شعار قسم ميدان

جورج بالانديه.. ماذا تعرف عن العالم الفرنسي الذي واجه العنصرية الأوروبية تجاه الأفارقة؟

مقدمة الترجمة

كثرت الدراسات حول الأدب الاستعماري وتاريخ تصارع القوى العظمى وأثرها على الشعوب الأضعف التي انتُهِكت حقوقها. رغم كل ذلك، ما لبث "الرجل الأبيض" -حتى العلماء منهم- بالنظر إلى الشعوب المستعمَرة نظرة -فوقية- من الخارج، فندر وجود علماء ينظرون إلى أرض الواقع من منظور هذه الشعوب. في خضم ذلك، ظهر عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي جورج بالانديه محاولا تغيير العديد من الصور النمطية المتأصلة حتى في مجالات العلوم.

 

نص التقرير

عندما يتعلق الأمر بأسماء كبيرة في الأنثروبولوجيا الفرنسية، يعرف العديد من الناس عن كلود ليفي شتراوس الذي توفي في عام 2009 عن عمر يناهز مئة عام. وقد يستشهد آخرون بأصوات زميلَيْ الراحل ليفي شتراوس جرمين تيليون أو فرانسوا أريتييه. تميز ثلاثتهم بأعمالهم حول الجندر "الجنسانية" التي تركت أثرها على أجيال من الباحثين الشباب في جميع أنحاء العالم. سيفكر عدد قليل على الفور بجورج بالانديه الذي وافته المنية في أكتوبر/تشرين الأول 2016، رغم أن بالانديه كان متخصصا بارزا في الدراسات الأفريقية، وترك بصمته في تاريخ الأنثروبولوجيا (علم الإنسان).

 

فهم التغيير

على عكس كلود ليفي شتراوس، لم يكن طموح بالانديه إعادة تشكيل أهداف وأساليب الأنثروبولوجيا، بل رأى الأنثروبولوجيا كونها دراسة للإنسان في العصر الحديث. وبدلا من البحث عن الاتساق وأوجه التشابه والموازاة، كان أكثر اهتماما بالأحداث غير المتوقعة والمصادفات والغموض والفوضى والأحداث. كان هناك مفاهيم غريبة كليا على طريقة تفكيره، بما في ذلك الثبات والهيكلية والتماثل (أو التجانس، وهو نوع من التناظر حيث يوجد أوجه تشابه بين معتقدات وممارسات بشرية وحتى التحف الفنية رغم أن هنالك فاصلا زمنيا يفصل بينهم، ولكن تنتج أوجه التشابه بسبب الاتصالات الجينية أو التاريخية).

جورج بالانديه
جورج بالانديه

بالنسبة إلى بالانديه، كانت الأنثروبولوجيا أولا وقبل كل شيء تحليل الحالات: حالات محددة من المجتمع، لا يمكن فصلها عن ديناميكيات السلطة المتغيرة أو النضالات حول المعنى. إذا افترضنا أن عدم الاستقرار هو الحالة الطبيعية للتجمعات البشرية، لا يمكننا أن نتوقع إيجاد هيكلية وأسس دائمة تقوم عليها.

 

لذلك كانت الأنثروبولوجيا لدى بالانديه "الأنثروبولوجيا الديناميكية"، وهو نهج يحمل تشابها مفاجئا بعلم الاجتماع لدى بيير بورديو*. أيّد بورديو بوضوح التقاليد البنيوية (وهي مقاربة أو منهج ضمن التخصصات الأكاديمية بشكل عام تستكشف العلاقات الداخلية للعناصر الأساسية في اللغة أو الأدب أو الحقول المختلفة للثقافة بشكل خاص)، وشدد على فكرة "الميدان" -وهي هيكلية اجتماعية تحدد السلوك الفردي حيث إن الحقول الاجتماعية (الميادين) أساسها نشاط معين مثل الصحافة والأدب وكرة القدم- وعمل كلا العالمين في فضاء علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. اعتبر كل منهما أن مفهوم الصراعات الاجتماعية هي أيضا صراعات من أجل الغايات -وفي الواقع- هي تعريف للواقع الاجتماعي.

 

نظرة معكوسة للعالم

في وقت مبكر من عام 1953، أظهر بالانديه كيف تم ربط الكفاح ضد الاستعمار مع نظرة معكوسة للعالم: وفقا لمفردات دينية، كان الأفارقة المستعمرون هم شعب الله المُختارالذي تكلم من خلال أنبيائه. استمد بالانديه من هذا فكرة أن مناهضة الاستعمار تم التعبير عنها من خلال حركات مسيحية أعادت صياغة حالة الهيمنة.

