شعار قسم ميدان

"انتصار بطعم الهزيمة".. أغاني المهرجانات وتاريخ المأساة المصرية

midan - egypt
استمع للتقرير

   

إذا لم تسمع يوما مغنيا شعبيا أو غير شعبي في الوطن العربي كله يصف عالمنا اليوم كما يفعل المفكرون ورموز المعارضة السياسية بأنه "عالم فاسد" فأنت لم تسمع بعد "مهرجان: عالم فاسد" للمغني "حمو بيكا" الذي رغم أُمّيته يصف في "مهرجانه" كواليس دقيقة من ذلك العالم الفاسد:

         

"الرمل دي أخطر سَاحة.. على المخاليق شَفرات دبّاحة.. عَ الأرض العايشة المرتاحة.. الليلة هيقوم زلزال

هنا أرض ثارت براكينها.. في حُروبها بتطلّع سكاكينها.. ليه هقولك ما أنتم عارفينها.. مُديرية غُبريال

فرعون دباحة من يومها.. هنا دولة وسُلطة بتُحكمها.. لو فرقة هتخرب نردمها.. ووحوش بتثور على العيشة"

   

 

حقق هذا "المهرجان الشعبي" انتشارا واسعا منذ صدوره عام 2017، وبعد أن كان سماع هذا النمط من المهرجانات أمرا مستهجنا من الطبقات المتوسطة والمتوسطة العليا والعليا، أصبحت اليوم منتشرة في عموم المجتمع المصري، بل وصل إيقاعه للبلاد العربية كلها، كما وصلت إلى أوروبا، وظهرت موسيقى "الكترو شعبي" كما الحال في الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي حدا بصحيفة "نيويورك تايمز" للكتابة عنها.

   

  

بعض المهرجانات تراوحت مشاهداتها على "يوتيوب" بين المليون إلى عشرة ملايين مشاهدة ("مهرجان الوسادة الخالية" على سبيل المثال حقق نحو مليوني مشاهدة في أقل من أسبوع). مشاهدات يمكن ملاحظة تجلياتها في الحياة الواقعية، حيث نجدها منتشرة في المواصلات العامة والتلفاز والمسجل الخاص بسيارات الأجرة والدراجات النارية وحتى الأفلام السينمائية، حيث اعتمد المنتجون عليها مؤخرا في عدد كبير من الأفلام المصرية كنوع من الدعاية للفيلم حتى أصبحت ثيمة مشتركة بين معظم تلك الأفلام. لكن الأغرب من شيوع هذا اللون من الفن والذي كان يصفه جميع الفنانين والمطربين المصريين والعرب بأنه فن مبتذل، وتم منع إذاعته في الإذاعة المصرية، هي المواضيع التي تدور حولها كلمات المهرجان الشعبي.
 

تتميز كلمات المهرجان الشعبي بجرأة لم تعهدها الأغاني المصرية من قبل، تصل أحيانا إلى حد "الوقاحة" كما يصفها البعض، وينتقل المغنون من وصف بيئتهم "الفاسدة" إلى وصف عمل العاهرات في الأزقة الشعبية، للمعارك التي يخوضها أهل تلك المناطق وأنواع الأسلحة التي يستخدمونها، ونمط حياتهم اليومية، وخيانة الأصحاب والزوجات، وفساد أخلاق الناس وخيانة العشرة، وقد تصل الكلمات أحيانا إلى وصف العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، ومغازلة المرأة بكلمات جنسية فجة إضافة إلى تحقيرها.

   

"يأكلوا يبحلقوا نتحاسب وفي الكل فِ أوجاعك قاصد عايشين وسط العالم الفاسد والناس كلها بتصيع

يقعدوا يتغدوا في بيتنا في الآخر ينكروا عشرتنا إخوات وشقايق في الغالب طلعنا الموجب مِ السالب"

   

  

الأغرب من كل ذلك، هو تناول كلمات المهرجانات الشعبية لمواضيع سياسية، مثل مهرجان السادات وفيفتي وفيجو الداخلاوي "أنا نفسي بس في ريس"، أما تناول المواضيع الدينية، فيحمل الكثير من التناقضات، حيث تجد في كثير من المهرجانات تطرقا للتوبة من الذنوب والحاجة إلى العودة إلى الله، وذلك على الإيقاعات الصاخبة الراقصة نفسها. ظهر ذلك في مهرجان "إلعب يلا" لـ "أوكا وأورتيجا" يبدأ المهرجان بحديث عن أهمية الرجوع إلى الله وترك الذنوب ثم يتجه إلى ثيمة صاخبة تمثل وسوسة الشيطان وهو يقول للإنسان: "العب يالا.. ولّع يالا.. ارقص يالا".

