شعار قسم ميدان

"سلوكك على الإنترنت يكشف أولوياتك".. كيف ترتب الخوارزميات حياتنا؟

ميدان - تقنية

بشكل أو بآخر، يُمكن تشبيه الشبكات الاجتماعية بالصحف الورقية التي كانت يوما ما المصدر الرئيس لقراءة آخر الأخبار. إلا أن ثورة الإنترنت أزاحت الصحف، ليصبح الإنترنت مصدر الأفراد الأول -لدى قطاعات واسعة من المجتمع- لاستقاء المعلومات. وبظهور الأجهزة الذكية جاءت الشبكات الاجتماعية لتُصبح المكان الأمثل للحصول على تلك الأخبار، وبشكل آني.

 

يوميا هناك مئات الأخبار، ومن مهام فريق التحرير في الصحيفة ترتيبها وتحديد المهم منها لاختيار ما يوضع على الصفحة الرئيسة، لتتناقص الأهمّية كُلّما اقترب الخبر من الوجه الأخير للصحيفة، أو بحسب أساليب التحرير المتبعة بالصحف لتحديد الأولويات. ذات الأمر ينطبق على شبكات التواصل الاجتماعي، إذ إن عرض المشاركات لا يتم فقط بحسب وقت نشرها، بل هناك آليات تحريرية لترتيب عرضها واختيار المناسب منها للظهور في بداية الشريط الزمني الخاص بالمستخدم.

 

تلفاز الإنترنت
في كل دقيقة على الإنترنت يُرفع على منصّة يوتيوب ما يُقارب 400 ساعة من مقاطع الفيديو التي يحصل كل مقطع فيها على عنوانه وعلى رابطه الخاص لتسهيل مُشاركته على بقيّة الشبكات الاجتماعية(1). طُرق أُخرى تتوفّر للوصول إلى المقاطع على غرار مُحرّك البحث، أداة الاقتراحات الجانبية، أو تلك التي تظهر في الصفحة الرئيسة، الأمر الذي لا يُمكن لقوّة بشرية تحمّله أو القيام به على المدى الطويل.

    

    

في الصفحة الرئيسة للموقع أو للتطبيق دائما ما يلحظ المستخدم مقاطع متنوعة، بعضها من قنوات يُتابعها، وبعضها الآخر يتعلّق بمواضيع يهتم بها، مع وجود شريحة صغيرة من المقاطع الرائجة بحسب البلد. ما يحصل في الصفحة الرئيسة هو أن خوارزميات يوتيوب تبحث أولا عن تفضيلات المستخدم وعن الكلمات التي استخدمها في عمليات البحث، وعند أول زيارة بعدها ستبدأ تلك الاقتراحات بالظهور أكثر من مرّة، قبل أن تستسلم الخوارزميات في حال لم يشاهدها المستخدم، لتحاول حينها تقديم شيء آخر له.

 

استسلام الخوارزمية لا يأتي من فراغ، فالهدف الرئيس هو توقّع تفضيلات المستخدم وتقديم اقتراحات له. ليس هذا فقط، بل حتى تلك الاقتراحات تتم مراقبتها خصوصا عندما يدخل المستخدم إليها لمعرفة الوقت الذي قضاه في الفيديو. بعدها، تجري عملية تقييم لتلك العوامل لتُقرّر الخوارزميات إما الاستمرار على نفس الوتيرة، وإما الانتقال إلى معايير أُخرى بناء على تفضيلات ومشاهدات سابقة قام المستخدم بها.

 

مُحرّك البحث هو الآخر من الأدوات الجيّدة في يوتيوب، لكن ومع وجود آلاف المقاطع التي تُرفع يوميا فإن عرض المقاطع في نتائج البحث يجب أن يتم بطريقة مدروسة. الخوارزميات في مُحرّك البحث تأخذ بعين الاعتبار القنوات التي يُتابعها المُستخدم أولا، بالإضافة إلى المقاطع التي تحمل في عناوينها ووصفها نفس الكلمات التي أدخلها المستخدم في شريط البحث. بعد ذلك تبدأ تصفية على مستوى آخر تخص تلك المقاطع، فصاحب القناة وبياناته وسلوكه يؤثّران على ظهور مقاطعه في نتائج البحث. وإضافة إلى ذلك، يلعب عدد الإعجاب، وعدم الإعجاب، والمشاركات دورا مهما إلى جانب عدد التعليقات على المقطع.

