شعار قسم ميدان

سانتياغو بيرنابيو.. بطل مدريدي أم جندي فاشي؟

ميدان - سانتياغو بيرنابيو الرئيس التاريخي لريال مدريد
اضغط للاستماع

 

إطلاق أسماء الشخصيات على الأماكن يعني الخلود؛ فكلما ذُكر المكان، ذُكر الشخص. ولكن في حالة سانتياغو بيرنابيو يتجاوز الأمر حدود الذكر، ليبلغ حد التماهي الكامل. جوزيبي مياتسا في ميلان، شانكلي في ليفربول، باسبي في مانشستر، بيكينباور في ميونخ، كلها أسماء كانت نقاطا محورية في تاريخ أنديتها، وأيقونة حقيقية في أذهان المشجعين. ومن بعد هؤلاء جميعا يأتي بيرنابيو آخذا الأمر إلى مرحلة أبعد. فعند سؤال مشجع الريال عن أين ستُلعب مباراة فريقه، فسيقول: في ملعب سانتياغو بيرنابيو. وكأنها عودة أسبوعية إلى اسم الرجل الذي كُتب لسيرته الخلود، أو كأن كلمة سانتياغو برنابيو وكلمة ريال مدريد صارتا مترادفين. فمن هو هذا الرجل؟

  

الوجه المدريدي

الإجابة عن السؤال السابق سوف تحددها زاوية النظر للرجل: مع أو ضد ريال مدريد. ففي مدريد يُقال[1] إن "سانتياغو برنيابيو فقد والدته في الرابعة عشرة من العمر، وفقد والده في العشرين ولم يتزوج حتى الخامسة والأربعين، لأن مدريد كانت عائلته". ويقال إن "سانتياغو برنابيو لم ينجب أطفالا، لكنّ لاعبي الفريق كانوا آباءه. فقد اشترى منزلا قريبا من الملعب من أجل دي ستيفانو، لكيلا يحتاج إلى شراء سيارة. وأقنع بوشكاش بضرورة استثمار أمواله بعد الاعتزال حتى لا يتعرض للإفلاس لاحقا. وبلغ به الأمر أن اجتهد في محاولة إقناع بيري، المدافع التاريخي للميرينجي، بألَّا يتزوج الممثلة سونيا برونو، إذ كان يراها غير مناسبة له".

  

وُلِد سانتياغو بيرنابيو عام 1895، أي قبل تأسيس النادي الملكي العاصمي بسبع سنوات. ومنذ اللحظة الأولى[2] كان مشجعا متحمسا يصطحبه أبوه للمشاهدة. وقبل أن يلتحق بمدرسة الكرة في النادي في سن الرابعة عشرة، كان يعمل جامع كرات في ملعب التدريب. ومنذ ذلك الحين لم يغادر النادي، فكان مهاجم الفريق الأساسي منذ عام 1911 حتى 1927، أي قبل بدء منافسات الليغا الرسمية بعامين في 1929، ثم عمل مديرا للكرة حتى عام 1933، ثم شغل منصب مساعد المدرب حتى عام 1936، ثم أصبح المدرب حتى عام 1941. وبعد إحدى مباريات الكلاسيكو عام 1943، وأحداث العنف التي شهدتها، قرر الاتحاد الإسباني إقالة رئيسي الريال والبرسا، ليصعد برنابيو إلى كرسي الرئيس. حينها، ظن أن الأمر لن يستمر إلا لأشهر قليلة، لكنه استمر حتى نهاية حياته في 1978. بعبارة أخرى، فقد كان سانتياغو برنابيو عنصرا فاعلا ومتدرجا في أهميته طوال السنوات الـ 76 الأولى من عمر النادي!