 

 

جمع فن "المهرجان" بذلك تناقضات وحكايات وكواليس المجتمع المصري، كل قضاياه ومشاكله التي لم يستطع أحد من قبل التعبير عنها بهذا الشكل الفج، تحت عنوان "الناس تعبانة مش قادرة.. بتكح تراب من فترة، طب نعمل إيه يا سيادنا.. نسرق ولا نبيع بودرة"، كما تحكي قصة ظهور "المهرجان الشعبي" مراحل التغيرات التي طرأت على المجتمع المصري، ليظهر السؤال كيف حقق المهرجان كل ذلك الانتشار والتوسع ليسمعه الكبير والصغير، الغني والفقير، المتعلم وغير المتعلم، أو كيف طفا هذا اللون من قاع المجتمع المصري ليصبح ممثّله في الداخل والخارج؟

 

الصخب يغزو المدينة

في وقت مبكر من العقد الثاني من الألفية الثالثة، وتحديدا منذ عام 2011، كانت بداية ظهور الشاب ذي الظهر المنحني فوق دراجة نارية، يسير متبخترا بها، ويَصدر منها ضجيج صاخب، مارا بكل شوارع المدن المصرية، كأنه يريد أن يفرض ما يسمعه على المجتمع الذي كان يرفض ذلك اللون "المبتذل" من الموسيقى والغناء، وعندما اعترض "أدهم حافظ" -مؤسس "فرقة أدهم حافظ" التي تقدّم العروض الفنّية وتجمع بين الرقص المعاصر والموسيقى- ذات مرة على أحد سائقي التاكسي في القاهرة حين رآه يسمع ذلك الضجيج، قال له سائق التاكسي:

    

 undefined

  

"لا نعاني المشاكل التي تعانونها. ليست لدينا أي مشكلة في الاستماع إلى أغنية عن الجنس، أو عن لقاء مع مومس، أو عن المخدرات. نحن لسنا من المدينة، بل من خارج المدينة. ما يحدث خارج المدينة أشبه بما يحدث في هذه الأغاني. هذه الأغاني حقيقية. هذا ليس الراديو أو التلفاز. لدي أغنية أخرى لك على ذاكرة الـ«يو. إس. بي.»، أكثر فحشا بكثير، وأكثر متعة، موضوعها الجِماع.. هذه أغانٍ ألّفها ناس في شوارعنا. لا تشتريها من أي مكان. تذهب وتحصل على نسخة منها على قرص ذاكرة فلاش أو من خلال البلوتوث. شقيق زوجتي يعمل منسقَ أغانٍ (دي جي) في حفلات الزفاف، وقد أعطاني نسخة عن مجموعته. هو صديق لـ«أورتيغا»" (1)، فالمهرجان الشعبي ليس مجرد أغنية، بل هو ثقافة كاملة كما يقول سائق التاكسي، تكوّنت واختمرت في باطن المجتمع المصري ثم تصاعدت أبخرتها عاليا لتسكر المجتمع والعالم العربي كله بنذير تغيرات شاملة في بنية المجتمع والنظرة للعالم.

