شعار قسم ميدان

ذبابة استخباراتية.. هكذا تستخدم أجهزة الأمن الحشرات للتجسس عليك!

midan - insect

أجهزة مراقبة لا يمكن أن تخطر على بالك، تمتلكها تلك الدول التي ترفع شعارات حرية التعبير، وتدفع من أجلها مبالغ طائلة لتطويرها كأجهزة تجسس قادرة على تنفيذ مهام يصعب تخيلها، فهي ليست بتلك الأجهزة التقليدية التي تزرع في حاسوبك، أو تلك المخبأة خلف ساعة الحائط، بل التي تزرع داخل بيئة الإنسان كأشكال يبدو وجودها مألوفا ولا يثير ريبة، إنها الحشرات الجاسوسية. 

   

مركبات آلية
لوكالة الدفاع والأبحاث العسكرية الأميركية، "داربا" (DARPA)، فضل كبير جدا في الثورة التقنية التي نعايشها اليوم بفضل تطويرها لشبكة الإنترنت التي أضحت جزءا أساسيا من حياة البشر. وهذا يدل على الجهود الكبيرة التي تبذلها المؤسّسات العسكرية لتطوير تقنيات تُساعدها في التفوّق على بقيّة الدول من جهة، وفرض نفسها كمنافس صعب من جهة أُخرى تهابه جميع الدول، ولعل فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي وأميركا كانت خير مثال على المبالغ الضخمة التي ضخّتها حكومات تلك الدول في سبيل التفوّق، وهذا بعدما تنافس الكيانان في مجال الفضاء وتطوير المركبات الفضائية لفترة طويلة من الزمن.

   

استمرّت جهود المؤسّسات العسكرية الأميركية في إيجاد أفضل التقنيات لحماية الجيش وتقديم يد العون له، وهذه المرّة عام 2007 تقريبا بعدما كشفت عن أول طائرة صغيرة بدون طيار على هيئة ذُبابة يُمكن التحكّم بها عن بُعد للوصول إلى أماكن لا يُمكن للجيش الوصول لها بسهولة دون تعريض حياتهم للخطر(1). استعرضت المؤسّسة العسكرية في ذلك الوقت ذبابة عرضها 3 سم فقط قادرة على الطيران والهبوط على أي جسم مع وجود نافذة صغيرة فيها لسحب عيّنة من الحمض النووي للشخص المُستهدف، أو على إجراء مسح بالأشعة فوق البنفسيجة له دون علمه. دون نسيان الكاميرات والمايكروفونات التي تسمح بنقل الصوت والصورة بشكل حيّ ومُباشر.

      

     

ولم تكن أميركا وحيدة في هذا المجال، فالمؤسّسة العسكرية في المملكة المُتحدة طوّرت نفس الآليات لاستخدامها في ساحات الحرب وضخّت من أجلها 800 مليون جنيه استرليني(2)، لتكون أسلحة قادرة على المناورة، ومُهاجمة الطائرات الصغيرة التي تُسيّرها الدول المُعادية، مع استخدامات أُخرى كالمُراقبة والتجسّس أيضا. أما المُختبرات الألمانية، فقد كشفت مع بداية 2018 عن دودة آلية، أو مادّة مطّاطيّة مُرتبطة بجزئيات مغناطيسية تسمح بمحاكاة حركة الدودة والسباحة، وهذا في تقليد إلكتروني لحركة قناديل البحر(3).

    

وبشكل عام، يُمكن النظر لتلك التقنيات وكأنها طائرات بدون طيّار، "درون" (Drone)، بأحجام وأشكال مُختلفة، تُحاكي شكل الذُباب وحركته لخداع العدو لا أكثر. لكن من يعتقد أن المؤسّسات العسكرية سوف تتفاخر على العلن بأحدث تقنياتها مثل الشركات التقنية فهو مُخطئ، فهذا التفاخر يعني أن تلك التقنيات أصبحت جزءا من الماضي وما خفي أعظم بكل تأكيد.