     

سانتياغو بيرنابيو الرئيس التاريخي لريال مدريد  (مواقع التواصل)
سانتياغو بيرنابيو الرئيس التاريخي لريال مدريد  (مواقع التواصل)

  

بعد الحرب الأهلية الإسبانية، كان برنابيو عنصرا أساسيا في إعادة بناء ريال مدريد، وقامت فلسفته على أسس اقتصادية بحتة. حيث قرر إنشاء أكبر ملعب لكرة القدم في القارة، ووجه جهود فريقه للسيطرة على الكرة الأوروبية أكثر من اهتمامه بالمنافسات المحلية، وكان شديد الاهتمام بالتعاقد مع أفضل لاعبي العالم وأكثرهم شهرة من أجل جلب جماهير أكبر، وأدار مراحل عقب ذلك كان الغرض منها زيادة سعة الملعب. وربما لا يختلف ذلك عن العقلية التي تدير الملكي حاليا، وربما لا يكون من الخطأ أن نقول بأن سانتياغو برنابيو ما زال حيا إلى الآن بطريقة ما.

 

الوجه الآخر

أغلب ما نعرفه عن برنابيو جاء بعد نهاية الحرب الأهلية الإسبانية، ولكن تاريخه[3] قبلها وخلالها مهم، ويكشف زاوية أخرى لوجه الرجل. فقد قامت الحرب بعد انقلاب عسكري قاده الجنرال فرانكو ضد الحكومة المنتخبة، وهو ما أدى إلى صدام دام لسنوات بين القوات الديموقراطية اليسارية المناهضة للعسكريين، وبين العسكريين الفاشيين. وفي هذا الصدام انحاز برنابيو للجانب العسكري.

 

قبل الحرب، درس برنابيو القانون ليصبح محاميا، ولكن انضمامه إلى أحد الأحزاب اليمينية شكّل خطرا يهدد بقاءه سالما في إسبانيا أثناء حكم الجمهورية الإسبانية قبل الحرب، مما أدى إلى فراره إلى فرنسا، ليستقر هناك حتى بدأت الحرب. وعندها، انضم إلى الفيلق المغربي 150، وأصبح واحدا من الجنود في جيش الجنرال فرانكو. ومن المعروف أن فرانكو قد نال مساعدة أثناء الحرب من حليفيه، الإيطالي الفاشي والألماني النازي، إذ شارك الطيران الإيطالي مثلا في قصف بعض المدن المتمردة. ويُقال إن سانتياغو برنابيو عمل تحت إمرة أحد الجنرالات النازيين أثناء تلك الحرب! وحصل على وسام للدور الذي لعبه أثناء محاولات دخول قوات الجيش لمدينة بييلسا، وكانت سمعته في هذه الفترة أنه الرجل الذي ينفذ الأوامر، أو "un hombre de orden" بالإسبانية.

  

سانتياغو بيرنابيو شابًا (مواقع التواصل)
سانتياغو بيرنابيو شابًا (مواقع التواصل)

 

في كتاب[4] الرياضة والهويات القومية يعرض الكاتبان بادي دولان وجون كونولي تأثر فرانكو بالدور الذي لعبته كرة القدم في دعايات النظامين النازي والفاشي. في ألمانيا مثلا، عارض نادي بايرن ميونخ أن يكون واجهة للنازية، وهذا بسبب رئيسه اليهودي آنذاك، ليفضل النظام حينها دعم نادي ميونخ 1860، وطالبوا اللاعبين اليهود آنذاك أن يعلنوا عن أصولهم الآريّة، وطالبوا بعض اللاعبين الصغار بالانضمام إلى قوات هتلر. وحسب قول الكاتبين، فريال مدريد كان النادي الذي اختاره فرانكو للعب هذا الدور رغم أن أتليتكو مدريد (نادي القوات الجوية سابقا[5]) كان النادي المفضل للعسكريين. وتشارك فرانكو وبرنابيو في الطموح للسلطة وفي طموح كرة القدم، فكان برنابيو هو رجل هذه المهمة.

  

الحقيقة، أن نشأة أتلتيكو مدريد كانت توءمة بين النادي العاصمي وبين النادي الباسكيّ أتليتكو بيلباو، وتشاركا في طريقة كتابة الاسم والذي يحمل كلمة "Athletic" والتي تحولت لاحقا إلى "Atletico" الإسبانية بعد تولي الجنرال مقاليد الحكم، وهو ما ذُكر في تقرير[6] "الكلاسيكو.. قصة المقاومة الكتالونية ضد حكم مدريد" في ميدان. وهذا الأصل الباسكيّ كان مضادا لما أراده فرانكو من جعل الريال رمزا لمركزية مدريد، خاصة وأن بداية حكم النظام العسكري كان محاطا بالكثير من الأقاليم التي ترغب في الانفصال عن إسبانيا.