  

والمهرجان ليس مجرد كلمات وإيقاع راقص ولحن متكرر وثيمة لازمة تتخللها كلمات كأنها حوار يدور بين ثلاثة شباب، بل هي حالة وجدانية كاملة من الصخب والفرح العارم، حالة من "الفرتكة" كعنوان المهرجان الشهير "فرتكة فرتكة.. عالطبلة وعالسكسكة"، وهي حالة من النشوة يصاب بها الشاب بعد تناوله للمخدرات مع استحضار كل مشاعر الفرحة والألم والشعور بالذنب والندم، بجانب شعور حاد بكل تفاصيل الواقع الذي يعيشه هؤلاء الشباب وكل الآلام والانكسارات والفقر والعجز والذل والعنف اليومي، وتحت تأثير تلك الحالة التي وُلدت في جلسات ليالي الأفراح في المناطق الشعبية والتي لا يغيب عنها "الحشيش" وربما "البيرة"، يبدأ الشباب في قول كلمات في صورة أغانٍ لتأدية واجب تحية أصحاب "العُرس"، يصاحبها تقسيم موسيقي يصنعه الشاب المسؤول عن "الدي جي" ومن هنا بدأت المهرجانات. (2)

 

كيف بدأت المهرجانات؟

قبل الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، ظهر في المجتمع المصري نوع من الغناء عُرف بأغاني المهرجانات أو الإلكتروشعبي، أبطاله هم مجموعة من مواطني الأحياء الشعبية والمناطق العشوائية بمصر، ورغم وجود هذا النوع من الغناء خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فإنه التزم حيزا ضيقا لا يتجاوز المناطق التي يعيش فيها صناع هذا النوع من الغناء، ومع نهاية العقد الأول من القرن الحالي بدأت هذه الفرق تقتنص التجمعات الجماهيرية والشعبية لعرض أغانيهم فيها مثل: احتفالات الشارع بالفوز في البطولات الكروية، الحفلات الاجتماعية والترفيهية في المناطق التي يقطنونها أو المناطق المجاورة لها، إلى أن جاءت الفرصة الكبيرة لهم في اعتصامات الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني وما بعدها. (2)

  

 

صُنّاع هذا اللون من الغناء هم "فئة من المراهقين والشباب ينتمون الطبقة المتوسطة أو الطبقات الأدنى منها، نالوا قسطا محدودا جدا من التعليم وبعضهم لم يتلق أي تعليم على الإطلاق، اعتركوا بالحياة ومشكلاتها في سن مبكرة جدا نتيجة خروجهم لسوق العمل مبكرا، وعلى الرغم من تلك الظروف فإن جهاز الكمبيوتر والهواتف المحمولة تعد أمورا أساسية في حياتهم وهذا ما سهّل عليهم الدخول لمجال الغناء عن طريق البرامج التي يتم تحميلها مجانا من خلال شبكة الإنترنت". (2)

     

من أبرز فرق "المهرجانات الشعبية" فرقة 8%، وفرقة المدفعجية، والدخلاوية، وشبيك لبيك، حيث تُعدّ فرقة 8% (ثمانية في المئة) من أبرز فرق المهرجانات التي نالت شهرة واسعة في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، وأعضاؤها هم: أوكا (مواليد: 1991 والاسم الحقيقي: محمد صلاح)، وأورتيجا (وهو مواليد عام 1989 والاسم الحقيقي: أحمد متولي مصطفى) بجانب شحتة كاريكا ومجموعة من أصدقائهم يسكنون جميعا منطقة الأميرية. (2)

    

  

حيث اتجهوا إلى غناء المهرجانات في منطقة المطرية وهي أحد الأحياء الشعبية التي تقع شرق القاهرة، وهي مقابلة لمنطقة الأميرية. مثلت المطرية أولى المناطق الشعبية التي ظهر فيها هذا النوع من الغناء، وكانت أولى مهرجاناتهم في عام 2009 بعنوان مهرجان التنجيد، وجاء غناؤه بناء على طلب أحد أصدقائهم أن يقدم أوكا وأورتيجا أغنية له بمناسبة الاحتفال بيوم "تنجيد جهاز شقيقته في منطقة المطرية"، أي تجهيزها للعرس، ولاقى مهرجان التنجيد شهرة في بعض المناطق الشعبية مثل المطرية وبولاق، ولينضم لهم بعدها شحتة كاريكا، ولتتشكل الفرقة بذلك. ومن أشهر مهرجانات فرقتهم: مهرجان الوسادة الخالية والذي تجاوزت نسبة مشاهدته على موقع يوتيوب 20 مليون مشاهدة بجانب مهرجان "آه يابت ياموزه، ودلع البنات". (2)

   

   

