شعار قسم ميدان

"إعلان وفاة".. ما السبب وراء اندثار برنامجي الرسام وفلاش؟

midan - flash

حمل شهر (تموّز/يوليو) 2017 أخبارًا سعيدة جدًا لشبكة فيسبوك الاجتماعية وتطبيقاتها المُختلفة التي تُشكّل الواجهة الحديثة للحواسب في وقتنا الراهن. تلك السعادة كان مصدرها العائدات المالية الكبيرة التي حقّقتها الشبكة الأُم رفقة الأرقام الكبيرة على صعيد المُستخدمين في جميع تلك التطبيقات.

 

لكن، وفي الوقت ذاته، لم يكن ذلك الشهر فأل خير على الواجهة القديمة، أو المُتجدّدة، للحواسب التي تتمثّل في شركات على غرار مايكروسوفت و"أدوبي" (Adobe)، فالأولى أعلنت عن إحالة أحد أشهر تطبيقاتها للتقاعد. بينما كانت الثانية أشدّ قسوة عندما أعلنت قتل إحدى تقنياتها بشكل كامل مع حلول 2020. برنامج الرسام كان ضحيّة مايكروسوفت التي تردّدت ما بين الإنعاش والموت الرحيم. في وقت وضعت شركة أدوبي فيه حدًا لمسيرة تقنية فلاش (Flash).

 

الرسام
هنالك الكثير من الذكريات أو الصور الثابتة التي تتبادر للأذهان عند الحديث عن نظام ويندوز من شركة مايكروسوفت، والذي حطّ رحاله في عالم الحواسب مع حلول عام 1985 تقريبًا. وقبل أن يكون زر "ابدأ" هو العلامة الفارقة لنظام ويندوز، كانت هناك صور أقدم، من أبرزها برنامج الرسام (aintP) الذي شقّ طريقه بنجاح منذ الإصدار الأول وحتى يومنا الحالي.

  undefined

 

يُمكن اعتبار شركة "آي بي إم" (IBM) وإطلاقها للحواسب الشخصية (Personal Computers)، وظهور الماوس في عام 1983 تقريبًا(1)، من الأمور التي ساهمت في تطوير برنامج الرسام الذي كان ظهوره الأول على حواسب شركة آبل(2). في ذلك الوقت، كانت أجهزة "الماوس" حديثة العهد، والشركات تتصارع فيما بينها لإطلاق أول حاسب مُزوّد بجهاز يسمح التحكّم بالمحتوى بعيدًا عن لوحة المفاتيح.

 

وبالفعل، جاءت شركة "ماوس سيستمز" (Mouse Systems) وسبقت الجميع، بما فيهم مايكروسوفت، وأطلقت أول "ماوس" متوافقة مع حواسب "آي بي إم" الشخصية. واستكمالًا لرؤيتها، تعاقدت الشركة في ذلك الوقت مع مُطوّري برنامج "ماوس درو" (MouseDraw)، الذي يستفيد من الماوس ويسمح للمستخدمين بالرسم.

 

"ماوس سيستمز" كانت المُحفّز الأكبر لمايكروسوفت، فبعدما سبقتها في إطلاق الماوس قامت بتغيير اسم البرنامج الذي استحوذت عليه إلى "بي سي بينت" (PCPaint) وقامت بتقديمه على طبق من ذهب لحواسب "آي بي إم" موجّهة بذلك لَكمتين لمايكروسوفت. في ذلك الوقت كان الهدف من البرنامج واضحا، وهو منافسة آبل فقط لا غير، التي امتلكت برنامجين للرسم والتعديل على الرسوميات في حواسبها المُختلفة.

