شعار قسم ميدان

ميراث المرأة.. ماذا بعد دعوة تونس إلى المساواة؟

midan - tunisia

"إنه من الضروري تطوير قوانين الأحوال الشخصية في العديد من المجالات لتكريس المساواة، ومواكبة التشريع للسياق الزمني والحضاري ولمتطلبات الواقع المتغير"

(الباجي قائد السبسي/ الرئيس التونسي الحالي)

 

"للشريعة ثوابت ومتغيرات، ومن الثوابت آيات الميراث؛ فالثوابت لا يمكن المساس بها وهي للشريعة كالجبال للأرض، تحفظها من أن تميد بالناس"

(د. وصفي عاشور أبو زيد)

 

ليس بجديد على التونسيين محاولات التغيير التي طالت الشريعة الإسلامية، بدءًا بالحبيب بورقيبة الذي دعا الناس للإفطار في نهار رمضان،  ومنع تعدد الزوجات وليس -ربما- انتهاء بالرئيس الحالي؛ ففي 13 (أغسطس/آب) 2017، أطلّ الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي مخاطبًا شعبه، ومبشّرهم بإصلاحات تطال قوانين الأحوال الشخصية لا سيما الميراث وزواج المسلمة بغير المسلم. لم يمر الخطاب بسلام من الشعب التونسي؛ فحتى يوم الجمعة 18 (أغسطس/آب) 2017 بلغ عدد الموقعين من التونسيين على عريضة شعبية لسحب الثقة من رئيس الجمهورية التونسية الباجي قائد السبسي أكثر من خمس وخمسين ألفًا حسب إحصاءات موقع حزب تيار المحبة التونسي الذي أطلق الحملة رفضًا لما جاء في خطاب الرئيس[1].

  

ساسة ودينيون
الرئيس التونسي الباجي السبسي
الرئيس التونسي الباجي السبسي
  
لم يكن لتصريح الرئيس التونسي أن يكون حدثًا عابرًا من دون ردود فعلٍ قد تؤثر جديًّا على تطبيقه فعليًّا؛ فالمنطلق الذي استند إليه السبسي في مقترحاته أوصله إلى نتائج تتعارض صراحة مع جوهر التعاليم الإسلامية الثابتة بالأدلة القطعية، لكن هذا لم يمنع  ديوان الإفتاء التونسي من تأييد مطالب رئيسهم "الأستاذ والأب بحق لكل التونسيين وغير التونسيين"، حسب وصف ديوان الإفتاء له، مع اجتراح دليلٍ شرعيٍّ يتوافق مع ما دعا إليه السبسي وهو -حسب ديوان الإفتاء-  قوله تعالى: "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ".[2]

 

في حين عقد عدد من علماء الزيتونة ومشايخها ندوة صحفية وعلمية بعنوان "المواريث بين الحكم الشرعي ودعوات التغيير"، طالبوا فيها بـسحب المبادرة التشريعية المتعلقة بتغيير أحكام المواريث وبعدم الاستمرار في طرحها أو الجدل فيها، مصرّحين بضرورة عدم المساس بالأحكام الشرعية القطعية التي نزلت بالقرآن والسنة والتي تعتبر مصدرا أساسيا للتشريع، من منطلق دستوري وشرعي، وأكد وزير الشؤون الدينية الأسبق،  نور الدين الخادمي الموقف الشرعي للمواريث، وأن الدعوة المتعلقة بتغيير أحكام الميراث وإثارة مثل هذه المواضيع، تعد هتكًا للشريعة الإسلامية التي من شأنها أن تزيد من احتقان الشعب التونسي[3].

 

"تبديد لا تجديد" بهذا وصف وكيل الأزهر عباس شومان خطوة السبسي في الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل ميراثًا؛ موضِّحًا أنَّ المواريث مُقسمة بآيات قطعية الدلالة لا تحتمل الاجتهاد ولا تتغير بتغيير الأحوال والزمان والمكان وهي من الموضوعات القليلة التي وردت في كتاب الله مفصلة لا مجملة؛ مضيفًا أنَّ تدخُّل غير العلماء المدركين لحقيقة الأحكام من حيث القطعية التي لا تقبل الاجتهاد ولا تتغير بتغير زمان ولا مكان وبين الظنّي الذي يقبل هذا الاجتهاد هو من التبديد وليس التجديد[4].

 

وأما حركة النهضة التونسية فقال الناطق الرسمي باسمها عماد الخميري، إن  "الفكرة التي طرحها رئيس الجمهورية مجتمعية بامتياز تحتاج إلى لجنة لبلورتها وفق ضوابط معينة حددها رئيس الجمهورية، وأنه من السابق لأوانه الحديث عن مواقف سياسية مع أو ضد الفكرة، وأن التوجه العام لحركة النهضة حول هذا الموضوع هو أن هنالك ثوابت متعلقة بأحكام الدستور وأحكامه في توطئته وجميع فصوله وكذلك لا ينبغي أن تتعارض مع قيم الإسلام ومقاصده"[5]وبعيدًا عن المواقف الرسمية، فإن تصريح السبسي وما رافقه من ردود فعل، لاقى تفاعلا مجتمعيًّا واسع الطيف على وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث انتشر في تويتر وسم #ميراث_المرأة، عبّر فيه كلٌّ من الغاضبين والمرحّبين بالفكرة عن موقفهم منها.