 

باختصار، عوامل مثل التفاعل مع المقطع والقناة ومدى التزامها بمعايير الجودة، بالإضافة إلى استخدام الكلمات المفتاحية الصحيحة، تُعتبر الشيء الرئيس الذي تُركّز الخوارزميات عليه داخل يوتيوب. كما ذكر أحد المُهندسين أن كل مقطع يُعامل وكأنه مطعم، فالمستخدم يحتاج إلى سبب منطقي يدفعه إلى زيارة المطعم وتجربته. ونفس الشيء في مقاطع الفيديو، يجب أن تكون هناك مُغريات تبدأ من العوامل السابقة دون إغفال أهمّية محتوى المقطع ذاته التي تُعتبر السبب الرئيس وراء مشاركته وترك تعليقات إعجاب عليه، لتبدأ بعدها دورة مُغلقة يكسب المقطع فيها كُلمّا دار أكثر.

     

   

ألبوم صور
إذا كان يوتيوب هو تلفاز الإنترنت فإن إنستغرام هو ألبوم صوره، التطبيق الذي نجح خلال فترة قصيرة في كسب ود شريحة كبيرة من المستخدمين انتهج منذ بداياته مبدأ الترتيب الزمني فقط، فالمشاركات تظهر بترتيب زمني عكسي، من الأحدث إلى الأقدم. لكن وبعد سنوات من الأبحاث تبيّن أن 70٪ من المحتوى لا يُشاهده المستخدم(2)، الأمر الذي دفع مُهندسي الشركة إلى الاستعانة بخوارزميات تقوم بترتيب المحتوى حسب الزمن وحسب الأهمّية كذلك.

 

الفكرة باختصار هي دراسة كل مُشاركة من الأصدقاء وتقييمها، فالمشاركات التي سبق للمستخدم أن تفاعل مع صاحبها سواء عبر الرسائل أو عبر تعليق وإعجاب ستظهر قبل المشاركات التي من النادر أن يحدث تواصل مع أصحابها. ونفس الأمر ينطبق على الصفحات، فالمشاركات التي تحمل أعلى نسبة تفاعل ستظهر أيضا قبل تلك التي لم تُعجب الكثيرين، ومن هنا تظهر أهمّية المُتخصّصين في التسويق الرقمي على الشبكات الاجتماعية، لأنه علم وليس مُجرّد إنشاء مشاركة جديدة ونشرها، أو حتى الدفع لترويجها.

 

يُمكن ترك التفاصيل التقنية الخاصّة بخوارزميات عرض آخر المشاركات في إنستغرام لخوارزميات فيسبوك، الشبكة التي تخدم أكثر من ملياري مُستخدم حول العالم بلغات مختلفة، وهذا بسبب وجود أسرار أكثر أهمّية داخل حكايات إنستغرام، الميزة التي تم نسخها من تطبيق "سناب شات" (Snapchat). يُمكن للمستخدم معرفة المُتابعين الذين قاموا بمشاهدة حكايته عن طريق قائمة خاصّة تحمل بدورها خفايا برمجية، لتتحول من كونها مجرّد سجل لعرض الأسماء فقط.

    undefined

     

لم تُشارك شبكة إنستغرام آلية عمل خاصيّة الحكايات، لكن وبحسب التجارب فإن قائمة عرض مُشاهدي الحكاية تخضع لخوارزميات خاصّة تتحكّم في ظهور الأسماء داخل القائمة، فالترتيب ليس زمنيا بشكل دائم، بل هناك عوامل مُختلفة تتدخّل بهذا الأمر. أُجريت تجربة بسيطة قام من خلالها أحد المستخدمين بزيارة حساب صديقه بشكل يومي على مدار أسبوع كامل تقريبا، مع امتناع الشخص الثاني عن زيارة حساب الأول. وبعد تلك الفترة، وعندما شاهد المستخدم الأول حكاية المستخدم الثاني، ظهر اسمه على رأس القائمة على الرغم من أنه لم يكن الأول أبدا في المشاهدة(3).

 

نفس الأمر سيتكرّر في حالة وجود تواصل عبر الرسائل الخاصّة بين المستخدمين، دون نسيان تسجيل الإعجاب على الصور وترك تعليقات عليها، فكُلّما كثرت تلك التفاعلات بين المستخدمين تقدّم الاسم في الترتيب. في بعض الأحيان يتدخّل الترتيب الزمني بالفعل، لكن وبشكل عام هناك خوارزميات تتحكّم حتى بهذا الأمر، لتُصبح قائمة الأسماء مثل الشريط الزمني، تحتوي على محتوى مدروس بعناية، وكل شيء من تفاعلات وعمليات بحث وزيارات لصاحب الحساب تؤدّي إلى اختلاف الترتيب.

