شعار قسم ميدان

"عبد المأمور".. هل الاستبداد ابن الديكتاتور أم المجتمع؟

"عبد المأمور".. هل الاستبداد ابن الديكتاتور أم المجتمع؟

عندما يُطرح سؤال عن أسباب عودة الاستبداد خاصة في مجتمعاتنا بعد موجة الربيع العربي، تظهر التحليلات السياسية والتراشق الحزبي والتخوين المتبادل ونظريات المؤامرة، وخلال تلك الإجابات تكاد تنحصر الصورة الذهنية عن الاستبداد في شخص الديكتاتور الفرد الذي يبدو في رأس الهرم يُحكِم السيطرة على نظام متماسك يصعب انهياره أو تفكيكه، وتذهب كثير من تلك الإجابات أنه بسقوط الحاكم المستبد تسقط هذه المنظومة فجأة بسقوط رأسها.(1)
 

بيد أن في الخمس سنوات المنصرمة ظهر أن بنية الاستبداد سرعان ما أعادت تركيب نفسها وإخراج رؤوس جديدة لها بنفس الخطاب الذي كان قبل الربيع العربي وإن تغيرت بعض مفرداته، فخطاب "أنا أو الفوضى" الذي أطلقه الرئيس المخلوع مبارك هو نفسه الخطاب الذي برر قتل الأبرياء في الشوارع بدعوى "مواجهة العنف المحتمل ومحاربة الارهاب"، ففي كلا الحالتين فإن المستبد يعتمد على العنف والمذابح كي يحمي سلطته ويوطد أركان نظامه.(2)

لو كان باومان يتهم المجتمع الألماني وخاصة نخبه كلها بالتواطؤ مع السلطة على ارتكاب المذبحة، فربما ينطبق الأمر كذلك على المذابح التي حدثت في العالم العربي.
لو كان باومان يتهم المجتمع الألماني وخاصة نخبه كلها بالتواطؤ مع السلطة على ارتكاب المذبحة، فربما ينطبق الأمر كذلك على المذابح التي حدثت في العالم العربي.

هنا تتجه الأنظار نحو المجتمع والجماعات التي شاركت في صنع الحاكم المستبد وانتفعت من صعوده. لكن هل فعلا المجتمع والمؤسسات المحايدة التي هي عبارة عن أفراد يؤدون وظائفهم بحيادية تامة مسئولون عن الاستبداد، ولو كانوا مسئولين عن عودة الاستبداد حتى لو بشكل غير مباشر، فما موقعهم من المذابح التي أرتكبها النظام الحاكم في حق أبرياء ومعارضين لم يرتكبوا أي ذنب أو جريمة يستحقون عليها القتل والتعذيب والاعتقال، ثم فيما بعد وقوع المذبحة وتدهور الأوضاع يأتي السؤال: هل الشعوب مسئولة عن اختياراتها وواقعها الحالي ؟!.
 

تأتي هذه الاسئلة لتعيد لذاكرتنا حادثة "الهولوكوست" أو المحرقة النازية التي أرتكبها النظام النازي في حق الاعراق والاجناس المختلفة عن الجنس الآري بداية من اليهود والجرمان وحتى المعاقين والضعفاء، حيث أصبح الهولوكست نمطا سيتكرر فيما بعد في مناطق مختلفة من العالم، ومؤخرا في عالمنا العربي، وبرغم اختلاف السياق التاريخي والجغرافي والسياسي إلا أن هناك ملامح متشابهة لتلك المذابح يُمكن أن تدلنا على إجابات بخصوص الاسئلة السابقة.

من المسؤول عن الهولوكوست؟

undefined

 


لو أن المرء ليس مسؤولا إلا عن الأمور التي يعيها، لكانت الحماقات مبرأة سلفا عن كل إثم. لكن الإنسان ملزم بالمعرفة. الإنسان مسؤول عن جهله. الجهل خطيئة

ميلان كونديرا
 

على عكس الرواية التي كانت سائدة في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أن هتلر وحده ومعه الحزب النازي الألماني هم المسئولون بشكل كامل عن المحرقة النازية، طرح زيجمانت باومن عالم الاجتماع البولندي الأصل رواية مختلفة في كتابه "الحداثة والهولوكوست"، حيث شرح بومان خطأ الرواية السائدة عن مسئولية هتلر وحزبه وحده عن تلك الجرائم فيقول:
 

