شعار قسم ميدان

جواري أميركا.. رعب في زمن الحُكم العرفي

midan - the handmaid's tale
مقدمة المترجم
توفر المادة التالية إطلالة على الأدب النسوي الأميركي، من خلال رواية الكاتبة الأميركية مارغريت أتوود "حكاية الجارية" (The Handmaid’s Tale). والعمل التلفزي المقتبس عن الرواية تحت الاسم نفسه لشبكة "هولو" (HULU). حيث تصور عالما تحتفظ فيه امرأة من كل مائة بخصوبتهِا وقدرتها على الإنجاب، ما يحول أميركا من بلد ديمقراطي إلى نظام حكم عرفي تستعبدُ فيه نساءٌ تحتَ إمرةِ الرجال نساءً أخريات.

 

نص المقال
أسمِهِ حظا، أسمِهِ قدرا، أسمِهِ أسخف أوسع حملة تسويق في العالم، لكن أول تجسيد تلفزي لرواية "حكاية الخادمة" يعرض لأول مرة الأربعاء لجماهير هي جدُّ جاهزة لمتابعته. تمر الآن عدة أشهر على ظهور العمل الأدبي الصادر عام 1985 لمؤلفته مارغريت أتوود على لوائح الانتظار في المكتبات وفي قائمة أفضل 20 كتابا على موقع أمازون -ويرجع هذا في جزء منه إلى المشهد الجديد الغريب الذي طفى على السطح بعد التاسع من (نوفمبر/تشرين الثاني)، يوم تدفقت ملايين النساء إلى الشوارع للتأكيد على التمسك بحرية الإنجاب. (عندما أعلن عن موعد بث حكاية الجارية في (ديسمبر/كانون الأول)، تندَّرَ الناس مِن أنَّهُ سيكون وثائقيا بحلول وقت عرضه).
 

 
من الممكن الشعور بالطريقة التي تتجاوز فيها الحالة الدينية في الرواية -والتي تصور أميركا وقد قام فيها أصوليون مسيحيون بتنفيذ انقلاب في ضوء تدهور نسب الإنجاب، مرغمين النساء ذوات الخصوبة على حمل أطفال لرجال ذوي نفوذ وزوجاتهم- مضمار الأدب لتكون كناية عن قمع النساء. فقد حملت بعض المُشارِكات في مسيرة النساء التي جرت بولاية واشنطن في (يناير/كانون الثاني) عددا من اللافتات مفادها "اقرأوا أدب مارغريت أتوود مرة أخرى". وفي (مارس/آذار)، تهندمت بعض النساء في ولاية تكساس كخادمات للاحتجاج على قوانين تقوض حقوق الإجهاض في الولاية.

 

ومع أن الرواية كثيرا ما تُفَسَّر على أنها تحذير بائس من المستقبل، إلا أن جذورها تقع في الواقع التاريخي. فعندما ألفتها أتوود في برلين في 1984، كانت عازمة على أن لا تورد فيها شيئا لم يحدث للنساء بالفعل في أي مكان على الأرض. وقالت بأن "حكاية الجارية ليست مؤلَّفا خياليا. إذ إنه مبني على حقيقة تاريخية. وأسمي الرواية مزجا للحقيقة، حيث تُجتَزأ عدة حقائق لتشكيل خليط متماسك". للرواية جذورها التي تعود إلى بيورريتانيّي القرن السابع عشر الذين استقروا في أميركا، وإلى أفغانستان المعاصرة، وإلى العهد الروماني عام 770 للميلاد، وقد تعاملت مع قضية انخفاض معدلات الإنجاب في الستينيات إثر سن قوانين منع الحمل والإجهاض. وشعور العديد من النساء بالتوق العارم للرواية اليوم إنما يبرهن على الوعي الحاد بأن نزعة مراقبة سلوك النساء وأنظمة الإنجاب قديمة قدم التاريخ نفسه.