      

الزواحف الآلية
بنى "إيلون موسك" (Elon Musk) شركة "سبيس إكس" (SpaceX) لتطوير المركبات الفضائية القادرة على السفر من الأرض إلى الفضاء، بأقل التكاليف، وهذا من خلال إعادة استخدام أجزاء الصاروخ المسؤول عن الإطلاق وإيصال المركبة للفضاء، وحقّق قفزة كبيرة في هذا المجال.

     

    

حمل مجموعة من العُلماء والمُهندسين الفكر نفسه، أي الاستفادة مما هو موجود في الحياة الطبيعية وتطعيمه تقنيا لتنفيذ مهام مُختلفة يُمكن للبشرية الاستفادة منها، ليخرج عن ذلك ما يُعرف بالأحياء الآلية، "بايو بوت" (BioBot)، والتي يُمكن تعريفها بأنها كائنات حيّة مُسيّرة إلكترونيا، أي أن أدمغتها مُرتبطة بتقنيات وخوارزميات لتنفيذ مهام متنوعة.

   

أجرت جامعة "تيكساس" (Texas) أبحاثها في هذا المجال ونجحت في تطوير تقنيات يُمكن إضافتها للحشرات الزاحفة لتنفيذ مهام مُختلفة ومفيدة في الوقت نفسه بفضل قدرتها على الوصول لبعض الأماكن الضيّقة التي يصعب على فرق الإنقاذ الوصول لها. "هونغ ليانغ" (Hong Liang) باحثة في جامعة "تيكساس" وقع اختيارها على الصراصير القادمة من أميركا اللاتينية لكونها متوفّرة بكثرة وأجسادها قادرة على التعافي بسرعة، إضافة لكونها كبيرة الحجم وبطيئة الحركة، وهذا يجعلها مُناسبة لحمل حقيبة مزوّدة بتقنيات يُمكن الاستفادة منها في أكثر من مجال(4).

   

آلية تحويل الصرصار إلى آلي تبدأ من وصل العقد العصبية، التي تقوم بوصل أطرافه مع الأعصاب، بأقطاب كهربائية موصولة بحقيبة توضع على ظهره فيها دارة كهربائية، وبطارية صغيرة، إضافة إلى شريحة للاتصال اللاسلكي. أما التحكّم به فيتم عبر جهاز عن بُعد يقوم بإرسال أمر للدارة الكهربائية لتوجيه تيّار كهربائي لعقدة عصبية ما تقوم بتحريك أحد الأطراف، وبالتالي إخلال توازن الصرصار ودفعه للحركة باتجاه آخر. وهنا تجدر الإشارة إلى أن أطراف الحشرات تعمل بشكل مُتزامن، وإحداث خلل في أحدها سيؤدي حتما لتغيير الاتجاه.

      undefined

    

ومن هنا، فإن استخدامات الصرصار الآلي مُتعددة تبدأ من إطلاقه في حالات الطوارئ للوصول إلى المُصابين المدفونين تحت الأنقاض على سبيل المثال، وصولا إلى مخازن الأسلحة والمواد الممنوعة للتجسّس على الحوارات التي تجري وشن حملات مُداهمة بحق أصحابها، وفي أسوء الحالات، قد تكون وسيلة فعالة لمراقبة المواطنين والبقاء على اطلاع دائم.

      

العودة للطيران
لم يرغب الباحثون في جامعة ولاية "كارولاينا الشمالية" (North Carolina) بإثارة أعصاب الصراصير بشكل داخلي، بل فضّلوا الاستفادة من قرون الاستشعار الخاصّة بها لمنحها ردّة فعل طبيعية أكثر، وذلك من خلال إرسال إشارة كهربائية ضعيفة جدا لأحد القرون ليشعر الصرصار بوجود خطر أو حاجز ويقوم بتغيير اتجاهه بشكل آلي. ولم تقف محاولاتهم عند الحشرات الزاحفة فقط، بل حاولوا أيضا استخدامها في الحشرات الطائرة، إلا أن التغيّر المُفاجئ في الاتجاه سيؤدّي لاختلال توازنها وسقوطها(5).

