شعار قسم ميدان

الأرجنتين وإسرائيل.. دليلك لحفل المتاجرة باسم ميسي

midan - Israel
قبل تناول أي مسألة يصبح نزع الرداء الخاطئ عنها ضرورة حتمية، وإلا بات الأمر في سياق مغاير تماماً لحقيقته. المسألة ليست القضية الفلسطينية وموقف الأطراف المعنية منها في المُطلق، فليونيل ميسي ليس مؤيداً للصهيونية، وبالمناسبة لم يتبرع للاحتلال الإسرائيلي بالمال بل هي مجرد أكذوبة أطلقها موقع جزائري ساخر.(1) في الوقت ذاته هو ليس رمزاً للمقاومة الفلسطينية، وليس الشخص الذي نأمل منه أن يكون نصيراً لها فنلقيه بتهم الخذلان إن لم يفعل. هو ليس عربياً من الأساس، وبالتالي فإن علاقته بالقضية أشبه بعلاقتنا بحق الأرجنتين التاريخي في جزر فوكلاند.

      

بالمناسبة أيضاً وبما أننا في معرض فض اشتباك الأكاذيب المحيطة بالبرغوث.. ميسي مسيحي كاثوليكي، مهما حاول بعض المواطنين العرب نقلاً عن بعضهم الآخر إثبات يهوديته، وعلى الرغم من كون الديانة اليهودية ليست تهمة بحد ذاتها، إلا أن التجربة قد أثبتت أن الصليب الذي يشير به من وقت لآخر هو علامة المسيحية إلى أن يثبت العكس.

    

لماذا نحن هنا؟

بالعودة إلى قضيتنا الحالية، كان مقرراً للمباراة أن تُلعب بشكل طبيعي للغاية في التاسع من يونيو، لولا القرار الإسرائيلي السياسي بنقلها من حيفا إلى القدس، تزامناً مع اعتبارها عاصمة لتلك الدولة. كل ما حدث أن إسرائيل قررت ألا يمر الأمر دون أن تتاجر به في محاولة اكتساب اعتراف العالم بالعاصمة الجديدة. بعد بضعة أيام من الضغط والجدل العالمي، أعلنت السفارة الإسرائيلية في بوينوس أيرس عن إلغاء المباراة بسبب تهديدات واستفزازات وجهت ضد نجم المنتخب الأرجنتيني ليونيل ميسي.(2)

       

undefined

     

لماذا ميسي تحديداً؟ لأن جبريل رجوب رئيس الإتحاد الفلسطيني لكرة القدم طالب الجماهير العرب بحرق صوره وقمصانه إذا لعب تلك المباراة، باعتبارها – المباراة – قد اجتازت حاجز كرة القدم بالفعل. وهو ما أوضحه رجوب نفسه في رسالته لنظيره الأرجنتيني كلاوديو تابيا، والتي قال فيها أن إسرائيل تستخدم الحدث كأداة سياسية، عطفاً على ما حذر منه حسني عبد الواحد السفير الفلسطيني لدى الأرجنتين، من تحول المنتخب إلى "داعم للاستيطان وانتهاك حقوق الإنسان".(2)

      

للأمر محورين رئيسيين، الأول والأهم هو الجانب الأمني، وفي ظل ذلك التصعيد ليس هناك مبرر حقيقي لخوض المباراة على حساب السلامة الشخصية للاعبي الألبيسيليستي. أما الثاني فهو التسويقي، فلا يخفى على أحد أن لمنتخب الأرجنتين العديد من المشجعين العرب، وأن لكل نجم من نجومه قاعدة شعبية كبيرة في الوطن العربي وأولهم ميسي نفسه. كل تلك الأمور لا يمكن التضحية بها انصياعاً لرغبة إسرائيل في اللعب على أراضي القدس، لأنها بالفعل فشلت في إقناع أغلب الدول بنقل سفاراتها إلى هناك، وعلى رأسهم الأرجنتين نفسها والتي لا تزال سفارتها قابعة في تل أبيب حتى اللحظة الحالية.

  

بطبيعة الحال، وجه رئيس الاتحاد الفلسطيني الشكر والتقدير للأرجنتين على قرار إلغاء المباراة، معللاً ذلك بأن "الإسرائيليين حاولوا استغلال ميسي وهؤلاء النجوم من الأرجنتين"(3). ميسي مرة أخرى، أعلن رجوب النفير العربي العام ضد ليونيل والآن يشكره لأنه نأى بنفسه عن استغلال الصهاينة.. فهل حاول الرجل المتاجرة باسم البرغوث لاكتساب الأرضية لقضيته، أم كان على حق في هذا الأسلوب لمواجهة المتاجرة السياسية الحقيقية؟ لنرى..