 

في ضوء هذه الدعاية المتقدمة للرواية، قد تفضل العديد من المسلسلات المبتدئة الانسحاب، مقرة بعدم إمكانية استيفاء التوقعات المرتفعة. لكن مسلسل حكاية الجارية قد تمكن بطريقة ما من تجاوز تلك التوقعات. هو عمل تلفزي بارع، منحته اللوحة البصرية المتميزة سطوة الكتاب ذاتها.

 

استحضر صانع المسلسل، بروس ميلر، رفقة المصور السينمائي ريد مورانو (الذي أخرج أول ثلاث حلقات منه)، عالَماً تتأصل جمالياته وحدوده وتتحدد بالأنوثة. قد يكون إجحافاً إدراجه تحت فئة "الرعب النسوي"، لكن ليس ثمة من فئة أخرى قد تناسبه تماما. إنه عالمٌ نساؤه أقسى طُغاتِه، تختار كل واحدة منهن إذلال نساء أخريات للحفاظ على مظهر من مظاهر السلطة الشخصية. والطريقة التي يغوص فيها المسلسل في هذه الديناميكية بتوسعته عالم الكتاب يكشف عن الأحاسيس التي يولدها التلفاز البصري عندما ينسل إلى تجارب النساء.
  

يتم تجنيد النساء ذوات الخصوبة ليصبحن
يتم تجنيد النساء ذوات الخصوبة ليصبحن "جاريات" تتلخص مهمتهنّ بحمل بأطفال لرجال سلطة أثرياء وزوجاتهم

 
إحدى أشد الأمور تألقا في المسلسل، والتي يشترك فيها مع الكتاب، هي أن حلقاته الأولى تُختَبَر كليا من منظور شخصيته المركزية، أوفريد (والتي تلعب دورها ببراعة بطلة مسلسل "رجال مجانين" الممثلة إليزابيث موس). تُجَتزَّأُ المعلومات إلى قطع متناثرة، مؤدية لإحساس عارم ومحير بوجود خلط ما، يتبعه رعب شالّ إثر استيعابنا واقع أوفريد الُمعاش. يذكّرنا بلاغ الصفحة الأولى للرواية،حيث تصف أوفريد نومها مع أعداد من النساء الأخريات في صالة رياضية، بالمدرسة الثانوية وحفلاتها وتوقعاتنا.

 

تستلقي النساء في الصالة على أسرة الجيش النقّالة، يحرسهن "العمّات" (وهن نساء تتدلى من أحزمتهنّ عِصيُّ رعي الأغنام)، في معزل عن الرجال، الذين يتعذر الثقة في عدم تقديمهم يد العون حال مقايضتها بعلاقة جنسية. وتنكشف أطروحة الكتاب شيئا فشيئا؛ لقد أبدلت أزمة خصوبة أشعل فتيلها التدهور البيئي ومرض مقاوم للمضادات الحيوية الديمقراطية الأميركية بنظام قمعي ثيوقراطي يسمى الآن بجمهورية جلعاد. أرسلت النساء المطلقات، والنساء المثليات، والمتقدمات في السن لتنظيف "المستعمرات" -وهي أراض جرداء نووية تجلب الموت البطيء والموجع والمحقق. بينما يتم تجنيد النساء ذوات الخصوبة ليصبحن "جاريات" تتلخص مهمتهنّ بحمل بأطفال لرجال سلطة أثرياء وزوجاتهم.

  

يُستمد هذا الترتيب من سفر التكوين الإصحاح الـ30، الذي جاء فيه:

"فلما رأت راحيل أنها لم تلد ليعقوب غارت راحيل من أختها وقالت ليعقوب هب لي بنين وإلا فأنا أموت فحمي (غضب) يعقوب على راحيل وقال العلي مكان الله الذي منع عنك ثمرة البطن فقالت هي ذا جاريتي بلهة ادخل عليها فتلد على ركبتي وأُرزق أنا أيضًا منها بنين فأعطته بلهة جاريتها زوجة فدخل عليها يعقوب فحبلت بلهة وولدت ليعقوب ابنا".