 

وحتى اليوم، فإن حركات مثل بوندو ديا كونغو -حرفيا "تجمع الكونغو"- في جمهورية الكونغو الديمقراطية (زائير سابقا) هي حركات سياسية ودينية. ني مواندا نسيمي -زعيم حركة تجمع الكونغو- هو شخصية مسيحية وقائد عسكري يقاتل من أجل قلب الانقسامات الإقليمية للاستعمار وإعادة تأسيس حدود إمبراطورية الكونغو كما كانت في القرن الخامس عشر.

كتاب

من الجدير بالذكر أن بورديو استخدم صراحة مفهوم "الوضع الاستعماري" -وهو المصطلح الذي صاغه بالانديه في عام 1951- في كتابه الأول في عام 1960. في كتابه "اجتماعيات الجزائر" (Sociologie de l’Algérie)، كتب بورديو: "من المهم أن نفهم نمط حياة وقيمة النظام الأوروبي في إطار الوضع الاستعماري، وعلاقتهم بالشعوب المستعمَرة". ترتبط بعض الفئات التي يستخدمها بورديو في شبابه -مثل "التوازن الديناميكي"**، "التداخل الثقافي"، "إعادة التفسير الجزئي"- برؤية بالانديه لعلم الاجتماع وعمل روجيه باستيد -أحد أعظم الخبراء في الثقافة البرازيلية- الذي كانت نظرياته قريبة من نظريات بالانديه.

 

في تكريم لِبالانديه في مجلة "أوراق الدراسات الأفريقية" (Cahiers d’études africaines) (وهي مجلة دورية عن علم الإيثولوجيا الأفريقية [علم السلوك الحيواني الأفريقي]، كان قد ساهم بالانديه في تأسيسها)، تجد رؤية واضحة في تحليلاته المبتكرة متعددة التخصصات وتأثيره على كل من العلوم الاجتماعية والإنسانية. في حين أن عمله ينتمي إلى مجال معين من الأنثروبولوجيا السياسية ويتمحور حول مفهوم السلطة، فإنه قبل كل شيء دعوة لدراسة مجتمعاتنا والثقافات المتغيرة باستمرار على نحو شامل وبعيد الأثر، والتطرق إلى الدين والطقوس والمقدسات والاقتصاد والعمل، وكذلك الجنسانية والقرابة (التي تشير إلى شبكة من العلاقات الاجتماعية التي تشكل جزءا مهما من حياة معظم البشر في معظم المجتمعات).

 

فتح حوار بين "النظام" و"الفوضى"

تميز عمله المبكر عن مدينة برازافيل الكونغولية و"الوضع الاستعماري" بالانفصال عن التقاليد الأنثروبولوجية. تحدّى عمله المدارس الفكرية الثقافية والأصولية والمادية التي تطورت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وركز بدلا من ذلك على الفلكلور والأساطير. لم يتميز بالانديه فقط عن البنيوية والماركسية، بل أيضا عن قسم كبير من الأنثروبولوجيا البريطانية والأميركية الشمالية التي فشلت في ربط التغير الثقافي (التثاقف) بالأطر الاجتماعية التي يحدث فيها التغير.

جورج بالانديه

في هذا السياق، كان نهج بالانديه ذا طابع مبتكر للغاية، طور نهجا واسعا خلق مقارنة في الأنثروبولوجيا، حيث يهدف هذا النهج إلى فهم واستيعاب الديناميات التاريخية التي تشكل الظواهر الاجتماعية والثقافية، وقد أنعش تركيزه على الديناميات الأساس المعرفي للأنثروبولوجيا. تحدّى عمل أسلافه غير التاريخي من خلال التحقيق في العلاقة بين "التقليد" و"الحداثة"، وخلق جدلية (أو ديالكتيك وهي عبارة عن الجدل أو المحاورة: تبادل الحجج والجدال بين طرفين دفاعا عن وجهة نظر معينة، ويكون ذلك تحت لواء المنطق) بين النظام والفوضى.