وفي حوار أعضاء فرقة 8% مع عمرو الليثي في برنامج "بوضوح" عام 2015 على قناة الحياة الفضائية، وصف أعضاء الفرقة معنى المهرجان بأنه "لعب بالموسيقى ينتج عنه أغنية تكون لمناسبة محددة يتخللها تحية لعدد من الأفراد المهمين في هذا الحفل لأسرة من أُسر الحي الشعبي، ثم توزع بعد ذلك على أهل الحي وسائقي التوكتوك". كما ذكر شحتة كاريكا أن هذا النوع من الأغنيات ظهر قبل خمسة عشر عاما تقريبا، " مما يعني أن هذا النوع من الغناء بدأ في الظهور بمنطقة المطرية في السنوات الأولى من الألفية الثالثة، ولكن لم يكن معروفا لجميع طبقات المجتمع المصري لتجاهل الإعلام له". (2)

  

   

أما المهن السابقة لأعضاء فرقة 8% قبل احترافهم غناء المهرجانات -كما ذكروا- فهي: عمل شحتة كاريكا مساعد سائق مع والده الذي كان يعمل سائقا على سيارة تريلا (نقل كبير)، وعمل أوكا في عدة مهن منها صبي حلاق، حداد، ثم مساعد لوالده على عربة لبيع الكشري، وعمل أورتيجا في عدة مهن منها شيال في محل جملة، خياط، عامل في سايبر (مقهى إنترنت)، عامل نظافة في مقهى. جميع المهن التي مارسها أغلب مغنين المهرجانات الشعبية هي حرف مهنية، باعتبارهم لم ينالوا قسطا وافرا من التعليم، وبحسب ما ذكروه فإن شحتة كاريكا أُمّي تماما لا يقرأ ولا يكتب، بينما ترك أوكا التعليم في الصف الثاني الإعدادي، وينطبق الأمر على حمو بيكا الذي ذكر فيه عبر مقطع فيديو على موقع فيسبوك أنه أُمّي لا يعرف القراءة والكتابة لذلك لا يستطيع الرد على معجبيه على "فيسبوك".

      

أما فرقة "المدفعجية" فهي مكونة من أربعة أعضاء هم: ديزل (عمرو حسين)، دولسيكا، شندي، وكنكة، بجانب "الدي جي" وزة، وهم من أبناء مدينة السلام التي تقع شرق القاهرة، وجميعهم في المرحلة العمرية بين سن المراهقة المتأخرة والعشرينيات، وبدأوا تقديم المهرجانات في عام 2007 قبل أن يطلقوا على أنفسهم اسم "المدفعجية"، وكان أول مهرجان بعد تكوّن الفرقة هو مهرجان "خمسة فرفشة". (2)

  

     

وقد بدأوا في هذا المجال من خلال مهنة "الديسك جوكي أو الدي جي"، ومع انتشار ظاهرة موسيقى المهرجانات تغير الأمر وبدأوا في تقديم بعض الكلمات على طريقة الراب بصحبة "الدي جي" علي المايك. ويضيف أحد أعضاء فرقة "المدفعجية" في حوار له: "جمهور المهرجان هم الأكثر حاليا، لأنه طالع من وسطهم، المهرجان ثقافة شارع، ومفيش فنان كبير يقدر يوصف حالة اجتماعية.. إحنا بقى بنعرف نعمل ده، فعندنا حرية أكثر "طاخ تش" ده اللي كنا حابينه زمان إنما دلوقتي الموضوع اتغير"، وأكّدوا كذلك أن هذا اللون من الغناء بدأ في عام 2002 تقريبا لكنه كان في الشارع فقط. (2)

   

ويعتبر مهرجان "نحن أتينا" أصدق تعبير عن موقع هذا الفن في المجتمع وعلى خريطة الفنون الشعبية المصرية، حيث يقولون:

"ما رأيك يا صديقي الحميم

في اختراع فن يدوم السنين

جاهزين جاهزين نحن نسعى لهذا

وللقاصدين إدراك الخلاصة"

   

     