  

نُشرت حكاية الخادمة عام 1985، عندما صعد اليمين المسيحي الجديد ومنظمةُ الأغلبية الأخلاقية عقب إعادة انتخاب رونالد ريغان رئيسا للولايات المتحدة. في السنة ذاتها، نشرت ماري برايد كتاب "الطريق إلى البيت: ما بعد النسوية رجوعا إلى الواقع". وقد أوردت برايد، وهي مسيحية إنجيلية محافظة وزعيمة "حركة كويفر فول" المتنامية، في كتابها كيف منحها تبني نمط حياة إنجيلي بطريركي السعادة والكمال.

  

الكاتبة الأميركية مارغريت أتوود تقوم بالتوقيع على نسخ من كتابها "حكاية الجارية"

 

فكتبت "إن حمل الأطفال يلخص كل وظائفنا الداخلية والبيولوجية الخاصة. لقد شاء الرب للنساء أن ينفِقن أعمارهُن في خدمة أناس آخرين.. إننا مسؤولاتٌ عن إبقاء المجتمع حيا وإنسانيا. وإنما لأجل هذا ننالُ التقدير والاحترام". يمكن تلخيص أخلاقيات كتاب برايد في أشد اقتباساته فظاظة، في تقريعهِ موجة النسوية الثانية، وبلغته الخاصة: "جسدي ليس ملكا لي وحدي".

 

جلعاد، إذن، هو مجتمع مبني على خطاب اليمين المسيحي نال ما أراده تماما، بفضل أزمة أتاحت للأصوليين تعيين انحدار الخصوبة طاعونا إثر غضب الله. تُغتصب أوفريد مرة شهريا من قبل القائد فريد ووترفورد (اسم "أوفريد" ترميز لكونها تخص أحدهم فهي حرفيا بهذا المعنى "خاصّة السيد فريد")، بينما هي مستلقية في حجر سيرينا جوي، زوجة فريد، وهي مبشرة سابقة كانت تظهر في برامج التلفاز. الجاريات، كما تقول أوفريد، هُن "أرحام بساقين، ولا شيء آخر: أوعية مقدسة، كؤوس دوارة. نساء أُعدن إلى أشد قدراتهنّ التطورية أساسية ليتم تجنيدهُن في الرق الجنسي.

 

الأطروحة، في ظاهرها، معقولة ومثيرة بما يكفي لئلا تنفدَ طبعات الرواية على الإطلاق، التي سرعان ما أعلنت كإحدى كلاسيكيات القرن العشرين. لكن عظمة الكتاب كانت عاملا في إحجام العديد من مخرجي هوليوود عن تصويره بعد أكثر من 27 عاما على صدور فيلم الرواية. في أواخر الثمانينيات، ألف الكاتب المسرحي هارولد بينتر سيناريو فيلم مقتبس عن الرواية أبدت القليل من الممثلات رغبة في الظهور فيه، والقليل من الاستديوهات رغبةً في إنتاجه.

 

في النهاية، وافق صانع الأفلام الألماني فولكر شلوندورف، ولعبت فيه الممثلة البريطانية ناتاشا ريتشاردسون دور أوفريد. سجل الفيلم إخفاقا، من النوع الجميل. قالت أتوود، إن بينتر، كتب النص بدمج المونولوج الداخلي لأوفريد، وصوَّره شلوندورف وريتشاردسون بتلك الطريقة. لكن شلوندورف كتم التسجيل الصوتي الذي سجلته الممثلة ريتشاردسون كَمونولوج داخلي أثناء عملية التعديل، ما جعل أداءها يبدو مسطحا، ودوافع شخصيتها تبدو مبهمة. فقد سلبت أوفريد صوتها.

 
كان بروس ميلر، صانع نسخة هولو من حكاية الخادمة، ملما بالقدح الذي قد يطاله من البعض لاقتباسِه عن كتاب يتناول الشرع الكنسي بهذه الطريقة. بعدما كان إنتاج المسلسل منوطا بشركة أخرى انتهى به المطاف إلى هولو، تمت مفاتحة ميلر كمخرج محتمل للمسلسل. وأفاد "لقد توافرت على عيبُ أنني لا أزال يافعا، وأفضلية أن لدي الحماسة اللازمة".