 

منظور آخر على القرابة

بالنسبة إلى بالانديه، تعتبر القرابة مفهوما بالغ الأهمية، توضح تحليلاته حول الموضوع -رغم كونه جزءا صغيرا من مجموعة أعماله الخصبة- تطور تعريفه للسلطة. بالنسبة له، تشكل القرابة موضوعا ثانويا للدراسة عند مقارنته بالمكان الذي تحتله في الأنثروبولوجيا الكلاسيكية وعمل ليفي شتراوس.

 

في البداية، حدد بالانديه القرابة كعلاقة هيمنة أُعيد تشكيلها تاريخيا من قِبَل تدخل قوة أو سلطة أجنبية، ثم كنموذج "طفرة" أو نموذج "تحوّل" موضحا الجذور الداخلية والخارجية للتغيير. لكن في حين أن "التخيلي" و"الرمزي" يمكننا من تحديد ديناميات السلطة داخل الروابط الأسرية، فإن القرابة تحددها الجغرافيا على الرغم من ذلك، وهو ما برهنه بالانديه ببراعة في عمله "علم الاجتماع المظلم لبرازافيل" (Sociologie des Brazzavilles noires)، وبرازافيل هي عاصمة جمهورية الكونغو. تقدم الأنثروبولوجيا الديناميكية في جوهرها رؤية للسياسة التي تربط السلطة والمكان والرمزية.

كتاب

 

من الاستحواذ إلى السلطة

قد تكون تجربة بالانديه المباشرة لطقوس الاستحواذ والعرافة (الكهانة) في أفريقيا قد أثارت افتتانه الخاص بالدين خارج إطار علم اجتماع المؤسسات الدينية. وقد أصابته الدهشة من قدرة هذه الطقوس على إثارة العواطف، ولم يكن وحده من أصيب بالدهشة، فقد ألمت بالكاتب والشاعر ميشيل ليريس مؤلف كتاب "شبح أفريقيا" (L’Afrique fantôme) الذي صدر عام 1934.

 

تُمكِّن هذه الاختبارات المادية والجسدية والوجودية من فهم أفضل لديناميكيات الهيمنة والمقاومة، مما يفسر سبب تركيز بالانديه على الدور السياسي للحركات الدينية في سياق إنهاء الاستعمار، إضافة إلى تركيزه على الطبيعة المتقلبة لما هو مقدس -ضمن "الحداثة المفرطة"- الذي يظهر خارج المؤسسات الدينية. كانت أنثروبولوجيا بالانديه تُشرِك علماء الأنثروبولوجيا في ما وراء التحليل المنطقي البحت للبنيوية. إن عالم الأنثروبولوجيا الفعال (الديناميكي) هو عالم متمرس وجوديا وليس سياسيا، فالانخراط الشخصي للباحثين في مجالهم يوجّه تحليلاتهم بقدر ما يستخلصها من البيانات.

 

وبما أن جميع المجتمعات وجميع الثقافات تخضع لحالات طارئة و"اضطراب" أو "تمرد"، فيجب على علماء الأنثروبولوجيا وصف أوجه الغموض والتناقضات التي تزعزع استقرار النظام الاجتماعي والثقافي. ويشكل "التوتر" و"الصراع" و"الأحداث" و"المواقف" إطارا مرجعيا منهجيا استطاع بالانديه تطبيقه خارج حدود التخصصات الأكاديمية. في عصر ما بعد الحداثة، يُعدّ اتباع نهج متعدد التخصصات أمرا حيويا لفهم الديناميات المتغيرة للسلطة والمجتمع والثقافة.

—————————————————

هوامش
*بيير بورديو هو أحد الفاعلين الأساسيين في الحياة الثقافية والفكرية بفرنسا، وأحد أبرز المراجع العالمية في علم الاجتماع المعاصر. اهتم بتناول أنماط السيطرة الاجتماعية بواسطة تحليل مادي للإنتاجات الثقافية يكفل إبراز آليات إعادة الإنتاج المتعلقة بالبنيات الاجتماعية، وذلك بواسطة علم اجتماعي كلي يستنفر كل العتاد المنهجي المتراكم في مختلف مجالات المعرفة عبر التخصصات المتعددة للكشف عن البنيات الخفية التي تُحدِّد أنماط الفاعلية على نحو ضروري. كان من أوائل الكتب التي أصدرها "اجتماعيات الجزائر" عام 1958.

**يحدث التوازن الديناميكي في الكيمياء عندما تثبت نسبة المواد المتفاعلة إلى المواد الناتجة في تفاعل عكوس، ويصبح التفاعل في حالة مستقرة

————————————————————————

هذا التقرير مترجم عن The Conversation ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة