شعار قسم ميدان

أرسنال وإيمري.. البحث في سلة المهملات

ميدان - أرسنال وإيمري

الخبر هنا أن ناديًا من أكبر أندية إنجلترا قد تعاقد مع مدرب شاب واعد، ليبدأ معه مرحلة انتقالية عقب رحيل مدربه التاريخي بعد عقدين من الزمن، والمشترك بين الثنائي أن كليهما يرغب بشدة في العودة إلى الواجهة بعد سنوات لا توصف إلا بالفراغ. فراغ تخلف عن مخاطرة غير محسوبة العواقب بتعاقد إيمري مع نادي العاصمة الفرنسي، والذي لم يملك فيه الكثير من الصلاحيات، وفراغ آخر تركه أرسين فينغر، أو صنعه بالأحرى في أعوامه الأخيرة.

  

الخلاصة هنا، أنه لا خلاصة، كل الاحتمالات مفتوحة، وكل لفظة في الخبر هي بمثابة فخ، عملية منطقية معقدة تحمل عدة تفسيرات. حاول أن تسأل أرسنال عن ماهية "الواجهة" وستدرك صعوبة تحليل الخبر. هل الواجهة هي التأهل لدوري الأبطال، أم المنافسة على الدوري أم كلاهما؟ وهل هناك اتفاق بين أرسنال وإيمري على تعريف تلك اللفظة؟ دائمًا ما كانت الإجابات مبهمة في شمال لندن لأن أحدًا لا يسأل الأسئلة الصحيحة.

 

  

الاستغراق في العادية
سوق الانتقالات هو أحد أهم مصادر الإجابات إن لم يكن أهمها، لذا لا تحتاج كثير من التحليل لتتلقى الإجابة الأولى؛ رغم طموح إيمري الكبير الذي تمثل في إعلان نيته اللحاق بمانشستر سيتي، فإن أرسنال وبوضوح، لا ينوي المنافسة على الدوري، بل ولا ينوي حتى التظاهر بأنه ينوي المنافسة على الدوري، أي نتيجة أخرى ستكون مفاجأة لأرسنال نفسه قبل أي طرف آخر في المعادلة. (1)
 

حارس جيد، وارتكاز واعد للغاية، ومدافع متوسط في أفضل التقديرات، ولاعب وسط يحتاج لسنوات من التطوير، وظهير أيمن مخضرم جدًا، ربما أكثر من اللازم. كالعادة مارس أرسنال هوايته في تسديد الخانات بغض النظر عن التفاصيل، أو بمعنى أصح فإن أرسنال قد مارس هوايته في غض النظر عن التفاصيل إلا تلك التي توافق خطته المالية، ببساطة لأن خطته المالية تحتل صدارة الأولويات، بل ويمكن اعتبارها الواجهة الحقيقية حتى يتحلى أحد مسؤوليه بالجرأة الكافية لتحديد أهداف الموسم قبل بدايته. (2)

 

4 صفقات يأمل إيمري في زيادتها إلى 5 أو 6، (3) بالإضافة إلى استعادة الكثير من العاديين بعد رحلات إعارة متباينة الفشل، والسؤال الثاني، بطبيعة الحال، هو عن امتلاك إيمري للأدوات التي تسمح لنا بطرح السؤال الأول؛ هل يمكن لأرسنال بقائمته الحالية أن يعود للواجهة أصلًا؟

كم مُهمل

إن كنت ترغب في إجابات على كل ما سبق فللأسف لن تجد إلا المزيد من الأسئلة، ليس لأن الأمر معقد وحسب، بل لأن أكثر ما نجح فيه أرسنال عبر السنوات الأخيرة هو مراكمة الكثير من المساحات الضبابية، والتي تحولت مع الوقت إلى مناطق محرمة على الاقتحام، بقوة الأمر الواقع وبحكم أن ما تكرر قد تقرر.