  

بالفعل، تحقق لفرانكو ما أراد وكان الجالاكتيكوس الأول للريال على موعد مع النجاح عندما حسم الألقاب الأوروبية الخمسة الأولى في التاريخ بشكل متتالٍ. وبذلك، أصبحت صورة إسبانيا في أوروبا هي الفريق الكروي الذي يجتاح ملاعب الخصوم. وعقب ذلك نجح فرانكو في استخدام منتخب إسبانيا في خطته، ففي أمم أوروبا 1964 تواجه المنتخبان السوفييتي والإسباني في النهائي، والهزيمة حينها لم تكن خيارا يمكن أن يقبله فرانكو تحت أي ظرف. وبالفعل، استطاع المنتخب الإسباني أن يحقق لقبه الأول والوحيد في القرن العشرين، ويلحق الهزيمة بالسوفييت.

  

وكما ذكرنا في التقرير المُشار إليه سابقا، فإن فرانكو قد استغل هذه الانتصارات في تشتيت الانتباه عن فساد حكومته وقوانينها الظالمة، كما أنه استغل البث التلفزيوني في وصول هذه الحالة إلى أكبر عدد ممكن من الشعب الإسباني. وكانت تلك إحدى الحالات التي عُدَّت فيها كرة القدم أفيونا للشعوب. ونجح الجنرال الذي قبض على إسبانيا بالحديد في الاستفادة من نجاح الريال دوليا، فكان اجتياح الميرينغي لألقاب القارة سببا في عودة العلاقات مع المحيط الأوروبي، خاصة وأن فرانكو قد أوجد لنفسه مكانا في الخطة الأميركية لمواجهة المد الشيوعيّ السوفييتي في أوروبا!

  

الجنرال فرانكو يصافح سانتياغو بيرنابيو (مواقع التواصل)
الجنرال فرانكو يصافح سانتياغو بيرنابيو (مواقع التواصل)

  

لكي تتضح قوة بيرنابيو داخل هذا النظام، فلا بد من ذكر حكاية أحد الجنرالات والذي كان يحب القدوم إلى مقصورة كبار الزوار في ملعب ريال مدريد، وكانت من عادات هذا الرجل أن يحاول التحرش بالسيدات لفظيا مستغلا مكانته السياسية. وفي إحدى المرات، زاد الأمر عن الحد، فما كان من سنتياغو برنابيو إلا أن أصدر قرارا بمنع دخول هذا الجنرال ذي الرتبة العسكرية العالية. وفي المرة الأولى التي يُمنع فيها الجنرال من دخول الملعب، اشتاط غضبا وتوعد رئيس النادي الذي لا يدرك حدوده. اكتملت فصول هذه الحكاية بأن فرانكو شخصيا تدخل لإنفاذ كلمة سانتياغو بيرنابيو، ولم يدخل الجنرال إلى ملعب ريال مدريد مرة أخرى!

  

وجهان ومجموعة من الأسئلة

لا يهدف هذا التقرير إلى رسم صورة فخمة للرجل الأعظم في تاريخ ريال مدريد سنتياغو برنابيو، ولا يهدف كذلك إلى اتهام الجندي برنابيو في الجيش الفاشي، لكنه يريد عرض الصورة كاملة، الوجهين، وعرضهما معا يفتح المجال للعديد من التساؤلات، والتي لا يهدف التقرير أيضا للإجابة عنها، بقدر ما يهدف إلى إثارتها.