 

لقد كان قارئا شرها للكتاب منذ سنيِّ الجامعة، وتقدمه لطلب الاقتباس التلفزي كان بهدف ربطِه بعالم الرواية. حفلت سيرته الذاتية بالعديد من المسلسلات الخيالية مثل" ألفيس، ذي 100″، ومسلسلات استلهمت من مواقع أميركية مثل كولورادو وألاسكا وهي "إيفروود، من إن تريز"، ومسلسلات تدور حول شخصيات أنثوية مميزة مثل "ميديوم، إن بلاين سايت".

ويضيف "لعل أشد ما يحبط قراء الرواية هو عدم معرفة ما يجري عند النهاية. لذا وبعدد من الطرق قد تشاهد المسلسل بدافع الفضول وحسب". يكمن ثراء المسلسل في تجاور لغته المقنعة المسهبة، مع مرئياته البصرية الوارفة. قابل ميلر والمنتج التنفيذي عددا من المخرجين، لكن أكثر من راقهم كانت ريد مورانو، وهي مصورة سينمائي عملت على ألبوم بيونسي "ليموناد" ومسلسل قناة "إتش بي أو" "فينلي". على الرغم من أن سيرتها في إخراج الأفلام كانت ضئيلة، إلا أنها اختصرتها في ألبوم صوري يتألف من 60 صفحة للمسلسل، ملتقطة النبرة التي أرادها ميلر والحالة العاطفية التي طمح إليها.

 

تمت توسعة مشاهد جلعاد، التي يختبرها الممثلون بأثر رجعي، في الرواية، وأعدت بوضوح في أميركا المعاصرة، حيث الهواتف الذكية، وسيارات الأجرة أوبر، والملابس المريحة. وكل هذا يجعل التضاد مع جلعاد الرواية أشد إدهاشا. جماليات المسلسل مزيج من الكوبريكِية (نسبة إلى المخرج كوبريك) والفيرميريّة (نسبة إلى الرسام فيرمير)، بالإضافة إلى لقطات شاملة لبيئة أوفريد، والمشاهد المرتبة بإتقان كَصُوَر تماثل اللوحات في دقتها وتفصيلها، بالأخص فيما يتعلق بالإنارة (فعلى ما يبدو أنه قد تم طلاء بعض الجدران أربع مرات حتى يتحقق التباين اللوني الملائم لأزياءِ الممثلة ذات الألوان المكوَّدة).

 

وجاءت هذه الدقة البصرية إثر قراءة جلعاد كمكان صناعي وجامد. يقول ميلر "عالَم جلعاد هو عالَم كهني. إنّه مفتعل. لقد جعل الناس ذلك العالم على الطريقة التي هو عليها، بل كما يبدو من فهم أحدهم لمكان العيش المثالي لذا فأول ما يقع عليه ناظريك هو أن ذلك العالم قد خُلِق بمقاصد أولئك الذين صنعوه". ويؤثر هذا في كل شيء من قرارات لوحة الألوان (حيث ترتدي زوجات القادة الأخضر في المسلسل، بينما ارتدين الأزرق في الرواية) إلى المُكمِّلات: السيارات، على سبيل المثال مهجّنة، لأن أحد المبادئ الأساسية في جلعاد هو تقليل التلوث بالعودة إلى طرق أبسط للعيش.
  

المشهد الذي يتم فيه الاعتداء على شخصية جانين من قبل العمات وجاريات أخريات لتعرُّضها للاغتصاب الجماعي، مثال على عار الفاسقة الذي كتبت عنه أتوود في 1984 قبل ابتكار المصطلح حتى
المشهد الذي يتم فيه الاعتداء على شخصية جانين من قبل العمات وجاريات أخريات لتعرُّضها للاغتصاب الجماعي، مثال على عار الفاسقة الذي كتبت عنه أتوود في 1984 قبل ابتكار المصطلح حتى
 