"إن المحرقة النازية التي راح ضحيتها ملايين البشر ليست من صنيع هتلر وحده، فلا يمكن لرجل واحد، مهما أوتي من ملكات أو مهما أصابه من جنون أن يرتكب كل هذه الجرائم التي تأنف منها مملكة الحيوان نفسها، ولا يمكن أن يتحمل هتلر وحده المسؤولية كاملة، حتى وإن أصدر أمرًا كتابيًّا أو شفهيًّا لجنود الجيش وأفراد الشرطة والقوات الخاصة وغيرها بتنفيذ جرائم القتل، فهذا الأمر غير كفيل بإراقة دماء ملايين البشر دون تأنيب للضمير أو حتى إثارة الرأفة الحيوانية. لا تعتقدوا أن المحرقة كان من الممكن أن تكتمل دون جماعة التنوير، وأهل العلم والثقافة، وأهل التشريع والتأويل، وأهل الصحافة والإعلام، والفلاسفة وهيئة كبار العلماء. لقد ظلمنا هتلر بما فيه الكفاية، ولا يمكننا بعد اليوم أن نلوم هتلر وحده على ما حدث وما يمكن أن يحدث، فإلى متى نبرئ ساحة المؤسسات الثقافية والعلمية والإعلامية والبيروقراطية التي ساندت هذا الرجل؟ وإلى متى نبرئ ساحة المثقفين الذين وجدوا في جرائم هذا الرجل رسالة ثقافية حضارية ومحاربة للظلامية؟ وإلى متى نبرئ ساحة رجال الدين الرسميين وغيرهم ممن أضفوا على هذه الجرائم صبغة شرعية؟ وإلى متى نبرئ ساحة الجامعات التي التزمت الصمت إزاء هذه الجرائم، بل وتعاون مثقفوها مع أجهزة الأمن في استبعاد مئات الآلاف من عالم الالتزام الأخلاقي؟ وإلى متى نبرئ ساحة أساتذة الفلسفة والأدب الذين أحيوا فلسفة "الكائن المستباح"، ذلك الكائن الذي كان الرومان يقتلونه بلا دية وبلا عقاب وبلا تأنيب للضمير لا لشيء سوى أنه – في نظرهم- يخالف السلطة الإلهية للدولة؟!".(3)
 

فلو كان باومان يتهم المجتمع الألماني وخاصة نخبه كلها بالتواطؤ مع السلطة على ارتكاب المذبحة، فربما ينطبق الأمر كذلك على المذابح التي حدثت في العالم العربي حيث تواطأت النخب والإعلام ورجال الدين الرسمين والمثقفين التابعين للسلطة وأساتذة الجامعات وغيرهم سواء بالفعل أو القول أو الصمت على جرائم القتل والتصفية التي ارتكبتها السلطة.(4)
 

لكن بعيدا عن المنتفعين ومن لهم مصالح خاصة مع الحاكم المستبد ونظامه، كيف يؤيد هؤلاء الناس كل تلك المذابح والجرائم التي لو كانت بحق حيوانات لكانت أثارت عندهم الرأفة؟ بل وكيف يشاركون فيها كأفراد بعيدا عن منصبهم الوظيفي سواء فرد شرطة أو جيش أو موظف حكومي وسواء كانت مشاركة فعلية في ارتكاب الجرائم أو الاشراف على ارتكابها أو مجرد تأييدها بالقول والفعل؟!
 

اللاإنسانية نتيجة التباعد الاجتماعي

أثبتت تجربة ميلجرام الاجتماعية أن الوحشية ترتبط ارتباط ضعيفا بالسمات الشخصية للجناة، وأنها ترتبط ارتباطا وثيقا بعلاقة السلطة والمرؤوسية، أي أن الوحشية جزء لا يتجزأ من بنية السلطة والطاعة المألوفة في حياتنا الشخصية، حيث يقول ميليجرام "فالشخص الذي يبغض السرقة والقتل والعنف من الممكن أن يجد نفسه يقوم بمثل هذه الاعمال بسهولة نسبية عندما يؤمر بذلك، فالسلوك الذي لا يرضاه الشخص الذي يتصرف بمحض إرادته من الممكن أن ينفذه بلا تردد من خلال الأوامر"(5).
 

