وشاقيري.. لحظة الانتقام المقدسة من الاحتلال الصربي

جاكا - ميدان
كانت الأسطورة تقول إن الألبانيين أكثر خصوبة من أعدائهم الصرب. وكانت تقول إن الله سوف يكتب لهم النصر بأن تمس بركته أرحام نسائهم. كانت تقول أيضًا إنه كلما مات ألبانيًا، وُلد تعويضًا له طفلٌ سوف يأتي بالثأر.

 

في ثمانينيات[1] القرن الماضي كانت المرأة الألبانية تلد في المتوسط 6 أطفال أمام 3 فقط للمرأة الصربية. لكن الحرب لم تتوقف عن قتل الجميع. حتى أصبح الأطفال دون الخامسة عشرة يمثلون 40% من سكان كوسوفو في أواخر التسعينيات. أطفال خائفون يسألون عن آبائهم، فيقال لهم إنهم قد ماتوا. ومن النادر أن يرى واحد فيهم جده أو بيت عائلته القديم، لأن الصرب قد قصفوه في الغالب.

 

في هذه الظروف رحل أمثال السيد يانوزاي والسيد جاكا والسيد شاقيري عن كوسوفو وغيرهم. وفروا إلى سويسرا وبلجيكا والنرويج من أجل النجاة بحياتهم. ومن أجل منح واقع أفضل لأطفالهم. لكنهم بذلك تخلوا عن أمل استرداد ما سُلب منهم. ولو جاءت لحظة الثأر، فلن يكونوا هناك ليشهدوها.

 

ورغم استقلال كوسوفو لاحقًا إلا أن الحال لم يتغير. ففي العام 2013 نزح حوالي 6 آلاف لاجئ نحو الحدود من صربيا من أجل الوصول للمجر أو ألمانيا أو أي بلد آخر  في الاتحاد الأوروبيّ. وتصدت لهم قوات الشرطة على حدود هذه البلاد.

 

راية النسور

undefined

استطاعت كرة القدم أن تمنح ألبانيا انتصارًا يختلف عن انتصار المفاوضات أو انتظار الدعم الدولي الذي ربما يأتي أو لا يأتي. وكان ذلك عندما أوقعتها في مجموعة تضم صربيا في تصفيات يورو 2016. ونجحت ألبانيا في بداية التصفيات بالفوز على البرتغال ثم التعادل مع الدنمارك. وجاءت مباراة صربيا[2] في بيلغراد.

 

هناك هتف الجمهور الصربي بعنف ضد المنتخب الألباني، لوضع لاعبيه تحت الضغط. حتى حلقت طائرة تحمل راية النسرين المتعانقين، وهي الراية القومية الألبانية. وحاول أحد لاعبي صربيا انتزاعها وإخراجها من الملعب. وهو ما بدأ سلسلة من الاشتباكات أدت لإلغاء المباراة. وقاد الاتحاد الألباني صراع إدراي في الاتحاد الأوروبي انتهى بمنح منتخبهم 3 نقاط عن المباراة، كانت حاسمة في صعود ألبانيا ليورو 2016 مباشرة في المركز الثاني خلف البرتغال المتصدرة.

 

صعدت ألبانيا للمرة الأولى في تاريخها إلى بطولة دولية. ورغم أنها لم تنجح في تسجيل أي هدف على منتخب صربيا، إلا أن وجودهم في المجموعة كان انتصارًا معنويًا كبيرًا منحته كرة القدم للألبان! لكن فشل ألبانيا في التأهل للمونديال دفع الكثيرين للتساؤل؛ ماذا لو أنهم كانوا قد احتفظوا بالعديد من أبناء اللاجئين والذي يلعبون الآن لمنتخبات أوروبية أخرى؟

 

غرانيت جاكا
أول الأسماء التي ستتبادر للذهن بالطبع هو غرانيت جاكا[3]. الذي اختار سويسرا ومثّل ألوان منتخبها الأول عام 2011. بعد أن بدأت مشاركاته مع منتخب سويسرا تحت 17 سنة واستطاع معهم تحقيق لقب كأس العالم المقامة في نيجيريا. ثم تلاها اللعب مع منتخب تحت 21 سنة والوصول لنهائي اليورو بالدنمارك إلا أن سويسرا انهزمت بهدفين مقابل لا شيء لتصبح وصيف البطولة.

 

وقبل انضمامه لصفوف المنتخب الأول لم يكن غرانيت قد أعلن موقفه لأي المنتخبين سيلعب السويسري أم الألباني لكن قراره جاء سريعًا؛ فالاتحاد الألباني لم يظهر اهتمامه بخدمات اللاعب أو كهذا ظن. وشارك غرانيت في معظم المباريات الرسمية اللاحقة مع سويسرا؛ تصفيات يورو 2012، ثم كأس العالم 2014 ثم يورو 2016 ثم مونديال 2018.

undefined

الحقيقة هي أن جاكا ندم بصورة ما على هذا القرار، وقال بعد ذلك أن يشعر ببساطة أنه ينتمي لألبانيا رغم كل التقدير للدور الذي لعبته سويسرا في حياته. وعندما جاء الدور على أخيه الأكبر تولانت جاكا أن يختار بين سويسرا وألبانيا، نصحه غرانيت باختيار ألبانيا، وهو ما حدث بالفعل. وتلاقى اللاعبان الأخوان كخصمين في المباراة التي ضمت ألبانيا وسويسرا في يورو 2016.