       

     

عبقرية التزييف

حين نتحدث عن المتاجرة بشيء ما لا شك بأن الصهاينة هم عباقرة هذا المجال، فمن يملك القدرة على الاستهانة بعقول العالم أجمع ومحو مشاهد قتل الأطفال وقصف العجائز بالطيران من الذاكرة، ثم يعود ليُبرز إصابة المقاومة لإصبع أحد جنوده، بالتأكيد يمكنه أن يبيع لك أي شيء في أي وقت. من هنا بدأ وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان بكائيته عقب القرار(3):

"من المؤسف أن فرسان الكرة الأرجنتينية لم يصمدوا أمام ضغط المحرضين على كراهية إسرائيل، والذين لا يهدفون لشيء سوى إيذاء حقنا البدائي في الدفاع عن أنفسنا، ويحاولون تدمير إسرائيل"

  

فرسان لم يصمدوا، كلمات كبيرة للغاية مقارنةً بالحدث، أضعف الإيمان أنها تحاول استجداء اللاعبين اللاتينيين ليحاربوا في معركة لم ولن تكون أبداً معركتهم، ولكن لأن مع ليبرمان تحديداً لا مجال لحسن النية، فتلك الكلمات لا تحمل سوى لوماً مستتراً لفريق من لاعبي كرة القدم، كل ما فعله هو أنه وضع أمان أفراده وراحتهم الذهنية قبل أسبوع من كأس العالم في كفة، والدراما الإسرائيلية في كفة أخرى، ومن الواضح قطعاً أيهما قد رجحت.

  

في سياق متصل انتهج إيلان شتولمان السفير الإسرائيلي لدى الأرجنتين نهجاً أكثر إقناعاً، بإعادة تغريد رسالة الشكر التي وجهتها حركة حماس للدولة اللاتينية على إلغاء المباراة، معلقاً عليها بقوله:"حين تتلقى التهنئة من جماعة إرهابية". أنهى الرجل تغريدته المنددة بخطر الإرهاب، ثم ذهب لمقابلة تليفزيونية قال فيها:"أتفهم خوف اللاعبين ولكني أؤكد لكم أن إسرائيل مكان آمن للغاية".(3)

        

في الحقيقة لسنا ندري ما الذي حدث بالضبط: هل تم اختراق حساب الرجل حين قال أن هناك حركة إرهابية تهدد دولته، أم تم اختراق الرجل نفسه عبر شاشة التلفاز ليصف نفس الدولة بالمكان الآمن؟ الاحتمال الثالث هو أن يكون الجمع بين الأمن والإرهاب منطقياً.. كم عدد الإجابات الصحيحة فيما سبق؟ صفر. هو مجرد سياسي "كاذب ومنافق" لا أكثر بحسب ما وصفه متابعون.

  

      

"الهرم بتاعنا" (4)

جائزة رد الفعل الأفضل تذهب لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، عن تقريرها "قبل وقت طويل من قصة مباراة إسرائيل والأرجنتين، مسيرة ميسي تم إنقاذها على يد هذا الطبيب اليهودي"(5) في أقصى درجات الانحطاط المقنع.

    
يبدأ التقرير بمقدمة عاطفية جمالية للغاية.. "في 24 يونيو 1987، ولد طفل ممتلئ يزن 3.6 كغم في العيادة الإيطالية بمدينة روزاريو الأرجنتينية. الاسم على شهادة ميلاده: ليونيل أندريس ميسي. في اليوم التالي، والدته سيليا ووالده خورخي، يُحضرانه إلى منزلهما المتواضع، في 525 بشارع دولة إسرائيل في المنطقة الجنوبية للمدينة". أرأيتم الفتى الجاحد؟ كيف يُنكر هذا الوضيع فضل الدولة التي تركته ينهل من خيرات شارع يحمل اسمها في دولة تقع في قارة أخرى؟

   

يستمر الموضوع في الاسترسال عن وجود ميسي في قلب أزمة إلغاء المباراة، بتسليط الضوء على الضغط الجماهيري العربي وتصريحات رئيس الإتحاد الفلسطيني التي سبق الإشارة لها، ودورهم في حرمان المواطنين الإسرائيليين من فرصة مشاهدة أحد أعظم لاعبي العالم شحماً ولحماً، انطلاقاً إلى الفرضية المنطقية، بأن مسيرة ميسي تلك ما كانت لتحدث أصلاً لولا الطبيب اليهودي دييغو شوارتشتاين.