  

  

ثلاث مناطق محرمة للتحديد، تحولت إلى كم مهمل في سنوات فينغر الأخيرة ولم ينجح المدفعجية في استثمارها أبدًا حتى صارت من ثوابت النادي؛ أولها هو معدل الإصابات الاستثنائي الذي لا يعلم سببه أحد وعلى الرغم من انخفاضه في آخر موسمين، وثانيها هو القدرة على تطوير اللاعبين عمومًا في مختلف المراحل السنية والتي كانت أهم ميزات الفرنسي في بداياته، وثالثها بالطبع هو القوة الذهنية والكفاءة في التعامل مع ضغوط المنافسة والمباريات الكبيرة، الأمر الذي لم يتميز فيه فينغر بشكل واضح عبر مسيرته كاملة، وتقتضي الصراحة أن نضم إيمري نفسه لهذا التصنيف الأخير رفقة سلفه الفرنسي.

 

على سبيل المثال، هناك مدربون تخصصوا في استغلال تلك المساحات وتحويلها لأفضلية لفِرقهم، أشهرهم هو سيميوني الذي يمكنك اعتباره أحد رواد "جمع الكسور". التشولو يجمع كل الأرقام الجانبية التي لا يعبأ بها أحد لتكوين حصيلة مرعبة في النهاية؛ كل التقنيات العلمية للتغلب على الإجهاد، كل دقائق الراحة الممكنة لتجنب الإصابات والوصول لأفضل مردود بدني ممكن، كل أساليب التغذية والتواصل بين المجموعة لتحقيق أفضل حضور ذهني، كل الأمور التي كان فينغر أحد روادها يومًا ما. (4) 

 

الأمر أشبه بقصة الفيلم الشهير Office Space؛ مجموعة من الموظفين يقررون إنشاء حساب وهمي لتحويل كل الكسور في تحويلات البنوك عليه، وبمجرد إنشائه، يكتشفون أن أرباع وأنصاف الدولارات قد كونت عشرات الملايين عندما تم جمعها في مكان واحد، عشرات الملايين لا يرغب فيها أحد لأن الجميع يعتبرها كمًا مهملًا. (5)

 

شيطان التفاصيل

هنا يأتي دور إيمري. الرجل محير إلى أقصى درجة؛ فترات ناجحة للغاية مع فالنسيا وإشبيلية عقبها فشل مدوٍّ مع باريس في الحفاظ على أفضلية أربعة أهداف أمام واحدة من أسوأ نسخ برشلونة على الإطلاق، ولكن الجميع يتفق على شيء واحد فيما يخص الرجل؛ الهوس المَرَضي بالتفاصيل. (6) (7) (8)

  

  

عبر تحليل طويل في Four Four Two كتب "لي رودن" عن الأسباب التي تجعل إيمري أحد أنسب المدربين لأرسنال في الحقبة الحالية، بدأها بالقصص المعروفة عن ولعه الشديد بتحليل الفيديو، والذي يصل لدرجة مشاهدة 12 ساعة بعد كل مباراة وتجهيز ملخصات لكل اللاعبين تتضمن تعليماته، والكل يعلم عن خواكين الذي اعتبر الأمر  أكبر من قدرته على الاحتمال، والفشار الذي نفذ منه قبل أن تنتهي فيديوهات إيمري. (9) (10)

 

المهم أننا نعلم أن الإصابات هي واحدة من تلك المساحات غير المطروقة التي سيقتحمها إيمري، مساحة مهمة للغاية أودت بموسم أرسنال في عدد من السنوات وقضت على آماله في المنافسة، وبالإضافة إلى ذلك فإننا نتحدث عن مدرب له أكثر من تجربة ناجحة في تطوير اللاعبين، بل إن هناك لاعبين لم يظهروا بشكل جيد إلا تحت إدارة الرجل أصلًا، أشهرهم على الإطلاق الكولومبي باكا والبولندي كريخوفياك الذي فقد موقعه الأساسي في التشكيل عندما انضم لإيمري في باريس لاحقًا.

