شعار قسم ميدان

"كورتانا".. من شخصية كرتونية إلى مساعد مايكروسوفت الرقمي

midan - cortana

لم يكن من المُفاجئ أبدًا أن تقوم شركة مايكروسوفت بالكشف عن مساعد رقمي أسوة ببقيّة مُنافسيها، فهي تمتلك أولًا مُحرّكا للبحث، "بينغ" (Bing)، وتُنافس في مجال الهواتف الذكية بنظام ويندوز موبايل، ويندوز فون سابقًا. وما هذه سوى مجالات تُنافس فيها غوغل وآبل، أصدقاء الدرب، أعداء سوق العمل. استغلّت مايكروسوفت مؤتمرها للمُطوّرين في (نيسان/أبريل) 2014 للكشف عن النسخة الأولى من "كورتانا" (Cortana)، المُساعد الرقمي مُتعدّد المواهب أملًا في دخول أكثر من مجال في الوقت ذاته(1).

 

حجر الأساس
ظاهريًا، يبدو إطلاق مايكروسوفت لمساعد رقمي يعمل بالأوامر الصوتية مُجرد ردّة فعل على مُساعد آبل الرقمي، "سيري"، الذي نجح في زيادة الطلب على هواتف آيفون. لكن وعلى أرض الواقع، كانت هناك أحلام كُبرى قديمة العهد لم تأتِ فقط للحفاظ على شكل الشركة أمام العموم.

 

بدأ كل شيء منذ عام 2009 تقريبًا على يد مُهندسين داخل مايكروسوفت، الأول "زيغ سيرافين" (Zig Serafin) من قسم البحث والتطوير، والثاني "لاري هيك" (Larry Heck)، أحد العاملين في قسم تطوير تقنيات المحادثات والنطق في الشركة. وكانت الغاية الرئيسية هي تطوير مُساعد رقمي شخصي قادر على تنفيذ مهام المُستخدم ومساعدته في نشاطه اليومي على غرار أفلام الخيال العلمي(2).

  

  

وبالفعل، بدأ العمل على نسخة أولية من المُساعد الرقمي تحت مُسمّى "كورتانا" التي كانت شخصية في لعبة "هالو" (Halo) التي تجري أحداثها في القرن السادس والعشرين، أي ما نزال على بُعد 400 عام قبل الوصول إليها. "كورتانا" داخل اللعبة كانت تُمثّل أيضًا مُساعد ذكي قادر على تقديم اقتراحات باستمرار لأحد الأبطال وتذكرته بالكثير من الأمور، وهذا مثّل الشرارة الأولى لبدء العمل على الفكرة.

 

كلمة مُساعد شخصي لم تمر مرور الكرام على فريق العمل، ومن أجل ذلك قاموا أولًا بإجراء مُقابلات مع بعض المُساعدين الشخصيين الحقيقين، أي الأشخاص الذين يعملون كمساعد شخصي لأحدى الشخصيات العامة أو الكبيرة، وهذا لفهم آلية تفكيرهم وتطوير مُنتج رقمي يُحاكي خطوات الإنسان بكفاءة أكبر، بعيدًا عن بناء شيء خيالي لا يُمكن الاستفادة منه. وبعد تلك المُقابلات خرج مُهندسو الشركة بمبدأ المُفكرة الشخصية، فكل شخص من أولئك الأشخاص امتلك على أرض الواقع مُفكّرة لتدوين كل ما يتعلّمه عن مرؤوسه في العمل، وهذا لتسهيل اتخاذ القرار في المُستقبل(3).

 

بناء "كورتانا" جرى بالآلية نفسها، بغض النظر عن التطبيق المُستخدم، من الضروري جدًا وجود مُفكرة رقمية داخل كورتانا تقوم بتخزين كل شيء عن المُستخدم، لتختلف الإجابات على الأسئلة نفسها من شخص للآخر. الهدف الثاني من بناء كورتانا كان القيام ببعض الوظائف الاعتيادية مثل ضبط رسائل التنبيه والتذكرة، أو معرفة حالة الطقس، أو طرح بعض الأسئلة التقليدية والحصول على إجابات عليها، ولا يوجد أفضل من مُحرّك بحث "بينغ" للحصول على تلك الإجابات نظرًا لجهود مايكروسوفت الطويلة في تطويره.

 

تقوم
تقوم "كورتانا" بقراءة بريد المستخدم ورسائله لاستخلاص بعض المعلومات عنه. ففي حالة وجود رقم هاتف أو تاريخ وساعة داخل رسالة ما، ستقوم باقتراح إنشاء رسالة تذكير به
 

يُمكن اعتبار الوظيفة الثانية بسيطة وتقليدية، فهي لا تعكس وجود ذكاء أبدًا، وما هي سوى شكل من أشكال مُحرّكات البحث المُتطوّرة فقط. وهذا يُبرز أهمّية الوظيفة الثالثة التي تسمح بربط أكثر من مهمّة في الوقت ذاته. اعتمد مُهندسو مايكروسوفت على ضرورة وجود ربط بين الوظائف التي يقوم بها المُستخدم وبين المُساعد الرقمي، وهذا يسمح للمستخدم على سبيل المثال بنطق الأمر التالي: "عندما تتصل بي والدتي قُم بإرسال رسالة لصديقي محمد"، لتقوم "كورتانا" بهذا الأمر دون مشاكل، وهنا تكمن قوّتها عن البقيّة، من الناحية النظرية على الأقل.