ومن أغرب نتائج تجربة ميللجرام كان التناسب العكسي بين الاستعداد للتصرف بوحشية عند البشر وبين القرب من الضحية، حيث يعلق باومن" فمن الصعب أن نؤذي شخصا نلمسه، وأسهل من ذلك إلى حد ما أن نوقع الضرر بشخص نراه فقط عن بعد، وأسهل من هذا وذاك شخص نسمع صوته فقط، ومن الأسهل تماما أن نتصرف بوحشية مع شخص لا نراه ولا نسمعه".(6)
 

فعندما طُلب من المشاركين في تجربة ميلجرام أن يمسكوا بأيدي الضحايا ويضعوها عنوة على القطب الكهربائي الذي تمر به الصدمة، لبى الامر 30% فقط حتى نهاية التجربة، وعندما طُلب منهم استخدام لوحة التحكم، ارتفعت النسبة إلى أربعين في المائة، وعندما تم حجب الضحايا خلف الجدران بحيث لا يمكن سماع أي شيء سوى صرخاتهم، ارتفعت نسبة المشاركين إلى 62.5%.(7)
 

كذلك أستشف زيجمانت باومان أن أيه قوة أو ظرف يقف بين المشارك في التجربة والآثار المترتبة على إحداث الصدمات الكهربائية بالضحية سيخفف من توتر المشارك، ومن ثم يقلل عصيانه للأوامر، وهذا مشابه لما يحدث في المجتمعات الحالية، حيث يتم تقسيم العمل الإجرامي أو أي عمل إلى مراحل متباعدة ومتفرقة في التنظيم الهرمي للسلطة، وهذا ما ينتج عنه ما سماه باومن "المسئولية العائمة".
 

عبد المأمور أو المسؤولية الاجتماعية

undefined

كان نظام السلطة في تجربة ميلجرام بسيطا، ولم يتضمن مستويات معدودة، وكان مصدر سلطة المشاركين المرؤوسين في التجربة، هو صاحب التجربة نفسه وهو القائد الأعلى للنظام، ومن ثم كان التركيز في التجربة على استعداد المشارك في التجربة على التبرؤ من مسئوليته عن الأعمال التي قام بها أو سيقوم بها، فحين كان أحد المشاركين يسأل عن الضرر الذي ستوقعه الصدمات الكهربائية بالضحية كان يرد عليه المشرف على التجربة برد محايد وفاتر" لن يحدث أي ضرر مستديم لأنسجة المواد البشرية المستهدفة". ويعلق باومن أن هذا الرد الغامض جعل المشاركين في التجربة يتجنبوا طرح أي أسئلة أخرى، فهذه الإجابة تشير إلى وجود منطق غامض في التجربة، وأن الأشياء التي يطلبها صاحب التجربة هي أشياء صحيحة حتى وإن كانت تبدو خطأ لمن تنقصه الخبرة.(8)
 

من خطوات إزالة الرأفة عند الشعوب كما يرى باومان تجريد ضحايا العنف من الصفات الإنسانية، من خلال وضعهم في قوالب أيديولوجية جامدة أو توصيفهم بأنهم جماعات تخريبية إرهابية.

وهذا التحويل للأمر برمته لصاحب التجربة والمشرفين عليها من قبل المشاركين، هو ما جعلهم يستمروا في إلحاق الأذى بالضحايا، حيث تم هنا ما سماه باومن "إزاحة المسئولية ",فالمسئولية الأخلاقية هنا لم يتم مواجهاتها أو إنكارها بل تم إزاحتها نحو شخص أخر أعلى تراتبية حيث يقول باومن "المسؤولية العائمة هي صلب الأعمال غير الأخلاقية أو غير الشرعية التي تتم من خلال المشاركة المطيعة، بل والطوعية، لأناس يعجزون بطبيعتهم عن مخالفة القواعد الأخلاقية، فالمسؤولية العائمة تعني عملياً أن السلطة الأخلاقية في حد ذاتها قد جرى إسقاطها دون مواجهتها أو إنكارها صراحة"(9) أما في نظام أكثر تعقيدا أو نظام بيروقراطي أكبر، يتم هذا الامر تباعا حتى تصبح المسئولية عائمة وسائبة ولا أحد مسئول عن أي شيء، بل تنسب المسئولية لشيء عام وفضفاض مثل "مصلحة العلم " كما في تجربة ميللجرام أو "القانون" كما في أي نظام بيروقراطي أو"محاربة الإرهاب" كما في أي نظام مستبد.
 

لكن هل هذه المسئولية العائمة كافية لارتكاب مذابح جماعية بدون أي رحمة؟ لقد أثبت الهولوكوست أنها كافية، لكن لم تكن هذه المسئولية العائمة لتكون فعالة في المحرقة من دون دور الإعلام والنخب في المجتمع.
 