 

وبما أن فكرة برامج الرسم باستخدام الماوس كانت رائجة في ذات الوقت، ارتفعت المنافسة وبدأت جميع الشركات بتطوير الفكرة نفسها، من ضمنهم شركة "زي سوفت" (ZSoft) التي طوّرت برنامج "بينت براش" (PaintBrush) الذي نجح في حصد اهتمام مايكروسوفت لتقوم بتوقيع اتفاقية لتضمينه في الإصدار الأول من نظام ويندوز المعروف باسم "ويندوز 1.0″، وحمل وقتها اسم "بينت" (Paint)(3).

  undefined

 

خلال تسعينيات القرن الماضي، استمرّ التعاون بين الشركتين، وقامت مايكروسوفت بإعادة تسمية البرنامج إلى "بينت براش" (PaintBrush) قبل أن تصل تلك الشراكة لمفترق طُرق بسبب الجهود التطويرية الكبيرة المبذولة من قبل "زي سوفت"، وهو الأمر الذي لم ترغب به مايكروسوفت بسبب ضرورة اتّباع نموذج مُحدّد أثناء تطوير البرامج لضمان عملها وتوافقها بالشكل الأمثل. ومن هنا بدأ التغيير شيئًا فشيئًا في برنامج الرسام مع صدور ويندوز 95.

 

استلمت مايكروسوفت بدءًا من تلك الحقبة زمام الأمور وقامت بإعادة تصميم الواجهة نوعًا ما مع تطوير الكثير من الميّزات على غرار لوحات الألوان الجاهزة. وتبعت هذا التحديث بآخر مع إطلاق ويندوز "إكس بي" (XP) مُضيفة دعم للواحق جديدة. واستمرّ الوضع على حاله في ويندوز 7 الذي أضافت مايكروسوفت فيه ميّزات جديدة في برنامج الرسام قبل الوصول إلى التحديث العظيم في ويندوز 10.

 

"بينت 3-دي" (Paint D3) كان الاسم الذي اختارته مايكروسوفت للجيل الجديد، أو التحديث العظيم، وهو جيل أضاف إمكانية استخدام مُجسّمات ومُلصقات ثلاثية الأبعاد وإضافتها للصور. كما يُمكن من خلاله إنشاء الأشكال والنصوص واستخدام بعض التأثيرات ثلاثية الأبعاد لتلوين الأشكال الناتجة التي يُمكن الاستفادة منها في مجالات مُتعدّدة من ضمنها نظّارات الواقع المُختلط، إضافة إلى الطابعات ثلاثية الأبعاد.

  

  

وبسبب الجيل الجديد، أعلنت مايكروسوفت إحالة الجيل الأول للتقاعد، أي أنه لن يحصل بعد الآن على ميّزات جديدة أبدًا. وهذا بدوره يفتح المجال أمام إمكانية إزالته من تحديثات ويندوز 10 القادمة لأن أي برنامج يدخل مرحلة التقاعد يعني أنه مُعرّض للإزالة(4). لكن وبسبب ردود الأفعال العاطفية التي تلقّتها الشركة، خرجت بعد ساعات قليلة مُعلنةً أن الرسام سيبقى ويُمكن تحميله من متجر تطبيقات ويندوز(5).

  undefined

  

"يوتيوب" الألفية الجديدة
لم تكن نهاية تقنية فلاش الحقيقية على يد شركة "أدوبي"، بل على يد الراحل "ستيف جوبز" (Steve Jobs) الذي امتلك الجُرأة سابقًا وخالف العرف السائد في أنظمة التشغيل وقرّر مُقاطعة تقنية فلاش بشكل كامل منذ إطلاق الجيل الأول من هواتف آيفون قبل عِقدٍ من الزمن.

  

  

تقنية فلاش يعود تاريخ تطويرها لعام 1995 تقريبًا على يد شركة "فيوتشر ويف" (FutureWave) التي كانت تُطوّر منصّة لأنظمة التشغيل لتحريك الرسوميات على الحاسب(6). لكن ومع تزايد الاهتمام بالإنترنت، رصدت الشركة تلك الفرصة وقامت بتطوير منصّة تسمح بتحريك الرسوميات واستخدامها في المواقع الإلكترونية أيضًا.

 

كانت تلك الخطوات كبيرة في عالم الحواسب، ولهذا السبب تقدّمت شركة "ماكروميديا" (Macromedia) لشراء المنصّة في 1996 وحصلت على حصرية استخدامها، وقامت بإعادة تسميتها من "فيوتشر سبلاش" (FutureSplash) إلى "ماكروميديا فلاش" (Macromedia Flash) و"ماكرو ميديا فلاش بلاير" (Macromedia Flash Player)، بحيث تمثّل الأولى منصّة تحريك الرسوميات وإخراجها بالشكل الأمثل، بينما تُمثّل الثانية المُشغّل للمقاطع الناتجة. وبسبب الجهود الكبيرة، والنقلة النوعية في عالم الويب والمواقع الإلكترونية، انتشرت المنصّة كالنار في الهشيم واعتمدت عليها الكثير من الشركات لتوفير محتوى تفاعلي.