 

وإضافة للسابق، تقوم "كورتانا" بقراءة بريد المستخدم ورسائله لاستخلاص بعض المعلومات عنه. ففي حالة وجود رقم هاتف أو تاريخ وساعة داخل رسالة ما، ستقوم باقتراح إنشاء رسالة تذكير في ذلك الوقت أو تخزين الرقم لو كان جديدًا، وكأنها بالفعل مساعد شخصي. وستقوم أيضًا، بشكل آلي، بتنفيذ بعض المهام عند رصد بيانات هامّة مثل السفر، لتقوم قبل السفر بساعات قليلة بعرض رقم البوابة التي تم تخصيصها داخل المطار لرحلة المُستخدم، مع متابعة أية تغييرات لتنبيهه بشكل آني. وما إن يصل المُستخدم لوجهته الجديدة حتى تقوم "كورتانا" بعرض حالة الطقس وأسعار صرف العملات، مع خارطة المدينة والتطبيقات المُعتمدة أيضًا، وبهذا الشكل تستبق الأحداث وتوفّر على المستخدم الكثير، خصوصًا عندما تتعقّد العمليات أو الحالات.

 

راية مايكروسوفت
بالنظر إلى الميّزات التي يُمكن لـ "كورتانا" القيام بها على غرار تذكير المستخدم عند تلقّي مُكالمة، أو عند وصوله لموقع جغرافي ما، فإن البيئة الافتراضية للمساعد الرقمي كانت الهواتف الذكية العاملة بنظام ويندوز فون 8.1، الذي كان يُمثّل الأمل بالنسبة للشركة في ظل هيمنة أندرويد و"آي أو إس" (iOS). وقبل استباق الأحداث، فإن تسمية "كورتانا" وراءها حكاية طريفة من جهة، وتعكس الاهتمام بالمستخدمين من جهة أُخرى.

 

كان اسم "كورتانا" رمزي داخل الشركة فقط لأنه يمثّل بالفعل الأمور التي يُمكن للمساعد الرقمي القيام بها، لكن الشركة كانت تُفكّر بأسماء أُخرى أكثر جاذبية لإطلاق المُنتج الذي يرسم بشكل أو بآخر مستقبلها في سوق الهواتف الذكية. وشاءت الأقدار أن يبيع أحد مُهندسي شركة مايكروسوفت هاتف "لوميا" الخاص به العامل بنسخة تطويريه من نظام ويندوز، النسخة التي كشفت عن وجود ما يُعرف بـ "زي كورتانا" (zCortana) للمرّة الأولى. وبالربط مع الشخصية الخيالية، علم المُستخدمون وجودها قبل الكشف عنها وذلك في 2013، أي قبل عام كامل من موعد الكشف الرسمي(4).

  undefined

 

بعد تلك الأحداث، علم مُتابعي مايكروسوفت نوايا مايكروسوفت بتغيير الاسم ليقوموا بإنشاء عريضة إلكترونية وجمع توقيعات المُستخدمين اعتراضًا على تغيير الاسم لأنه يروق لهم. وبالفعل استجابت مايكروسوفت فورًا لمطالبهم وحافظت على الاسم، لتقوم فيما بعد بالتعاقد مع المُمثّلة خلف صوت "كورتانا" في اللعبة لتسجيل كل شيء، وهذا يُفسر اقتران شخصية زرقاء اللون بمساعد مايكروسوفت الرقمي.

 

كانت آمال الشركة عالية، فإطلاق مساعد رقمي يعتمد على مُحرك "بينغ" سيؤدي أولًا لزيادة الجاذبية إلى هواتفها ونظام تشغيلها للأجهزة الذكية. كما توقّعت الشركة أن يكون عاملًا في زيادة استخدام "بينغ" ومنحه فرصة أُخرى بعد رصد إمكانياته عبر المساعد الرقمي. وقامت مايكروسوفت بالفعل في تغيير تصميم واجهة محرك البحث لعرض بطاقات من المعلومات على غرار حالة الطقس، وأسعار العملات، وبعض التفضيلات الأُخرى، لكن هذا لم يكن كافيًا في ظل وجود غوغل.