المجتمع وشيطنة الضحية

في البداية جاؤوا للاشتراكيين، ولم أفتح فمي

لأنني لم أكن اشتراكيًّا

ثم جاؤوا إلى النقابيين، ولم أفتح فمي

لأنني لم أكن نقابيًا

ثم جاؤوا إلى اليهود، فلم أفتح فمي

لأنني لم أكن يهوديًّا

ثم جاؤوا إليَّ، وساعتها لم يبق أحد ليفتح فمه من أجلي

– مارتن نيمولر
 

وجد يوليوس شترايشر -أستاذ الدعاية النازية المعادية لليهود- أن أخطر المهام التي تعكف عليها جريدته هي تحقيق التطابق بين الصورة المجردة النمطية عن "اليهودي بألف لام التعريف" والصورة المطبوعة في أذهان قرائه عن اليهود الذين يعرفونهم، صوة الجيران والأصدقاء والزملاء اليهود في العمل.(10)
 

وقد بين دينيس شوفلت في بحث قصير عن هذه الجريدة "أن أحد التحديات الرئيسية لمعاداة اليهود السياسية هو التغلب على صورة الجار اليهودي، هذا الرفيق الذي يعيش ويتنفس والذي تنفي وجوده تلك الصورة النمطية السلبية كيهودي أسطوري غريب الأطوار"(11).
 

فقد كان دور الإعلام والنخب في المجتمع الألماني مهم وأساسي في التمهيد للمحرقة، حيث عملت تلك النخب الثقافية والإعلام على بناء صورة متخيلة وتجريدية لشخصية تسمى "اليهودي" وهذا اليهودي هو كائن آخر دخيل على المجتمع وغريب الأطوار ومسبب للكوارث ومعيق للإنتاج، بل هو منبع كل الشرور، حيث نجح الإعلام والنخب في تجريد اليهودي من كل صفاته الإنسانية، واكتمل الأمر بعزل اليهود لسنوات داخل مستوطنات خاصة "الجيتو". حتى تختفي الصورة المألوفة لليهودي الجار والزميل وتسود الصورة النمطية الأخرى التي تريدها السلطة، وهكذا استسلم الشعب الألماني لتلك الصورة، ولم يكترثوا لإبادة هذا الكائن اليهودي منبع الشرور والمشاكل.(12)
 

ويذهب باومان إلى أن القضاء على جميع أشكال الرأفة عند الشعب" استلزم ثلاثة شروط: أولاً تفويض استخدام العنف في صورة أوامر رسمية عن جهات قانونية أو ربما دعوة الشعب إلى منح هذا التفويض. ثانيًّا، تنميط العمل من خلال توزيع الأدوار وإقرار الانضباط. ثالثًا، تجريد ضحايا العنف من الصفات الإنسانية، من خلال وضعهم في قوالب أيديولوجية جامدة أو توصيفهم بأنهم جماعات تخريبية إرهابية أو إلصاق بعض الصفات الشيطانية بالجماعة المستهدفة مثل العملاء أو المخربين أو الفوضويين في الخطاب السياسي أو الرجعيين والظلاميين في الخطاب الثقافي".(13)
 

ويعلق "حجاج أبو جبر" أن هذا الشرط الثالث لا يتحقق إلا بتواطؤ المجتمع كله بداية من الإعلام والنخب الثقافية وأساتذة الجامعات وحتى موظفي الدولة والأفراد العاديين. ففي هذه اللحظة يتمثل "شرف الموظف"، كما يقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، في تنفيذ أوامر السلطة العليا بكل إخلاص وإن كانت لا تتوافق وقناعاته العقلية، فهو ينكر مرجعية الضمير الإنساني أو يعلقها حتى ينتهي الظرف التاريخي بسلام، فيصير جنديًّا عسكريًّا في آلة عسكرية ضخمة.(14)
 

وبرغم تشابه تلك الشروط مع ما حدث وما يحدث في عالمنا العربي -حتى أن افلام وثائقية مثل "مذبحة في الحي الراقي" عرضت مشهد لشخص مقتول ودمه يسيل في الشارع وسيدة تشاهده من النافذة وتتهمه بالتمثيل وأنه يريد تخريب السيارات الواقفة !- يبقى السياق مختلف، لكن إلى أي مدى يقع هذا الاختلاف، وكيف يفسر علماء الاجتماع حالات عدم الاكتراث من الناس العادية في الشارع تجاه تلك الجرائم والمذابح، هل الشيطنة الإعلامية واختفاء المسئولية الاخلاقية أو التعود على إزاحتها كافي للتفسير؟

 

تشتت المسؤولية أو كيف يتجاهل المجتمع الجريمة
كل شخص يعلم أن هناك جريمة قتل واضحة، وهناك شهود كثر، فاستنتج بالتالي بما أن الجميع لم يتحرك فمن الصواب ألا يتحرك هو أيضا.
كل شخص يعلم أن هناك جريمة قتل واضحة، وهناك شهود كثر، فاستنتج بالتالي بما أن الجميع لم يتحرك فمن الصواب ألا يتحرك هو أيضا.