   

استعانت يوتيوب وفيسبوك بتقنية فلاش في الفترة الأولى، فمُشغّل المقاطع في يوتيوب كان مبنيًا باستخدام فلاش، بينما اعتمدت فيسبوك على التقنية لتحديث المُشاركات دون الحاجة لتحديث الصفحة
استعانت يوتيوب وفيسبوك بتقنية فلاش في الفترة الأولى، فمُشغّل المقاطع في يوتيوب كان مبنيًا باستخدام فلاش، بينما اعتمدت فيسبوك على التقنية لتحديث المُشاركات دون الحاجة لتحديث الصفحة
  

بداية الألفية الجديدة كانت الانطلاقة الحقيقية لتقنية فلاش مع وصول الإصدار الخامس الذي حوّلها بالفعل لمنصّة كاملة مُتكاملة تسمح للمُطوّرين بتحريك العناصر واستخدام التعليمات البرمجية ليُصبح فلاش أداة لإنشاء تطبيقات تفاعلية لسطح المكتب، والهواتف، والمواقع، وأي منصّة تدعم تشغيلها.

 

يوتيوب وفيسبوك من المواقع التي استعانت بتقنية فلاش في الفترة الأولى، فمُشغّل المقاطع في يوتيوب كان مبنيًا باستخدام فلاش(7)، بينما اعتمدت فيسبوك على التقنية لتحديث المُشاركات دون الحاجة لتحديث الصفحة(8).

 

في عام 2005، قرّرت "أدوبي" الاستحواذ على شركة "ماكروميديا" لتقوم بعدها بعامين بإطلاق الإصدار الأول من "أدوبي فلاش سي إس 3" (Adobe Flash CS3) إيمانًا منها بأهمّية هذه المنصّة التي ساهمت في بناء الكثير من الألعاب على الإنترنت، دون نسيان تطبيقات الحواسب عبر منصّة "أدوبي إير" (Adobe AIR)، والهواتف الذكيّة، وغيرها الكثير أيضًا.

 

ومع وصول هواتف آيفون للأسواق في 2007 بدا للجميع أن آبل أغفلت واحدة من  أهم التقنيات، ليخرج "جوبز" قائلًا إن آبل لم ولن تدعم تقنية فلاش في هواتف آيفون أو أي أجهزة ذكية أُخرى قادمة؛ لأنها تقنية سيئة جدًا.

 

لم يُبالغ "جوبز" بذلك الوصف، فمشاكل تقنية فلاش كانت كثيرة جدًا وكانت واضحة للجميع. لكن عدم وجود بديل مُناسب حال دون استبدالها أو التخلّص منها في كثير من الأنظمة والمنصّات. ومع صدور المعايير القياسية للغة "إتش تي إم إل 5" (HTML 5)، رأى الجميع بصيصًا من الأمل بفضل الإمكانيات التي تجلبها في رسم وتحريك العناصر في صفحات الويب دون الحاجة لإضافات أو لمُشغّلات خاصّة(9).

  undefined

 

يُمكن تلخيص مشاكل تقنية فلاش بكونها كثيرة الاستهلاك لموارد الجهاز أيًا كان، فهي سريعة في قتل ذواكر الوصول العشوائي الخاصّة بالأجهزة. كما أن مشاكلها الأمنية كانت كثيرة، فخلال عام 2015، تم اكتشاف أكثر من 300 ثغرة أمنية داخل مُشغّل وإضافات فلاش على المنصّات المُختلفة(10)، وهي التي كانت تُمثّل أضعف الأبواب الأمنية التي تسمح باختراق الأجهزة بسهولة تامة.