يعلن "المدفعجية" في هذا المهرجان دستورهم وهدفهم الاجتماعي والفني من المهرجانات، بعد أن خرج فن المهرجان من الأزقة الضيقة والمناطق الشعبية للساحات العامة وأصبح سلعة ثقافية يستهلكها أغلب أفراد المجتمع من جميع الطبقات والأعمار والأوساط الاجتماعية، فيقولون بمنتهى الصراحة: "إدراك الخلاصة، العب عالحتة الفاضية"، فهم لا يريدون منافسة نجوم الغناء الجماهيري بكل أشكالهم، بل يريدون عمل انقلاب على شكل الموسيقى الرائج في مصر بصناعة لون فني جديد يعبر بصدق عن حالتهم الاجتماعية ومشاكلهم وآلامهم وعالمهم الخاص وثقافتهم في الحياة ولغتهم اليومية التي تحمل قدرا من الجرأة والسباب الذي قد يصل إلى معانٍ صادمة للمجتمع:

"مرحب أهلا جمهوري

اسمعوا وافهموا دستوري

لما بنحضر ونحضر

رتم المزيكا يتغير"

  

لكن الأمر لا يتوقف حول مجرد الثورة على النمط الموسيقي الرائج، بل يحمل معارضة سياسية بلغة عسكرية تمتلئ بها أغلب المهرجانات، لغة مستمدة من علاقات هذا العالم وذلك المجتمع مع رجال الشرطة وصدامهم مع المخبرين ومعاركهم مع أقرانهم:

"جيشك هيقابل جيشنا

ليه تبص في لقمة عيشنا

لكلامك ياما طنشنا

طب كش ملك فركشنا

هنا تتهور تتعور"

     

يتطور الأمر للدخول على خط السياسة العامة، حيث تشمل الكلمات نكات سياسية، فتشير كلمة "الطيار" إلى السخرية من الرئيس المخلوع حسني مبارك، وجمل أخرى كلاسيكية من أغانٍ وأفلام قديمة، لتنتج بنية مفككة على مستوى الشكل لكنها معقدة على مستوى المضمون، تحمل بداخلها مرحا صاخبا وغضبا يفضح سخريتها من الواقع:

"زي الطيار

أيوه يا شيندي معاك هختار

نازل داقق كذا مسمار"

    

ولأن هذا اللون من الفن يحضر فيه بشدة السجال الغنائي أو المنافسة، جاء مهرجان "أولاد سليم اللبانين" ليزيد من شهرة هذا الفن، لدرجة أن كلمات المهرجان أصبحت تُستخدم بشكل يومي لدى الطبقة الوسطى وما فوقها، بل استدعت شركة السبكي للإنتاج مغني المهرجان ليقدموه في أحد الأفلام، وهو ما حدث من قبل مع أوكا وأورتيجا وفرقة "المدفعجية".

    

       

أما فرقة "شبيك لبيك" فقد ظهرت في عام 2015، وأعضاؤها هم: حسن البرنس (22 سنة)، ناصر غاندي (15 سنة)، فارس حميدة (13 سنة)، وهم من الإسكندرية، وكان المهرجان الأول لهم هو مهرجان "مفيش صاحب بيتصاحب" وتم إنتاجه خصيصا لعرس أحد أفراد عائلة أولاد سليم اللبانين (نسبة إلى تجارتهم في منتجات الألبان) بمنطقة عزبة محسن بالإسكندرية (2)، لكنه حقق شهرة فاقت التوقعات، ليتحول بعد ذلك إلى "فيديو كليب"، وقد حقق هذا الفيديو فقير الإنتاج، نسبة مشاهدة تعدت عشرة ملايين مشاهدة على موقع "يوتيوب" في الشهر الأول فقط من عرضه، مما جعل المنتج السينمائي أحمد السبكي يتعاقد معهم لتقديم فيلم "عيال حريفة".