يعيد الاقتباس التلفزي للرواية الدور الهام لمُونولوج أوفريد الداخلي. تلعب موس دور أوفريد بحضور فاتن وثابت؛ فقد ارتطمت الكاميرا بجبينها عدة مرات عند تصوير اللقطات القريبة إلى وجهها. قالت موس أنها استندت في أدائها إلى الرواية. مفيدة أن "الكتاب بحد ذاته هو كل ما تحتاجه، كل ما تريده هناك. لكَأن أحدهم كتب مقالة ضخمة حول الشخصية التي تؤديها، ونطق بما تفكر به في كل لحظة، وما تحس به. في كل مرة أدينا فيها مشهدا من الكتاب، أي في 95% من المرات، كان في وسعي الرجوع إليه لإلقاء نظرة".

 

وبرغم أن صوت أوفريد يحدد الطرق التي يختبر المشاهدون من خلالها الحلقات الأولى من حكاية الجارية، إلا أن المسلسل أيضا يولي اهتماما مُراعيا بالعامل المضاد الرئيسي. كتاب أتوود مليء بالثنائيات: المتضادات، والمتوازيات، والكلمات ذات المعاني المتعددة. تعني "أوفريد" ملكية فريد وهو سيد المنزل، لكنها توحي أيضا بمعنى العطية، أو الهدية، أو الأضحية. توحي أحداث "التخليص" التي تحضرها الجاريات،ويتم فيها دفعهُن من قبل العمات ضرب سجناء حتى الموت، بحفظ الأرواح، لكنها تنم أيضا عن وحشية حيوانية. تجول الجواري في أي مكان على شكل أزواج، تغطي وجوههن قبعات كبيرة الحجم، ما يمنحهنُّ إطلالة التوائم. القوة المضادة لـ أوفرِيد في منزل القائد ووترفورد، في الوقت الحالي، هي سيرينا جوي (تلعب دورها يافوني ستروفسكي)، بالرغم من أنهما متحدتان في مهمة تأمين سليل لعائلة ووترفورد.  

 

ولعل سيرينا جوي هي الشخصية الثابتة التالية بعد أوفريد في الرواية. وهي مغنية بارزة وناشطة مسيحية، ألغاها تحقق الرسالة التي طالما بشرت بها. تتذكر أوفريد، من التلفاز، كيف "تمحورت خطبها حول قداسة البيت، وأهمية أن تقرَّ النساء في بيوتهن". لعل سيرينا جوي لم تفعل هذا بنفسها، واكتفت بإلقاء الخطب وحسب، إلا أنها صورت إخفاقها وجلوسها في البيت كتضحية تقدمها من أجل الجميع".

 

في الرواية، نستشف بأن سيرينا عبرت سن الحمل، وفي فيلم 1990 تلعب دورها بتألق الفنانة فاي داناواي، التي تفيض أسى ويأسا. ولعل أكبر نقلة في مسلسل شبكة هولو هو أن سيرينا أصغر سنا، وأقرب إلى عمر أوفريد، وأشد توترا من ناحيتها، بالنتيجة. بحسب المخرج فإن الأمر "دبب حواف الديناميكية بينهما. وأضاف عنصرا للتنافسية والحدية في كل مرة تجمعهما بها الكاميرا سويا".

 

كما هو الحال في الكتاب، فإن أشد الأوغاد تميزا في حكاية الجارية هن نساء: غموض سيرينا ستروفسكي، وشرُّ آن دود في العمة ليديا. حيث ترتدي العمات جميعا اللون البني متربصات بالفتيات في الصالة الرياضية بأعين الصقور. نجد في العمة ليديا سادية وحماسة المؤمن الحق، في تشابه مع تنظيم أخوات المجدلية و أعضاء سبيكتر السوفيتي. ينبثق إيمانها الوهاج بجلعاد فقط عن قدرتها على إلحاق الأذى الجسدي بالفتيات في عهدتها. لكن، كما قال ميلر، اتفق هو و دود على أن يعتمد أدائها الشخصية على إحساس أنها تقوم بالأمر الصائب. فيقول "إنها ملزَمةٌ بنداء الواجب، بوظيفة ينبغي عليها تأديتها بحيث تكون مؤمنة بها بحق. لكنها تمنحها، في الوقت نفسه، دافعا يمكن أن يصدر عنا جميعا لكي تبدو أشد شرانية وحسب. فكيف تنتقل من الحالة الأولى إلى الثانية؟".
  