كانت حادثة مقتل "كيتي" هي التي فجرت ذلك السؤال عند علماء النفس والاجتماع، كان مقتل كيتي يوم 13 مارس 1964 وهي سيدة أمريكية تعمل مديرة لبار.
 

خلاصة الحادثة: أن "كيتي" وهي في طريق عودتها من العمل لمنزلها وعلى مسافة 30 متر من بيتها قام رجل بمهاجمتها والإعتداء عليها، ومع وقع الصراخ وطلب النجدة انتبه بعض الجيران (38 شاهد على الجريمة) للحدث، ومن خلف النوافذ راقب الشهود ما يحدث دون تقديم أي مساعدة، والغريب أنه بعد مهاجمة الضحية للمرة الأولى وفي ظل تجاهل المراقبين للحدث عاد نفس الشخص بعد 10 دقائق فقط! لمهاجمتها مرة أخرى واغتصابها!.وتم تسجيل أن أول اتصال بالنجدة كان بعد نهاية الهجوم الثاني بدقائق! (15)، وبعد موت "كيتي" ظهر السؤال: لماذا لم يتحرك شخص واحد من الـ 38 شخص لفعل أي شيء؟ وما السبب؟!
 

وللبحث عن السبب وتفسير الحدث قام الباحثان جون دارلي و بيبي لاتين بالبحث والكشف عن تلك الظاهرة, ونتج عن بحثهما ما بات يعرف بال( Bystander effect ) ثم تم اكتشاف ما سُمي فيما بعد ب Social proof أو الإثبات الاجتماعي(16)، حيث أن الوقت الذي يستغرقه شخص واحد في الملاحظة والاستجابة لأي حادثة مثل نشوب حريق أو جريمة قتل أقل بكثير وأعلى في معدل الاستجابة مما سيستغرقه مجموعة أشخاص من وقت واستجابة تجاه نفس الحادثة، حيث في الحالة الثانية سيهتم كل شخص بمراقبة رد فعل واستجابة البقية وسينتظر بل سيتوقع استجابتهم فسيقل اهتمامه بالحدث كله .(17)
 

هذا الفرق في سرعة الإستجابة أو سرعة المبادة راجع "لتأثير المجموع، وهذا ما فسر سلوك المراقبين، في حادثة القتل المذكورة، حيث تباينت أنماط التفكير عند الشهود بين ما يلي:

-كل شخص يعلم أن هناك حادثة قتل وهناك شهود كثرين عليها، واستنتج بالتالي أن هناك بالتأكيد من قام بما يلزم وقدم المساعدة، إذا فلا داعي لعمل شيء.

-كل شخص يعلم أن هناك جريمة قتل واضحة، وهناك شهود كثر، فاستنتج بالتالي بما أن الجميع لم يتحرك فمن الصواب ألا يتحرك هو أيضا.

ويمكن الالتفات إلى أن الأصل الجامع بين تلك الاستجابات هو "التصويب المطلق للجماعة" وهو ما يعبر عنه بالمصطلح Social proof.(18)
 

وعليه فقد ذهب الباحثون إلى وجود علاقة عكسية بين عدد الأشخاص المعنيين بالحدث الواضح وبين المبادرة الفردية تجاهه، فكلما زاد عدد المراقبين كلما قل المبادرين والمتحركين لفعل شيء، بل كثرة العدد تضعف الشعور بالمسئولية تجاه الحدث، وكأن المراقبين يتقاسمون فيما بينهم الشعور بالمسئولية، فيما سماه الباحثون Diffusion of responsibility أو تشتت المسئولية(19). فكيف يكون الحال إذا اجتمعت المسئولية العائمة التي تحدث عنها باومن مع تحريض إعلامي يشيطن الضحية بجنب تفشي عدم الاكتراث وتشتت المسئولية في المجتمع إلى مذبحة أخرى تُضاف لسجل المذابح الدموية في التاريخ البشري.
 