  

أما ظهور "حمو بيكا" ومهرجان "عالم فاسد" فقد حقق شهرة سريعة بسبب خروجه لجمهور واسع وشريحة عريضة كانت قد تكوّنت من قبل بالفعل، وأحبّت سماع ذلك اللون من الفن بعد أن انتشر في المجتمع كله متحديا نقابة الموسيقيين ومتحديا صناعة موسيقية ضخمة في دولة لها تراث ضخم من الإنتاج الموسيقي، حيث مثّل فن المهرجان الشعبي "انشقاقا في الإمبراطورية الصوتية" التي تفتخر الدولة المصرية بامتلاكها، بما فيها من "موسيقى البوب المربحة أو الأعمال الشرقية الكلاسيكية التي تتسم بالحنين وتشير إلى أيام ولّت.. هذا النوع مستقل نوعا ما. ليس جزءا مما هو رائج وعصري، وليس جزءا من تجربة قاعة الحفلات جلوسا، وليس جزءا من الاحتفالات الصيفية في المنتجعات البحرية التي يشارك فيها مشاهير عرب في مجال موسيقى البوب". (3)

   

هذا اللون من الغناء يحمل بين طياته احتقارا وازدراء للمجتمع، ففي مهرجان "الوسادة الخالية" يسخر المغنون من الطبقات الأعلى منهم فيقولون: "حبيبي لابس برنيطة ومعلق في رقبته شريطة وبيشرب مانجا بشفاطة"، كما أنهم لا يرون المرأة إلا كموضوع جنسي فقط يشيرون إليها دائما بلفظة "بت" مثل مقطع: " هاتي حتة يا بت.. هاتي بوسة يا بت". ورغم تلك السخرية والاحتقار انتشرت المهرجانات عند الطبقات التي تسخر منها، فكيف نفهم انتشار ذلك النوع من الفن وكيف ظهر؟

    

الأغنية الشعبية والحنين للفرحة

خلال فترة الخمسينيات من القرن الماضي نشر الأديب توفيق الحكيم مقالا صغيرا في صحيفة أخبار اليوم بعنوان "العصر الشكوكي"، ويقصد به العصر الذي تحقق فيه النجاح الساحق والشعبية الواسعة للمنولوجست "محمود شكوكو" وكان قد بدأ نوعا جديدا من المنولوجات، أي الأغاني القصيرة والخفيفة وسريعة الإيقاع وذات المعاني السهلة وخفيفة الظل، وتستخدم تعبيرات شائعة بين الطبقات الدنيا أو "السوقية"، وكثيرا ما تسخر من بعض القيم المستقرة لدى الطبقة الوسطى القديمة حينذاك، لتكسر بعض قواعد الغناء القديم، واشتهرت مع أغاني شكوكو مونولوجات حسين المليجي وثريا حلمي اللذين كانا أيضا يستجيبان لأذواق طبقة جديدة من المستمعين حديثي الثراء. (4)

    

     

ولما حدث انقلاب يوليو/تموز عام 1952، لم تنقض سنوات قليلة حتى دخلت مصر في مرحلة من مراحل تطورها الثقافي وأنتجت ثمارا أرقى نوعا وأقدر على البقاء مما أنتجته سنوات الحرب والسنوات التالية لها مباشرة. وفي السبعة عشر عاما التالية للانقلاب (1952-1970) نمت الطبقة الوسطى بمعدل أعلى حتى مما شهدته الفترة السابقة عليها، لكن الأهم من ذلك هو التغير الذي لحق مصادر هذا النمو، فشهدت الفترة التالية ليوليو/تموز 52 توسعا غير مسبوق في التعليم، بالإضافة إلى ما قامت به الدولة الجديدة من إزالة الحواجز التي كانت تقف في وجه من حصل على فرصة التعليم في الثلاثينيات والأربعينيات، وأتاحت لهم فرصة الترقي والصعود في الخمسينيات والستينيات. (4)

    

كما شهدت تلك الفترة ارتفاعا كبيرا في معدل التصنيع واستصلاح الأراضي ونمو الجيش وما يتصل بهذا كله من مرافق وخدمات، أما في الثلاثين عاما التالية (1970-2000) فقد تضافرت عدة عوامل لإفساد المناخ الثقافي المصري، وبرغم وجود توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس (4)، فإن أثر الهزيمة العسكرية في 1967 بجانب الانفتاح الاقتصادي وبزوغ ثقافة السوق والربح السريع في عام 1974، بجانب الهجرة إلى الخليج، وتكوين الثروات من أعمال غير منتجة مثل "السمسرة" والاستيراد واستمرار الدولة في السيطرة على قطاع الثقافة والصحافة والإنتاج التلفزيوني، بجانب التوسع في قطاع السياحة والملاهي الليلية في القاهرة وشارع الهرم، كان له تأثير كبير على بزوغ الأغنية الشعبية على يد أحمد عدوية وموسيقى البوب العربية على يد حكيم وحميد الشاعري، واندثار الفن الكلاسيكي. (5)