 

عدنان يانوزاي
وُلد عدنان[4] في بروكسل بلجيكا، وكان نتاجًا لمشروع ناجح في بلجيكا لإخراج المواهب. مشروع خرج منه أمثال هازارد ولوكاكو وكاراسكو وغيرهم. وعندما جاءت لحظة تمثيل المنتخب وجد يانوزاي نفسه في مأزق حقيقيّ.

 

بدأ الأمر عند روي هودسون المدير الفني للأسود الثلاثة الذي كان يريد استغلال جواز السفر الإنجليزي الذي يحمله اللاعب من أجل ضمه للمنتخب. ثم جاءت بلجيكا والتي ينتمي إليها عدنان بالولادة وبالحالة الكروية. وهناك كذلك منتخبات صربيا وكرواتيا، والتي يحق له نظريًا تمثيل ألوانها.

undefined

صرح يانوزاي الأب أن ابنه لن يمثل ألوان صربيا أو كرواتيا تحت أي ظرف. وعلل ذلك بأن صلة العائلة بهذين البلدين ضعيفة. والواضح بالطبع هو أن يانوزاي يصنف هذين البلاد كأعداء تاريخيين. وتأخر عدنان كثيرًا في حسم قراره وكان أميل دومًا لتمثيل ألبانيا، لكن النهاية جاءت عام 2014 عندما أعلن الاتحاد البلجيكي بأن الموهوب الصغير حينها قَبِل دعوة منتخبهم.

 

شيردان شاقيري
منحت ألبانيا -وخاصة كوسوفو- العديد من اللاعبين[5] لمنتخبات أوروبا. مثل فالون بيريشا للنرويج، وشقيقه فيتون لمنتخب سويسرا. وهناك كذلك فالون بهرامي لسويسرا، وأدمير محميدي وباجتيم قسامي. وتبقى حالة شاقيري من الحالات التي تستحق الوقوف بشكل خاص.

 

كان شيردان شاقيري[6] من اللاعبين القلائل الذي وُلدوا في كوسوفو. ورحل رضيعًا هاربًا مع والديه وثلاثة أشقاء آخرين. لذلك فإن ألبانيا بالنسبة له لم تكن وطنًا متخيلاً. ولا بلدًا اعتباريًا لا صلة تربطه به. بل يمتلك هناك عائلة ويمتلك أصدقاء تواصلوا معه مثلاً قبل لقاء سويسرا ضد ألبانيا في يورو 2016 طالبين منه على سبيل المزاح ألا يسجل في مرماهم.

 

لذلك فإن ارتداء شاقيري لفردتي حذاء تحمل إحداهما علم ألبانيا والأخرى علم سويسرا، ما هو إلا تعبير حقيقيّ عن انقسام مشاعره بين الوطنين.

undefined

الانتقام المقدس
شاقيري وجاكا.. يمكننا بسهولة أن نتخيل حكايات الآباء التي سمعها هذين عن جرائم الصرب وقصفهم لكوسوفوا. ولابد أن عاشوا حيرة بين الاندماج الكامل في سويسرا أو الحنين لألبانيا الأم. بالطبع لم يتخيلا أسماء مثل ماتيتش وكولاروف وإيفانوفيتش وسافيتش كصربيين مجرمي حرب، ولكن علم صربيا على صدور هؤلاء كان هو شعار العدو الذي طالما سمعا عنه.

 

لقد صاغت كرة القدم لحظة انتقام مثالية، لحظة انتصار بعد صراع حر متكافئ. ليس صراع مفاوضات في الأمم المتحدة أو قصف متوحش على رؤوس الألبانيين الضعفاء، لكنه كان صراع رجال أمام رجال. وقاتل فيه الألبانيان من أجل الانتصار.

 

كلاهما يعرف بالطبع أن الفيفا ربما توقع عليهما عقوبات. ويعرفان أن احتمالية الغياب كبيرة عن مباراة المنتخب السويسري الأخيرة أمام كوستاريكا. لكن غواية رفع علامة النسرين المتعانقين كانت أقوى. وكأن كل واحد منهما يرسل رسالة لأبيه وأمه الذين هربوا من جحيم الصرب، ويقولون: لقد انتقمنا لكما.


قبل المباراة كانت صيربيا في وضعية متصدر المجموعة والذي يكفيه التعادل للمحافظة على الصدارة. وقبل هدف شاقيري في الـ 90 كانوا هم الأقرب للتأهل ثانيًا عن المجموعة. وبعد المباراة، انتزع شاقيري وجاكا فرصة التأهل لسويسرا. وأرسلا صربيا بـ 3 نقاط فقط لمواجهة جحيم البرازيل، والتي لن تتردد في قصف صربيا بكل طاقتها الهجومية من أجل الحصول على صدارة المجموعة. هدف للتعادل وهدف للفوز.. جاكا وشاقيري.. بدلوا وضع صيربيا بالكامل، وبدلاً من ضمان الصعود، أصبح الأمر شديد الصعوبة. لقد فشل الآباء في حصاد انتصار الحرب. ولكن كرة القدم منحت الأبناء ليلة انتصار لن ينساها أحد. ويبدو أن "يد الله" قد مست أرحام نساء الألبانيين.