 

لم تستسلم الشركة أبدًا للمشاكل التي واجهتها في ويندوز فون 8.1، فهي استمرّت في تطوير المساعد الرقمي وإمكانياته مع إضافة دعم للغات جديدة باستمرار، إذ يُمكن لـ "كورتانا" الآن التحدّث بالإنكليزية، والألمانية، والإيطالية، والإسبانية، والفرنسية، بالإضافة إلى الصينية، والبرتغالية، واليابانية، والروسية أيضًا(5). وهي تتفوق من هذه الناحية على مساعد غوغل الرقمي، "غوغل أسيستنت" (Google Assistant) و"بيكسبي" (Bixby) من سامسونغ. بعد البداية المُتعثّرة، قررت الشركة العودة إلى هوّيتها الرئيسية، وهي تطوير البرمجيات وأنظمة التشغيل، لتبدأ التركيز على تطوير ويندوز 10 مع إضافة "كورتانا" ضمن النواة الرئيسية ليكون المساعد الرقمي قادرًا على التكامل مع النظام بشكل كامل.

 

التكامل مع نظام تشغيل لوحده لا يكفي، ولهذا السبب كان قرار الشركة منذ البداية توفير واجهات برمجية تسمح لمُطوّري التطبيقات، وهي أولهم، بالاستفادة من المساعد الرقمي مُعلنةً عن دعم "كورتانا" لتطبيق "سكايب" (Skype)، وبالتالي يُمكن أثناء إجراء المحادثات الحصول على اقتراحات لطلب الطعام، أو طلب سيّارات الأُجرة، وهذه جزئية متوفّرة في نواة المساعد، أي على كافة المنصّات المُختلفة.

  

  

"كورتانا" تتوفر اليوم على أنظمة ويندوز 10 للحواسب والهواتف الذكية أيضًا، بالإضافة إلى متصفّح "إيدج" (Edge) ومنصّة "إكس بوكس ون" (Xbox One) وما بعدها أيضًا، وهذا من جهة مايكروسوفت ومنتجاتها. كما تتوفّر كذلك كتطبيق لنظامي أندرويد و"آي أو إس". ولم تكتفي الشركة بذلك، فهي تعاونت مع شركة "هارمان كاردون" (Harman Kardon) وقامت بتطوير مساعد منزلي على غرار  "غوغل هوم" (Google Home) و"إيكو" (Echo) من أمازون(6)، على أن تكون "كورتانا" العقل المُدبّر والصوت خلف جميع الحوارات الرقمية. وإضافة لجميع تلك الجهود، بدأت بدعم السِوارات الرقمية وهذا بعدما أعلنت شركة "فت بت" (FitBit) عن تطوير مهارات خاصّة بالمساعد الرقمي داخل نظام ويندوز(7).

  undefined

 

دعم المساعد الرقمي لأكثر من جهاز ونظام تشغيل يفتح باب التساؤلات حول آلية القيام بهذا الشيء، والإجابة بسيطة جدًا، وهي منصّة مايكروسوفت للتخزين السحابي "آجر" (Azure). لكن ما الذي يتم تخزينه بالتحديد؟ كل ما يسمح المستخدم به ويوافق عليه ولا شيء غير ذلك. أو بمعنى آخر، تلك المُفكرة الرقمية التي هي أساس المساعد، والتي يُمكن حذفها بمجرد نطق أوامر مثل "كورتانا، لا أريد معرفتك لكل تلك التفاصيل"، لتقوم بحذف كل شيء ومسح هوية المستخدم من خوادم الشركة، وهذا حسب اتفاقية وشروط الاستخدام.

 

على أرض الواقع، ما زالت "كورتانا" بعيدة نوعًا ما عن الذكاء الذي وصلت إليه مساعدات أُخرى، تلك التي تعمل على تطويرها غوغل وأمازون، رُبما لأنها لم تحظى بالانطلاقة القوية التي أعاقت خوارزميات التعلّم الذاتي، أو رُبمّا لأن وقتها لم يصل بالفعل، وهذا نظرًا لأن ذكائها مأخوذ عن شخصية تعيش في العام 2600 وما بعده. لكن وبعيدًا عن الربط غير العقلاني بين الأمور، فإن كورتانا كانت بحاجة للهواتف الذكية لدراسة عادات المستخدمين بصورة أوسع، وهو ما لم يتوفّر لها في البداية، ومن أجل ذلك وصلت لبقيّة أنظمة التشغيل مع نهاية 2015 تقريبًا.

 

الوقت كفيل جدًا بوضع "كورتانا" في مكانها الصحيح لو نجحت في تقديم ميّزات غير مسبوقة. لكنها بطبيعة الحال لن تكون قوّية إلا داخل نظام ويندوز بسبب الصلاحيات، أو في بعض توزيعات أندرويد كبديل عن مساعد غوغل. وهذا يعني أن الاعتماد على الحواسب فقط لن يفيدها في مقارعة الكبار، لكنه سيكون مفيدًا بالنسبة للمستخدم من ناحية تقديم المساعدة اليومية له على غرار الاقتراحات وما إلى ذلك. ليبقى مصيرها مُعلّقًا بين احتمالين، الأول أن تنمو وتكبر، والثاني -وهو المُرجّح- أن تكون مُجرّد ميّزة داخل نظام ويندوز لأن أنظمة التشغيل، في الوقت الراهن، من الضروري أن تحصل على مساعدات رقمية.

المصدر : الجزيرة