تجول الجواري في أي مكان على شكل أزواج، تغطي وجوههن قبعات كبيرة الحجم، ما يمنحهنُّ إطلالة التوائم
تجول الجواري في أي مكان على شكل أزواج، تغطي وجوههن قبعات كبيرة الحجم، ما يمنحهنُّ إطلالة التوائم

 
إن تواطؤ العديد من النساء الثريات مع الاستبداد في جلعاد هو جانب آخر للمسلسل يشحذ أهميته الموضوعاتية، بالأخص بعد انتخابات صوتت فيها غالبية النساء البيض ضد مرشحة أنثى. لكن إظهار النساء على أنهن متواطئاتٌ في القمع في الرواية، كما أشارت مؤلفتها، كان مجرد طريقة أخرى لإعادة مزج التاريخ. وتضيف الكاتبة "إنها الأدوار التي لطالما لعبتها النساء". إن كان أحدهم سوف يبني جلعاد فإنه سيضع في أساساتها، كما قالت، نساء في المراقبة، مانحا إياهنُّ سلطة محدودة على نساء أخريات و"ثمة دائما من سيقبلن ذلك".

 

التصعيد في العلاقة بين أوفريد وسيرينا في النسخة التلفزية من الرواية يجعلها أشد علاقات المسلسل جاذبية. يتحول استياء سيرينا من استضافة امرأة أصغر عمرا في المنزل إلى كراهية مرضية لمتطفلةٍ جنسيا تمثل لسيرينا تذكيرا مستمرا بعيوبها كامرأة. إلا أن غرائزها الأمومية المحبَطة تؤدي بها إلى معاملة أوفرِيد بنوع من الرعاية الطفلية، مخبرة إياها أن تنهي تناول وجبة غدائها لكي تنضم إلى "نادي الأطباق النظيفة"، وتثني عليها عندما تكون "فتاة جيدة"، وتمنحها الحلويات كمكافأة.

 

تتقلب أوفريد، بدورها، بين نفور من المرأة التي تحبسها في غرفتها، وتعاطف متردد معها. في أثناء تصويرها أحد مشاهد الحلقة الثانية قالت موس " كان لدي هذا الإحساس العميق، كما أوفريد، بالعطف على سيرينا، برؤية الألم الذي كانت تعانيه، ففي أي عالم آخر كان يمكن أن تكونا صديقتين. وكان أهم شيء بالنسبة إلينا في أثناء التصوير اكتشاف كيف يمكن أن تكونا وجهان مختلفان لعملة واحدة. يكون في وسعها مساعدة أوفريد، لكنها لن تفعل ذلك… أعتقد أن أوفريد تريد التصديق بأن سيرينا سوف تتعاطف معها، لكنك كلما شاهدت المزيد من حلقات المسلسل كلما أيقنت تعذر إمكانية كهذه". .

 

أداء ستروفسكي حاد وغير متوقع كما هو أداء البطلة موس. تتمكن الممثلتان سوية من ديناميكيات الجندر في كتاب أتوود. ويستذكر ميلر تفسير ستروفسكي، عندما قبلت أداء الدور، بأنه قد عرض عليها أداء دور المرأة القوية قبلا، لكن "ليس امرأة بهذه القوة". سلطة سيرينا الضارية ضمن بيتها تتماشى وحسب مع حقيقة أنها لا تملك أي سلطة على الإطلاق -وهي حقيقة يُكشَف عنها بالتفصيل عندما تنبسط خلفيتها الدرامية لاحقا في هذا الموسم.