   

فيسبوك
يُمكن تشبيه آلية عمل خوارزميات فيسبوك بالذهاب إلى أحد المطاعم ومحاولة طلب طبق لأحد الأصدقاء. بداية، يجب قراءة قائمة الطعام لمعرفة كل شيء متوفّر قبل الاستفادة من بعض المعلومات الأُخرى مثل أنواع الأطعمة أو المكوّنات التي لا يُفضّلها ذلك الشخص مع أخذ وقت الطلب بعين الاعتبار. وبعد تحديد مجموعة من الخيارات تبدأ مرحلة التقييم بناء على العلاقة الشخصية مع الصديق في محاولة لاختيار أكثر طبق يُمكن أن يجعله سعيدا، وأخيرا تنتهي المراحل بطلب الطبق.

 

يُمكن إعادة المثال السابق بشكل تقني يتماشى مع خوارزميات فيسبوك التي تأخذ أربعة عوامل بعين الاعتبار في كل مرّة يدخل المستخدم فيها إلى التطبيق. تنظر الخوارزميات أولا إلى كافّة المشاركات التي نُشرت من قِبل الأصدقاء والصفحات منذ آخر زيارة للمستخدم، لتقوم بعد ذلك باللجوء إلى الإشارات (Signals)، مثل الحساب الذي يقف خلف المشاركة ومدى التوافق بينه وبين المستخدم الذي يتصفّح التطبيق، أو مثلا وقت النشر والجهاز الذي يتصفّح المستخدم منه. بعدها تأتي مرحلة التقييم عبر النظر إلى آخر تفاعل بين المُستخدمين، ومُعدّل التفاعل بشكل عام، مع أخذ تفاعلات الأصدقاء مع نفس المشاركة بعين الاعتبار أيضا. أخيرا، تبدأ مرحلة وضع النقاط (Score) لعرض المشاركات بترتيب تظهر فيه المشاركات التي حصلت على أعلى النقاط أولا.

     

    

الإشارات على سبيل المثال تندرج تحتها الكثير من النقاط، مثل نشاط صاحب الحساب بشكل عام على الشبكة، ومستوى التفاعل مع مشاركته من قِبل المتابعين، بالإضافة إلى متوسّط الوقت الذي يقضيه المُستخدمون في قراءة أو مشاهدة ذلك المحتوى، وحجم التفاعل الإجمالي أيضا. وجود إشارة لأحد الأصدقاء في المشاركة أو إعادة نشرها من قِبل أحد الأصدقاء من شأنه منحها دفعة قوية قبل التقييم النهائي الذي يتدخّل فيه عامل آخر يتمثّل بتوقّعات الخوارزميات التي تدرس احتمالية أن يضغط المستخدم على تلك المشاركة، أو أن يقوم بتسجيل إعجابه عليها، أو أن يقوم بترك تعليق عليها، أو إعادة نشرها في أفضل الحالات. وإلى هنا، تُصبح الخوارزميات جاهزة لإطلاق تقييمها النهائي وعرض المشاركات للمستخدم بالترتيب الأمثل.

 

هناك معايير على المستوى العام يتم النظر إليها، فبعيدا عن التفكير التقني هناك خطوط أساسية تتبعها شبكة فيسبوك منذ اليوم الأول تبدأ من فكرة أنها شبكة للتواصل مع الأصدقاء والعائلة، وبالتالي هناك أهمّية أكبر للمشاركات المنشورة من قبلهم. كما أن تنويع المحتوى ما بين روابط وصور وفيديو ومشاركات نصيّة أمر تُشجّع الشبكة عليه وتُحبّه الخوارزميات أيضا طالما أنه محتوى لا يخالف شروط الاستخدام ولا يدعو للكراهية و لا يروّج لأخبار كاذبة. أما المعيار الأخير فهو المستخدم نفسه، فهو صاحب التفضيلات وصاحب الرأي، وهو من يُقرّر فيما إذا كان يرغب بمتابعة مشاركات حساب ما دونا عن الآخر. لكن يجب عدم نسيان وجود مكان في الشبكة للإعلانات وللمحتوى الترويجي الذي لا يخضع -دائما- لتلك الخوارزميات(4).