 

فلسفة شرعية
المواريث مُقسمة بآيات قطعية الدلالة لا تحتمل الاجتهاد ولا تتغير بتغيير الأحوال والزمان والمكان ولا تقبل الاجتهاد (بيكساباي)
المواريث مُقسمة بآيات قطعية الدلالة لا تحتمل الاجتهاد ولا تتغير بتغيير الأحوال والزمان والمكان ولا تقبل الاجتهاد (بيكساباي)
 
خُصص لتعاليم الميراث سورة كاملة هي سورة النساء، جاء فيها بالتفصيل الكامل آلية التعاطي الواجب على المسلم اتباعها مع هذا التشريع، وهي قطعية الثبوت والدلالة لا مجال فيها للاجتهاد، وفيما يتعلق بالمرأة فإن أحكام الميراث التي تعنيها هي أوسع من آية "يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ"؛ فما هذه الآية إلا تعبير عن حالة من حالات ميراث المرأة، وقد بيَّن صلاح سلطان في دراسته (امتياز المرأة على الرجل في الميراث والنفقة) الحالات المتعددة في الشرع الإسلامي لنصيبي المرأة والرجل في الميراث مقسّمًا ذلك إلى حالات أربع، هي:

 

1ـ حالات يأخذ فيها الذكر ضعف الأنثى: هناك حالة يأخذ فيه الرجل ضعف المرأة، وهي كما هو واضح ومبين عندما يتوفى رجل ويترك أولادا ذكورا وإناثا، فنصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى، كما في قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيينِ).

 

2ـ حالات ترث فيها المرأة مثل الرجل: وهناك حالات تتساوى فيه المرأة مع الرجل في الميراث، والعجيب في الأمر وهو ما يدل على جهل من يهاجمون الإسلام في اتهامه بإجحاف المرأة في الميراث، أن هذه الحالة التي تتساوى فيها المرأة بالرجل في الميراث في الآية نفسها التي يستشهدون بها، يقول تعالى: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأنْثَيينِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءٌ فَوْقَ اِثْنَتَين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَلَأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُس مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُن لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهُ السُّدُسُ)؛ فهذه حالة من الحالات التي تتساوى فيها المرأة بالرجل، وهي إذا ما مات إنسان وترك أبا وأما، فالأب والأم هنا يتساويان تماما في التركة، وهما رجل وامرأة في درجة القرابة نفسها للميت، فكل منهما يرث سدس التركة.

 

والحالة الثانية التي تتساوى فيها المرأة بالرجل في الميراث، إذا ما مات إنسان ولم يكن له أبناء، ولا أب أو أم، وترك أخا وأختا، أو إخوة وأخوات، فعندئذ يتساوى الإخوة والأخوات رجالا ونساء في الإرث، يقول الله تعالى: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكلّ واحدٍ مِنْهُمَا السدس، فإن كانوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُم شُرَكَاءُ فِي الثُّلُث).

  

هناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث الرجل وهما متساويان في درجة القرابة للميت، وهي في حالات وجود جدة لأب مع جد لأم مع وجود وارثين آخرين
هناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث الرجل وهما متساويان في درجة القرابة للميت، وهي في حالات وجود جدة لأب مع جد لأم مع وجود وارثين آخرين
  

3ـ حالات ترث فيها المرأة أكثر من الرجل: وهناك حالات ترث فيها المرأة أكثر من الرجل، فمثلا لو ماتت امرأة وتركت: زوجا وأبوين وبنتين، يكون توزيع التركة كتالي: الزوج (وهو رجل) الربع، والأب السدس (وهو رجل) والأم السدس، وللبنتين الثلثان، أي أن نصيب كل بنت من البنتين أكثر من نصيب الأب وهو رجل، وأكبر من نصيب الجد وهو رجل، ولو كانت البنتان هنا بنتا واحدة، لأخذت النصف، ولأخذت بالطبع ضعف الأب وهو رجل، وأكثر من الجد وهو رجل.

 

4ـ حالات ترث المرأة ولا يرث الرجل: وهناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث الرجل وهما متساويان في درجة القرابة للميت، وهي في حالات وجود جدة لأب مع جد لأم مع وجود وارثين آخرين، ترث الجدة لأب وهي امرأة، ولا يرث الجد لأم وهو رجل. ولمزيد من النماذج ولمزيد من التفاصيل يرجع لرسالة الدكتور صلاح سلطان التي أشرنا إليها[6].