 

تسلط العلاقة بين سيرينا وأوفريد الضوء أيضا على مسألة كيفية ارتباط هذه الحكاية بالنسوية اليوم، بأسئلتها عن التقاطعية والنسوية. سألت أتوود "أي عالم هذا الذي لم توجد فيه يوما تقسيمات طبقية ضمن النساء؟ لطالما كانت موجودة وضمن كل مجتمع عرفنا أي شيء عنه. لذا إن كان لديك منصب رفيع كهذا، لماذا قد تخاطر به؟".
  

يظهر كتاب
يظهر كتاب "حكاية الجارية" بطريقة أفضل كمجاز عِوَضَ أن يكون واقعيا. إذ يتم تأسيس جلعاد بناءً على أحداث معاصرة، لكن الكتاب بحد ذاته تحليل للتاريخ

 
هناك سبب لغيابِ التكنولوجيا عن جلعاد: النظام قائم على الإرباك. حيث وصول الجاريات أو حتى الزوجات إلى معلومات واسعة النطاق حول أي شيء خارج مجتمعاتهم الجُزُرِيّة، قد يقوّض النظام. وهو ما يثير السؤال التالي: إلى أي حد بالفعل، تلائم حكاية الجارية، هذا الزمن؟ هل يمكن أن تنشأ ثيوقراطية مماثلة في عالم مجموعات فيسبوك واحتجاجات تويتر والتنظيم على الانترنت؟ وألا تبرهن حقيقة ترقب العديد من الناس لنسخة هولو عن الرواية على أن النساء أصبحن أوعى بحقوقهن المستلبة عما كن عليه قبل 30 عاما؟

 

كأي عمل مصور من فئة الرعب، يظهر "حكاية الجارية" بطريقة أفضل كمجاز عوض أن يكون واقعيا. إذ يتم تأسيس جلعاد بناء على أحداث معاصرة -التغير المناخي، الأمراض، الهجمات الإرهابية التي تلصق تهمتُها بالأصوليين الإسلامويين- لكن الكتاب بحد ذاته تحليل للتاريخ. وهذا لا يعني أن أجزاء منه لا تجد أصداءها في القرن الواحد والعشرين. تفيد أتوود "عندما رأيت الناس يصوّرون هيلاري كلينتون بصورة الساحرة والشيطانة، فكرت بأننا لا نزال نحيا في القرن السابع عشر". ورفضُ نائب الرئيس مايك بنس تناول العشاء مع نساء أخريات عدا زوجته، على سبيل المثال، يصدر عن ذات البيورينية التي أدانت النساء بوصفهن ساحرات وعاهرات فقط لأنهن ولدن كإناث.

 

لكن كما تعكس حكايا الرعب مؤرقات عصورها (كالزومبي خوفا من الهجرة، والوحوش المشعة خوفا من انهيار نووي) يقف غياب الإطار الزمني كدليل على خلود العدوانية تجاه النساء. جلعاد هو عالم خارج الزمن، لكنه أيضا عالم قادر على إظهار كل مجتمع يعاديه. المشهد الذي يتم فيه الاعتداء على شخصية جانين من قبل العمات وجاريات أخريات لتعرُّضها للاغتصاب الجماعي، مثال على عار الفاسقة الذي كتبت عنه أتوود في 1984 قبل ابتكار المصطلح حتى. هذه التصرفات قديمة قدم الإنسانية نفسها، كما تخبرنا حكاية الجارية.

 

لربما، مع ذلك، يجعلنا الوعي بها أقل مكرا. كان قد استُقبِل فيلم حكاية الجارية المنتَج عام 1990، من قبل العديد من النقاد (الذين كانوا ذكورا في غالبيتهم) كعمل هستيري، غير متجانس جنائيا، وعارض على كراهية المؤلفة للرجال. لكم اقتباس هولو للرواية، حتى اللحظة، قوبل بثناء سعيد. لا شك أن رواية أتوود متبصّرة، لكن ليس لأنها تنبأت بمستقبل ممكنٍ للمجتمع الأميركي. وإنما، لأنها توقعت كم سيتعلم منه الجماهير والقراء المستقبليون، حتى بعد مرور عقود على إصداره.

————————————————————————

المقال مترجم عن: الرابط التالي

المصدر : الجزيرة