  

السؤال الأول يأتي من مسألة تقسيم الصورة إلى وجهين حسب الزاوية التي يريدها المتكلم في السجالات اللفظية بين مشجعي الفرق المتنافسة. جماهير الريال سوف تفضل الحديث عن الصورة الأولى، والتي تقف على عظمة رئيس النادي التاريخي، والرجل القوي. أما جماهير برشلونة فستفضل الاكتفاء بالحديث عن علاقة الرجل بنظام الجنرالات، وكأن ريال مدريد يستمد قوته إلى الآن من هذا النظام الذي انتهى منذ أكثر من 4 عقود! حتى إن تأويل بعض المواقف سوف يتحدد من خلال ذات الزاوية؛ فبينما يرى مشجع الريال أن حكاية بيرنابيو مع الجنرال المتعجرف في مقصورة كبار الزوار دليلا على قوة الرجل وأخلاقياته وحمايته لصورة النادي، سيرى مشجع برشلونة ذات الواقعة دليلا على فساد الرجل وعلاقته القوية بفرانكو شخصيا. ولكن، لماذا لا يمكن القول بأن بيرنابيو كان يحمل ملامح من هذا وذاك معا؟

 

   undefined

  

لو اتفقنا مثلا أن برنابيو كان يحمل الوجهين، فهل يمكننا أن نتجاهل في التقييم وجهه السياسيّ ونتحدث فقط عن كرة القدم؟ قبل فترة ليست طويلة سمعنا كلا من محمد صلاح ومسعود أوزيل يقولان إنهما لاعبا كرة قدم، وإن السياسة ليست جزءا من اللعبة. فهل يمكن الفصل في التقييم؟ أو بكلمات أوضح؛ هل يمكن أن تنفصل القيمة الرياضية لبعض اللاعبين أو الشخصيات الرياضية عن صورتهم الإنسانية الكاملة، والتي تحمل فيها أجزاء سياسية مثلا؟

  

السؤال الأخير والأكثر أهمية؛ ما الذي يجعل أحد المشجعين يذهب إلى نادٍ بعينه، ويعادي الآخر؟ هل يبدأ الأمر بقيمة تتجاوز كرة القدم مثل قيمة المقاومة في برشلونة مثلا أو قيمة تحدي الصعاب مثلا كما هو الحال في درتموند كلوب؟ لو كان الأمر كذلك فالتشجيع قرار أخلاقي، ولو أن أحد الفرق تخلى عن القيمة التي يمثلها، فسوف يخسر مشجعيه، وهو ما لا يحدث في المعتاد. فبذكر كلوب مثلا، سنجد أن الرجل الذي طالما عارض إنفاق الأموال الطائلة في كرة القدم، هو ذاته الرجل الذي أنفق ما يفوق 200 مليون دولار في ميركاتو 2019. فلو أن الأمر أخلاقي صرف، لماذا لا نجد بعض مشجعي ليفربول مثلا قد تراجعوا عن تشجيع النادي؟

  

undefined

  

أم أن تشجيع كرة القدم هو قرار عاطفي، يبدأ فيه المشجعون بدعم فريق بعينه، ثم يبدأون لاحقا في تدعيم هذا التشجيع بالأخلاقيات الصورية التي تتجاوز كرة القدم؟ يبدأ أحدهم مثلا تشجيع ريال مدريد لأنه يحب زيدان، وبعدها يأتي الحديث عن العراقة والنادي الملكي إلخ، ويبدأ آخر في تشجيع برشلونة لأنه يحب ميسي، وبعدها سوف يتحدث عن مقاومة كتالونيا وشرف برشلونة.

   

الحقيقة أن التشجيع كقرار عاطفي لا قناعة أخلاقية يمكنه أن يفسر لنا لماذا يفضل كل فصيل أن يتمسك بجانب واحد من الصورة لتدعيم وجهة نظره، ويشرح لماذا ستختلف تأويلات الموقف نفسه إلى درجة التضاد في بعض الأحيان، وسوف تشرح لماذا لم يتخل مشجعو الريال العريق عن فريقهم الذي يركل أساطيره العريقة خارج أبوابه فور انتهاء خدمتهم، وليس كاسياس منّا ببعيد، وسوف يشرح لماذا لم يتخل مشجعو البلوغرانا عن فريقهم الذي يدافع عن القيم لكنه سيتدخل في صفقة مالكوم في لحظاتها الأخيرة قاطعا الطريق الشرعي على روما! ورغم التناقض فإن الكل يتهم الآخر.

المصدر : الجزيرة