   

آخر الأخبار: تويتر
تختلف شبكة تويتر بشكل كبير عن بقيّة الشبكات آنفة الذكر لأنها بالأساس تُستخدم للوصول إلى آخر الأخبار بفضل طبيعة المشاركات فيها المحدودة بعدد حروف مُعيّن، الأمر الذي جعلها الخيار الأمثل لمُختلف وسائل الإعلام لمشاركة الروابط، وللمستخدمين على حد سواء. ومن هنا، فإن تويتر ومنذ اليوم الأول لها اعتمدت على عرض التغريدات بترتيب زمني من الأحدث إلى الأقدم، فالمستخدم يدخل لمتابعة آخر الأخبار، وعليه لا يُمكن التلاعب بالترتيب أبدا. لكن هذا الأمر لم يمنع الشبكة من إعادة التفكير في الأمر، فجميع الشبكات الاجتماعية تعتمد على خوارزميات ذكية في ترتيب الشريط الزمني، وتويتر ليست باستثناء بطبيعة الحال، لتُعلن مع بداية 2016 عن بدء اختبار خوارزميات جديدة أيضا.

    

    

لم يتقبّل مُستخدمو الشبكة ذلك الأمر، وخرج وسم (#RipTwitter) في إشارة إلى قُرب النهاية بالنسبة للشبكة، فالتلاعب بترتيب المشاركات يعني نفور مُستخدميها. وبعد فترة من الاختبارات تم اعتماد الخوارزميات الجديدة، لكنّ المستخدمين لم يلحظوا أبدا أي فروق في ترتيب الشريط الزمني، باستثناء بعض الأمور البسيطة مثل ظهور قسم خاص يقترح بعض التغريدات أو بعض الحسابات، وآخر بتغريدات فاتت المستخدم أثناء عدم وجوده داخل التطبيق. وبحسب القائمين على الشبكة فإن تلك التغييرات أدّت إلى زيادة التفاعل مع التغريدات من ناحية الوقت الذي يقضيه المستخدم في قراءة التغريدات، أو داخل الشبكة بشكل عام، وهو أمر تسعى أي شبكة اجتماعية له(5).

   

   

تحدّث مُهندسو تويتر فيما بعد عمّا يحدث في الخفاء عند زيارة التطبيق، شارحين آلية مُشابهة لتلك المُستخدمة في فيسبوك تعتمد على تقييم كل تغريدة ومن ثم عرضها بترتيب حسب التقييمات التي تستند إلى عوامل مثل نوع التغريدة ومحتوياتها وعدد التفاعلات معها، إضافة إلى قِدَم العلاقة بين صاحب التغريدة وصاحب الحساب وحجم التفاعلات بينهما. قسم التغريدات الفائتة يخضع بدوره لنفس الخوارزميات لتظهر فقط تغريدات من حسابات يستفيد المُستخدم منها، أو يمتلك تفاعلا مع صاحبها انطلاقا من أن تغريداته السابقة كانت مُهمّة وذات قيمة.

 

بعد وصول الخوارزميات الجديدة لم تعد الشكاوى بنفس الحجم السابق، فالمستخدمون وجدوا أن التغيير طفيف من جهة، وأن أقساما جديدة تُظهر لهم تغريدات يرغبون بقراءتها أُضيفت إلى الشريط الزمني، وهذا بدوره دفع مُهندسي الشبكة إلى الاستمرار في تطوير تلك الخوارزميات لتقييم التغريدات خلال أجزاء بسيطة من الثانية لضمان حصول المستخدم على مُبتغاه دون تأخير أبدا، وهذا يتم عبر خوارزميات التعلّم الذاتي للآلة التي تتدخّل في تقييم التغريدات بعد أخذ الكثير من العوامل بعين الاعتبار(6).

 

هناك تفاصيل تقنية واختبارات تجري بشكل يومي داخل جميع الشبكات الاجتماعية لضمان عرض مشاركات أفضل وجذب شريحة أكبر من المستخدمين بطبيعة الحال، الأمر الذي يُفسّر صعوبة المُقابلات التي يُجريها المُتقدّمون للعمل في تلك الشبكات، فلا مجال للخطأ أبدا عند كتابة وبرمجة خوارزميات لعرض المشاركات، لأن تغيير الترتيب بشكل غير منطقي سيؤدي إلى نفور المُعلنين وأصحاب الحسابات. ويُفسّر كذلك أهمّية تخصّصات وتفرّعات التسويق الرقمي، فكما يقول "جاري فاينرشوك" (Gary Vaynerchuk)، يجب تخصيص كل مشاركة لتتوافق مع الشبكة الاجتماعية التي تُنشر عليها، وصيحة إنشاء صورة أو فيديو ونشره على جميع الشبكات بنفس الشكل أمر لم يعد ذا قيمة مع تغيّر الخوارزميات باستمرار(7).

المصدر : الجزيرة