    

من هو دييغو شوارتشتاين؟ طبيب يهودي يعيش في روزاريو، رفض -على حد قول الصحيفة- تزيين كلماته بشكل شاعري، على النقيض الكامل منهم بطبيعة الحال، ليقول:"أنا كنت طبيباً وكان هو ولداً خجولاً للغاية لديه مشكلة بحاجة للتشخيص والعلاج الصحيحين". بتلك البساطة لا أكثر ولا أقل، كان الرجل طبيباً أدى عمله وواجبه الذي أقسم عليه، في مسألة لا يُفترض إقحام الدين بها، خاصةً وأنها وقعت في دولة ليس لديها مشكلة مع اليهود أو الإسرائيليين، وعليه ليس من الواضح لمَ تناولت الصحيفة الأمر كما لو كان شوارتشتاين قد عالج ياسر عرفات.

    

هل كان الطبيب إسرائيلياً؟ هل له أقارب حتى في إسرائيل؟ لا داعي للبحث والاستقصاء فقد تبرع التقرير ذاته مقدماً الإجابة بسؤال الرجل نفسه، والذي أكد أنه ليس لديه أي أقارب هناك من العائلة التي يعرفها، ولكنه افترض أن بعض ممن يرتبطون به بصلة الدم البعيدة قد هاجروا إلى هناك.

     

undefined

   

الطبيب نفسه قد زار إسرائيل مرة واحدة عام 2000 لحضور مؤتمر طبي، ولكن مسألة علاجه لطفل صغير عاش معه بنفس الحي، تبدو ذات صلة وثيقة بأزمة المباراة، إما من منطلق أن إسرائيل هي الدين اليهودي برمته وليست مجرد دولة تتخذ اليهودية كديانة رسمية، وإما من نفس المنطلق الذي يحاول به بعضهم نسب أهرامات الجيزة المصرية لأنفسهم، فقط بناءً على أن بعض العبيد اليهود في الماضي -وفقاً لروايتهم- قد سُخِّروا لبنائها.

     

انتصاراً لباب الريح

بينما انشغل بعضنا في الاحتفال بالقرار البطولي من ليونيل أو الأرجنتين، وانخرط الإسرائيليون في خطابهم المعتاد عن معاداة السامية، كان المواطن الأرجنتيني وحده ينظر للأمر في صورته المجردة، ككهربائي يرى الأمر برمته تشتيتاً لحماس منتخب بلاده في وقت يجدر بهم التركيز على المونديال فقط، أو سائق مبتهج بخبر إلغاء المباراة، لأنه وفر على اللاعبين أياماً من الضغط بلا خوف على حياتهم، والآن يمكنهم التركيز على العودة للديار بكأس العالم.(3)

   

صوت عابر في صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" وضع المسألة في نصابها السياسي الصحيح، موجهاً اللوم لقرار الحكومة بنقل المباراة إلى القدس، ومؤكداً أن الأمر لم يكن غير متوقع، حيث حاول رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو التدخل بشكل شخصي لوقف قرار الإلغاء، ولكن الإسرائيليون يتظاهرون بالصدمة(6). أما من يحاولون من بينهم إلصاق الأمر بميسي أو اللاعبين ككل، فهم فقط لا يمتلكون ما يكفي من الجرأة للهجوم المباشر على الأرجنتين، كونها من أكثر الدول احتضاناً لليهود وحرصاً على الاحتفاظ بعلاقة جيدة مع إسرائيل.

   

تصريحات لا أصل لها تجوب الحسابات العربية على لسان ميسي ورفاقه، الثابت منها هو ما قاله غونزالو هيغوايين :"في النهاية فعلوا الشيء الصائب، الصحة والمنطق لهما الأولوية، ولم نشعر أن ذهابنا إلى هناك كان صحيحاً"(7). هذا كل ما في الأمر، فميسي لم يفكر أبداً في الاعتداء على حقوق الشعب الفلسطيني أو الانتصار له على إسرائيل، بل فعل ما سيفعله أي شخص منطقي أمام "الباب الذي يأتيه منه الريح"، خاصةً وإن كان باباً بلا نفع يُذكر.. فالمعذرة، قد يخسر العرب العديد من جولات المعركة، ولكنهم لن يخسروا أبداً في سباق الأكثر عدداً أو الأكثر اهتماماً بكرة القدم. هذا ليس مدحاً أو ذماً، إنها الحقيقة المجردة.