 

هل الشعوب مسؤولة عن واقعها؟ 

بيد أن خوفهم ذلك وعدم إدراكهم لقيمة الحرية لا يعفيهم من المسئولية، فالجهل خطيئة والضعف كذلك خطيئة
بيد أن خوفهم ذلك وعدم إدراكهم لقيمة الحرية لا يعفيهم من المسئولية، فالجهل خطيئة والضعف كذلك خطيئة
 


"التاريخ قاض عادل إلى حد بعيد، ولا توجد هزائم غير مستحقة. فالناس يغادرون مسرح التاريخ مع المصير الذي يستحقونه".(20) هذا ما يقوله المفكر علي عزت بيجوفتش بعدما خاض تجربة نضالية مريرة . ففي نظر بيجوفيتش " لا توجد خسارة لا يكون الشعب الخاسر مسؤولا عنها! ولا يوجد في مزبلة التاريخ أبرياء. لأنك عندما تكون ضعيفا فهذه خطيئة من وجهة نظر التاريخ، وأن تكونً ضعيفا في التاريخ هو عمل لا أخلاقي."(21)

فالشعوب عند بيجوفيتش مسئولة عن مصيرها ومسئولة عن ضياع حريتها وفشل مسار نهضتها، حيث يضيف "الضعفاء هم الذين يؤيدون ويدعون إلى السلطة الاستبدادية. إنهم يفتقدون شعور الاعتداد بالنفس الذي تنبثق منه الرغبة في الحرية والاستقلال. الإنسان الضعيف يهرب من الحرية والمسئولية، والسلطة الاستبدادية تمثل له ملاذا من هذا العبء الذي يمكن للمرء أن يحيا مستريحا بدونه".
 

ويقول تشيسلاف ميلوش في أحد التحليلات النفسية في روايته "الاستيلاء على السلطة" إن الإنسان عندما يُسلم إلى قوة قاهرة فإنه يصل إلى درجة الإعجاب بما يكره. وهو لا يريد أن يعترف بهذا أمام نفسه، فليس هناك طريقة أخرى للخلاص سوى أن تكون أقرب إلى مركز هذه القوة "(22) ويعلق بيجوفيتش: أن ميلوش يحاول أن يكشف في تحليله عن العوامل الشخصية التي تجعل الناس متوافقين مع الاستبداد، وهو نفس الأمر الذي يفعله الناس اليوم أمام السلطات الديكتاتورية القاهرة، وهو نفس ما فعله بوينستون بطل رواية 1984 حين أحب الأخ الأكبر. وهذا ما سيُعرف فيما بعد ب"متلازمة ستوكهولم".
 

ويوضح إريك فروم في كتابه "الهروب من الحرية"(23) "أن الديكتاتورية والاستبداد وحالة غياب الحرية عموما ليس لها أساس في المؤسسات الاجتماعية والسياسية فحسب، ولكنها في الإنسان ذاته أيضا، وقد بيًن أن الحرية ليست شيئا مفهوما بذاته أو يُدرك بسهولة على أنه ذو قيمة وأهمية، بل يحتاج الناس إلى من يأخذ بأيديهم أو يدعوهم إلى الحرية باعتبارها عقيدة حقيقية، فالحرية عند بعض الناس حمل زائد، ولذلك يهربون من الحرية ".
 

بيد أن خوفهم ذلك وعدم إدراكهم لقيمة الحرية لا يعفيهم من المسئولية، فالجهل خطيئة والضعف كذلك خطيئة. أما الروائية النمساوية ماري إبنر إيشنباخ فتقول " إن أعدى أعداء الحرية، إلى جانب الطغاة ورجال السلطة، هم العبيد السعداء ".ويعلق دانكو بليفك على هذه الفكرة قائلا" إنهم هؤلاء الناس البسطاء التافهون الذي يؤججون محرقة السلطة قصيرة النظر بأن يلقوا فيها أغصان إيمانهم الاعمى بتفاهات السلطة ".(24)
 

فهل يمكن أن يصلح الناس واقعهم بأنفسهم؟ يجيب بيجوفيتش عبر سيرته الذاتية وعبر أفكاره وتأملاته التي بثها في كتاب "هروبي إلى الحرية" أن الناس تحتاج إلى خلاص أخلاقي فردي، وإلى خلاص اجتماعي مشترك عن طريق طلب الحرية ورفض الاستبداد. فالحرية عند بيجوفيتش هي ملاذ الإنسان وهي عين التسليم لله.

المصدر : الجزيرة