    

     

بعد هزيمة 1967 العسكرية انعكست آلام الهزيمة على المجتمع المصري، بل والمجتمع العربي بأكمله، وظهر ذلك في المنتج الفني للمجتمع، حيث ظهرت في هذه الفترة تجارب غنائية شعبية جديدة أغلبها كان "شعبيا حداثيا" ومنها: الأغنيات الشعبية والتي كانت إعادة إنتاج للأغنيات الفلكلورية وتحويلها إلى أغنيات شعبية مع دخول آلات الباند الغربي جنبا إلى جنب بعض الآلات الشعبية، وكانت ليلى نظمي التي تخرجت في المعهد العالي للموسيقى عام 1968 وكان أول مشوارها الفني مع أغنيات: أمّا نعيمة، العتبة جزاز، حماتي يا نينية دلوعة علية، إدلع يا رشيدي، ما أشربش الشاي، هي أبرز روّاد هذا الاتجاه الفني. (5) وكانت عايدة الشاعر هي الأخرى من أشهر المطربات الشعبيات في تلك الفترة، وقد دخلت الإذاعة المصرية في فترة أواخر الستينيات، ومن أعمالها أغنيات مثل: كايدة العزال أنا من يومي، الطشت قالي، فالح ياوله.

     

أما النوع الثاني من الفن الشعبي والذي ظهر في تلك الفترة فكان نوعا شعبيا خالصا، يعبر عن انكسار المجتمع وبحثه عن أي شيء جديد يخلق مسافة بينه وبين الماضي الذي يذكره بمجد منهار وهزيمة حاضرة، لكنه هرب من الهزيمة النفسية لهزيمة وانسحاق ثقافي كامل، ففي موسم 1969-1970 ظهر الألبوم ذو المليون نسخة والمعنون بـ "السح الدح أمبو" للمطرب أحمد علي مرسي الشهير بأحمد عدوية، الذي وُلد لأب يعمل بتجارة المواشي، وكان له من الأشقاء أربعة عشر، ولم يكن التعليم من أولويات هذه الأسرة، ولذلك لم ينل أحمد عدوية قسطا وفيرا من التعليم. (5)

     

وبرغم هجوم المثقفين والنقاد والصحفيين على عدوية ونوع الغناء الذي يقدمه في ذلك الوقت، انتشر غناء عدوية ومثّل ثورة في عالم الموسيقى العربية، حيث جمع صوته بين تناقضات المجتمع، فقد حمل مناخ "الفرفشة" القادم من ملاهي شارع محمد علي بكلمات سطحية لا تدل على أي فكرة، وفي الوقت نفسه وجد الجمهور في صوته لمسة دفء حزينة وشجنا شعبيا على رجولة مهزومة ومتفلّتة، كما جمع بين الجمل القصيرة والنمط السريع، وبين الإيقاع الخاص بالمواويل الشعبية.

    

     

وبعد انتصار أكتوبر/تشرين الأول انتشرت أجواء من الفرحة، لكنها لم تؤثر سلبا على لون الفن الشعبي الذي ظهر من قبل، بل زادته دفعة مرح وأزالت عن كاهله الذنب والحزن، وظهرت مع سياسات الانفتاح شركات جديدة لإنتاج شرائط التسجيل منها: سونار، الشرق، روكي، هاي كواليتي، ستار، وغيرهم، وتبنت هذه الشركات تجارب موسيقية جديدة كانت سببا في نقلة نوعية مغايرة لتلك التي سبقتها بما يتناسب ومعطيات العصر التكنولوجية، فظهرت المطربة "فاطمة عيد"، التي بدأت بغناء الفلكلور الفلاحي المعدل مثل: عالزراعية يارب أقابل حبيبي، سلمولي عليه، أهو جالك أهو. (5)

    

     