 

رغم هذه التفصيلات لأحوال النساء والرجال في الميراث الإسلامي إلا أن الدكتور محمد عمارة كان له السبق في الحديث عن فلسفة الميراث الإسلامي في التفاوت الحاصل بين أنصبة الوارثين والوارثات، مرجعًا ذلك في كتابه التحرير الإسلامي للمرأة إلى معايير ثلاثة:

 

أولها: درجة القرابة بين الوارث – ذكرا أو أنثى – وبين المُوَرَّث – المتوفى – فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث، وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب في الميراث، دونما اعتبار لجنس الوارثين.

وثانيها: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال، فالأجيال التي تستقبل الحياة وتستعد لحمل أعبائها، عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من الأجيال التي تستدبر الحياة، وتتخفف من أعبائها، بل وتصبح أعباؤها – عادة – مفروضة على غيرها، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات. فبنت المتوفى ترث أكثر من أمه – وكلتاهما أنثى – بل وترث البنت أكثر من الأب! حتى لو كانت رضيعة لم تدرك شكل أبيها، وحتى لو كان الأب هو مصدر الثروة التي للابن، والتي تتفرد البنت بنصفها! وكذلك يرث الابن أكثر من الأب، وكلاهما من الذكور! وفي هذا المعيار من معايير فلسفة الميراث في الإسلام حكم إلهية بالغة ومقاصد ربانية سامية تخفى على الكثيرين! وهي معايير لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة على الإطلاق.

      

هل إنصاف المرأة وتحقيق راحتها وكرامتها يكون بمساواتها مع الرجل في التكاليف والأعباء والميزات، ومساواتها في المغارم والمغانم؟ أم بتحقيق العدل الاجتماعي والسياسي والمادي؟
هل إنصاف المرأة وتحقيق راحتها وكرامتها يكون بمساواتها مع الرجل في التكاليف والأعباء والميزات، ومساواتها في المغارم والمغانم؟ أم بتحقيق العدل الاجتماعي والسياسي والمادي؟
 
وثالثها: العبء المالي الذي يوجب الشرع الإسلامي على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين. وهذا هو المعيار الوحيد الذي يثمر تفاوتا بين الذكر والأنثى. لكنه تفاوت لا يفضي إلى ظلم للأنثى أوو انتقاص من إنصافها. بل ربما العكس هو الصحيح!
 

ففي حالة ما إذا اتفق وتساوى الوارثون في درجة القرابة، واتفقوا وتساووا في موقع الجيل الوارث من تتابع الأجيال -مثل أولاد المتوفَّى، ذكورًا وإناثًا- يكون تفاوت العبء المالي هو السبب في تفاوت أنصبة الميراث[7]. بهذا استطاع محمد عمارة تبسيط فلسفة الإرث وقوانينه الشرعية.

 

وفي العودة إلى كلمة السبسي التي أثارت الجدل حول قضية الميراث، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن كلمته كانت بمناسبة "عيد المرأة التونسية"، حيث قال إن بلاده تتجه إلى المساواة بين المرأة والرجل في جميع الميادين، باستثناء الإرث، وهو بخطوته هذه يريد للمرأة التونسية أن تتساوى مع الرجل في كل المجالات، ولعلّ هذا يأتي توافقًا مع الصيحات التي تعلو  مطالبةً بتفعيل حقوق المرأة وكذلك متناسبة مع بنود الاتفاقيات التي تصادق عليها الحكومات العربية والتي تدعو إلى المساواة بين المرأة والرجل مدخلًا لإعطاء المرأة حقوقها، متغافلين عن الآثار المترتبة اجتماعيًّا وأُسريًّا على هذه الدعوات،  وعن هذا يتحدث ديوان الإفتاء التونسي بكل وضوح أن تونس صادقت على المواثيق الدولية وبموجبها فإن تونس  تعمل على إزالة الفوارق في الحقوق بين الجنسين، ويضيف الديوان "بلادنا رائدة في مجال التقدم والحداثة ومواكبة العصر، فالمرأة التونسية هي نموذج المرأة العصرية التي تعتز بمكانتها وبما حققته من إنجازات لفائدتها ولأسرتها ولمجتمعها من أجل حياة سعيدة ومستقرة ومزدهرة". [8]

 

وهكذا يستمر الجدلُ الذي يرفع الجميعُ فيه راية إنصاف المرأة والانتصاف لها من الرجل ومن القوانين ومن العادات، ولكن يبقى السؤال الملح الذي يتجاهله الكثيرون لا سيما المنادونَ بمساواة المرأة: هل إنصاف المرأة وتحقيق راحتها وكرامتها يكون بمساواتها مع الرجل في التكاليف والأعباء والميزات، ومساواتها في المغارم والمغانم؟ أم يتحقق ذلك تحقيق العدل الاجتماعي والسيساسي والمادي بين المراة والرجل ما يعني إعطاء كلٍّ من الجنسين حقوقه وإلزامه بواجباته بعد ترسيخ المساواة في الكرامة الإنسانيّة؟

المصدر : الجزيرة