    

وتبرز هنا جهود عُلماء من "سنغافورة" قاموا بالاعتماد على الخنافس في أبحاثهم نظرا لوجود عضلات أسفل أجنحتها مسؤولة عن تحريكها خلال الطيران. وباستخدام التيار الكهربائي مرة أُخرى، يُمكن دفع الخنافس على الطيران، الهبوط، أو حتى الاتجاه إلى اليمين أو اليسار أثناء الطيران دون القلق من اختلال توازنها لأنها ستحافظ عليه دون مشاكل(6).

    undefined

       

وانتهج مُهندسو مشروع "دارغون فلاي آي" (DragonflEye)، من شركة "درابر" (Draper)، سياسة باحثي جامعة "كارولاينا الشمالية"، وهذا بالابتعاد عن استخدام الكهرباء بشكل مُباشر في الحشرات الطائرة، وتحديدا اليعسوب التي تحتوي على خلايا عصبية مسؤولة عن التوجيه تعمل كوسيط بين الخلايا الحسّية والحركية، وبتنشيط خلايا التوجيه تلك باستخدام الضوء يُمكن دفع اليعسوب إلى الطيران وتغيير الاتجاه بالشكل الذي يرغبون به دون الحاجة للوصول للعقد العصبية الموجودة داخل أجسادها(7). لتُعلن الشركة في ما بعد تعاونها مع معهد "هاورد هوغس" (Howard Hughes) للأبحاث الطبيّة لتطوير نظام يقوم بتحريك حشرة اليعسوب من نقطة إلى أُخرى بشكل آلي، وهذا من خلال الاعتماد على الضوء فقط، لتتكفل الجملة العصبية الخاصّة بها بالبقية.

     

لماذا هندسة الأحياء؟
قضى عُلماء الأحياء وقتا طويلا في اكتشاف آلية عمل وتفكير الحشرات والكائنات المُختلفة بشكل عام، وهذا سهّل مهمّة المُهندسين الباحثين عن حلول منطقية بتكلفة أقل وبفاعلية أكبر، فبالنظر إلى وفرة الحشرات الزاحفة والطائرة، وبالاعتماد على الأبحاث الحيوية الموجودة التي تشرح آلية عمل أعضائها المُختلفة بالتفصيل، يُمكن تطوير كائن حي آلي جديد يُستفاد منه في وظائف مُختلفة منها الإنسانية، ومنها العسكرية، ومنها الحكومية أيضا، فمثل هذه التقنيات ستكون مطلوبة بشدّة من قبل مؤسّسات الدولة المُختلفة، إذ يُمكن استخدام نفس تلك الكائنات لاستشعار وجود المواد المُتفجّرة، أو لسحب عيّنات من الحمض النووي لأي مادة موجودة في الخارج.

    

في الصين، أعلنت السُلطات، قبل أيام قليلة، عن البدء في استخدام نظّارات ذكية مزوّدة بكاميرات للتعرّف على هوّية الأشخاص، وهي نظّارات سيرتديها رجال الشرطة في المطارات ومحطّات القطار بالتزامن مع الإقبال السياحي العالي على البلد بسبب الاحتفال برأس السنة الصينية. لكن هل هذه فعلا هي آخر التقنيات التي توصّلت لها المُختبرات على مستوى العالم؟

    

   

الواقع يقول لا، فالمؤسّسات الأميركية، وتحديدا العسكرية، بإمكانها تصنيف أي مشروع طموح على أنه سرّي تماما للاستفادة منه في مجالات مُختلفة لن تُفصح عنها أبدا. وهذا يعني أن الأبحاث التي تطفو على السطح الآن قد تكون جزءا بسيطا جدا من أبحاث أكبر تجري في المُختبرات لتكون جاهزة لجميع الاحتمالات، على الأقل، هذا ما ذكرته مُستندات "ويكي ليكس" (WikiLeaks) التي أظهرت مُمارسات مُختلفة للتجسّس، بعضها توقّفت الوكالات الأمنية عن استخدامه، وبعضها الآخر بقي مُستخدما حتى تسريب المُستندات، لتلجأ تلك الهيئات لمُمارسات أُخرى سيُكشف أمرها في تسريبات قادمة لا محالة(8).

المصدر : الجزيرة