 

ما سبق يُعلّل ضربة آبل الاستباقية بمنع تشغيل واستخدام فلاش على نظام "آي أو إس" (iOS). كما أنها ومنذ عام 2010 توقّفت عن تضمين إضافة تشغيل فلاش بشكل افتراضي في نظام "ماك أو إس" (macOS) إذ يحتاج المستخدم لتثبيتها بشكل يدوي. عناد آبل لم يأتِ من فراغ، فهي كانت من أوائل الداعمين لتقنيات الويب الجديدة، لتبدأ الشركات الواحدة تلو الأُخرى بالتخلّص من فلاش واستخدام تلك التقنيات عوضًا عنها.

 

غوغل قرّرت التخلّي عن فلاش في مُتصفّح كروم مع حلول 2016، لكنها أطلقت قبلها بفترة أداة لتحويل الإعلانات من فلاش إلى تقنيات الويب الحديثة التي تعتمد على "إتش تي إم إل 5″ و"سي إس إس 3″ (3CSS) و"جافاسكريبت" (JavaScript) أملًا منها في توفير مستوى حماية أعلى، لأن حوادث التجسّس وزرع البرمجيات الخبيثة كانت تتم عن طريق نشر إعلان يحتوي على أكواد خبيثة مخفية يتم تفعيلها بعد نشر الإعلان على منصّة غوغل، أو غيرها بطبيعة الحال(11)(12).

 

في (فبراير/شباط) 2016، بدأت "أدوبي" بحفر قبر تقنية فلاش عندما أعلنت أن تطبيق "أدوبي كونكت" (Adobe Connect) الذي يسمح بإجراء المُكالمات عبر الإنترنت سيتخلّى عن تقنية فلاش(13)، وهذا يعكس عدم رضاها الكامل عنها ورغبتها في التخلّص منها في أقرب فرصة، لتأتي بعد عام ونصف تقريبًا مُعلنة وبشكل رسمي أن 2020 هو الموعد الأخير لدعم تقنية فلاش، مؤكّدة أنها خلال هذه الفترة ستتعاون مع الشركات الكُبرى على غرار مايكروسوفت وفيسبوك وآبل لدفع المُطوّرين لاستخدام تقنيات أكثر كفاءة لإنتاج رسوميات تفاعلية عبر الإنترنت بجودة أفضل(14).

  undefined

 

تأخّرت أدوبي في هذه الخطوة على الرغم من أن مجموعة كبيرة من الشركات كانت تُحذّر من إضافة فلاش داخل المُتصفّح أو داخل النظام بشكل كامل. كما أن الجميع أصبح يبتعد عنها بالتدريج نظرًا لاستهلاكها الكبير لموارد الجهاز وهو شيء يُمكن لمسه عند زيارة أي موقع يعتمد على تلك التقنية وتشغيل أكثر من تبويب في نفس الوقت.

 

يُمكن اعتبار الاختفاء التدريجي لتلك الأسماء على أنه للخير بكل تأكيد، فتقنيات الويب الحديثة تسمح بتطوير تطبيقات متوافقة مع الحواسب والأجهزة الذكية دون الحاجة للدخول في تعقيدات وفتح ثغرات أمنية لا حصر لها. كما أن برنامج الرسام وعلى الرغم من الارتباط العاطفي به، لم يكن بذلك المستوى الذي يسمح له البقاء في ظل الاعتماد على التطبيقات السحابية المجّانية. كما أن وجود "بينت 3-دي" كحل وحيد أكثر منطقية في ظل وجود أدوات تواكب الصيحات الحالية.

 

في الأمس، اختفت تقنيات، مثل الأشعّة تحت الحمراء (Infrared)، أو بطاقة "المودم" (Modem) للاتصال بالإنترنت عبر خطوط الهاتف الثابتة، من مجموعة كبيرة من الأجهزة في وقتنا الراهن، وذلك بفضل ظهور تقنيات حديثة من الاتصالات اللاسلكية أو تقنية بلوتوث. واليوم جاء الدور على فلاش والرسام. ومن يدري، قد يكون الدور في الغد على منفذ السمّاعات التقليدي ومُستشعر البصمة في الهواتف الذكية في ظل وجود تقنيات لاسلكية لتشغيل السمّاعات، وتقنيات التعرّف على الوجه في كاميرات الهواتف والأجهزة الذكية.

المصدر : الجزيرة