  

تلك هي أهم مميزات إيمري على الإطلاق، النقطة التي تتقاطع فيها قدرته على استخراج أفضل ما في لاعبيه، مع فائض الكميات المهملة في أرسنال، الكميات التي تنتظر تقييمًا حقيقيًا ولا يعلم أحد إن كان ما تقدمه هو مستواها الحقيقي أم هو نسخة محبطة بفعل سنوات الدَّعَة وانعدام الهدف والغاية والطموح في نهاية ولاية فينغر. تلك هي نقطة قوة إيمري الحالية، المجالات الهائلة التي يمتلكها بعض لاعبي أرسنال للتطور من جهة، وقدرته على إعادة تدوير المهملات من جهة أخرى.

  

هامش الربح

تحت إمرة الأسباني التركي الأصل، تحول عادل رامي من منبوذ ميلان صاحب الفضائح الدفاعية المخجلة إلى مدافع جيد يمكن الاعتماد عليه، وتمكن نزونزي أخيرًا من إطلاق سراح موهبته التي ظلت حبيسة السخرية لسنوات طويلة في إنجلترا بعد أن شبهه الجميع بباتريك فييرا في بداياته، وتم إنقاذ موهبة بانيغا من الضياع بعد أن أصابته مراهقة اللاتينيين المبكرة في أوروبا. (9)

 

حتى في باريس ورغم خسارته لقب الدوري لحساب موناكو في الموسم الأول، فإن بصمة الرجل كانت واضحة على آخرين مثل كيمبيمبي ولو سيلسو ورابيو، وهو ما يمكن تخيل أثر تكراره مع لاعبين من طراز بييرين وهولدينغ وكولازيناك وتشاكا، خاصة بعد أن أثار نجاح تشامبرلين في ليفربول العديد من التساؤلات حول قدرات المدفعجية المهدرة التي تنتظر التوجيه المناسب، كلها مناطق يمكن لإيمري أن يجعل منها روافد ربح جديدة تتجمع لتصنع ملايين الدولارات في النهاية، هوامش ربح تكتيكية وفنية تُضاف لهامش الأرباح الذي اعتاده أرسنال – بل واكتفى به – في الأعوام الأخيرة. (9)

  

  

هل الصورة بهذه المثالية فعلًا؟ بالطبع لا، عبر 15 لقاء بينه وبين كل من غوارديولا ومورينيو -فرسي المقدمة- فإن الرجل لم يفز ولو مرة واحدة، بالإضافة لأن أي متابع لمسيرته يعلم أنه بقدر ما يجيد البناء والتحضير وصناعة الأفضلية بقدر ما يسيء استغلالها وإدارتها في كثير من الأحيان، والأمر لا يتعلق بهزيمة برشلونة المشينة وحسب، بل بأمثلة أخرى ليس أولها الهزيمة في نهائي الكأس أمام نفس الفريق وهو يلعب منقوص من البداية، وليس آخرها فشله في استثمار النجاح المحلي مع فالنسيا وإشبيلية في نجاحات مشابهة، أو حتى أقل، على صعيد دوري الأبطال. (10)

 

رغم كل شيء تظل تجربة إيمري مع أرسنال واعدة للغاية؛ الرجل سيلعب بلا ضغوط تقريبًا لأن الجميع يدرك الفارق المهول في الإنفاق والانتدابات بينه وبين قطبي مانشستر، خاصة بعد انضمام ليفربول بدوره إلى سباق التعاقدات بل وتصدره في الصيف الحالي بفارق ضخم. (11) البعض قد يقول إن خلافة فينغر هي الأصعب، ولكن كما ترك العقد الأول من ولاية فينغر الكثير من المجد، فإن عقده الثاني قد خلف الكثير من الثغرات والتفاصيل التي يمكن لإيمري اللعب على استعادتها، فقط عليه البحث جيدً سلة المهملات.

المصدر : الجزيرة