ثم ظهرت المطربة "روح الفؤاد" وهي مطربة شعبية من الإسكندرية اسمها الحقيقي روحية منصور، وظهرت في الثمانينيات، ومن أشهر ألبوماتها "دنجا دنجا"، واكتفت بعد ذلك بالعمل كمطربة أساسية في فرقة الراقصة فيفي عبده. (5) في الفترة نفسها ظهر صوت نقل الأغنية الشعبية نقلة أخرى فأصبحت مزاج سائقي الميكروباصات في المناطق الشعبية، ولاقت أغنيته رواجا واسعا في الأفراح الشعبية والمناسبات الاجتماعية في تلك المناطق والتي ستصبح المعمل الحقيقي لظهور المهرجانات فيما بعد، هذا الصوت هو عبد الباسط حمودة، الذي انتقل من الأفراح الشعبية إلى صالات شارع الهرم، لكنه لم يشتهر في التلفاز إلا عام 2008 مع أغنية "أنا مش عارفني".

    

      

تميز عبد الباسط بصوت مفعم بالحيوية والتلقائية، وهو يفضل الغناء الحر غير المقيد بإيقاع ثابت، بمساحة صوتية واسعة تصل إلى ثلاث عشرة نغمة تقريبا، وهو واحد من مقدمي الأغنية الشعبية الحديثة، يرتدي الملابس ذات الألوان الفاقعة وأحيانا غير المتناسقة التي ظهرت مع شعبان عبد الرحيم من قبل، وتصاحبه فرقة تمزج بين ألحان شعبية وعربية وغربية، "فتتسم أغنياته بالحفاظ على الإيقاعات المصرية الشعبية إلى جانب المقامات الحيادية" (5)، وفي السنوات الأخيرة شارك مع فرق موسيقية ومطربين ومطربات آخرين يقدمون لونا غنائيا مختلفا عن الغناء الشعبي مثل أغنية: غريب في بلاد غريبة مع فرقة كايروكي، ومفيش مستحيل مع نيكول سابا.

    

      

لكن الأهم في أغنية عبد الباسط، وهو ما تفاجأ به الوسط الفني المصري والسبب وراء رواج أغنيته، أنه يعبر عن هموم سوداوية يمتلئ بها الواقع المصري، بجانب سخرية مُرّة من المجتمع العربي كله، مع التزامه بقيم شعبية تعبر عن الإيمان البسيط للطبقة الدنيا، بجانب مواضيع عن الخيانة الزوجية وخيانة الأصحاب والمخدرات، وهو ما سار عليه المطرب "طارق الشيخ" الذي كان أول ألبوماته عام 1995 بعنوان "اختارلك حل" و"يا عيني علينا" و"نفسي يا دنيا" و"على باب الجنة"، و"اجرح"، و"اندم"، و"ندم عمرك"، وهو صوت سليم لا يعرف النشاز، ويعد من أهم الأصوات الشعبية على الإطلاق (5)، وتدور كل أغانيه حول أزمة الأخلاق في المجتمع وبزوغ أخلاق السوق وضياع الإنسان وحيرته كما يقول في أغنية "حاليا بالأسواق" وضياع القيم الأصيلة مثل أغنية "دقيقة حداد"، وهي الموضوعات التي ستستمد منها المهرجانات أفكارها.

   

    

والأمر تطور مع دخول الأفكار الدينية الشعبية في الغناء الشعبي، وهو النمط الذي قدمه المطرب "محمود الحسيني" في العقد الأول من الألفية الثالثة، في أغنية "العبد والشيطان" و"سيجارة بني"، فتقوم أغنية "العبد والشيطان" على فكرة حوارية بين الإنسان والشيطان، يسرد فيها الشيطان ما فعله بالإنسان، وجره لشرب الخمر والمخدرات ولعب القمار وارتكاب الزنا، والأغنية تدور حول فكرة وعظية وشعور الندم والشعور بالذنب وطلب التوبة، لكن تصاحبها إيقاعات راقصة، وقد لاقت الأغنية رواجا شعبيا كبيرا في تلك الفترة، وكانت الأغنية الأساسية في الأفراح الشعبية، وعلى أنغامها كان يرقص أهالي المناطق الشعبية وفي أيديهم سجائر الحشيش وزجاجات البيرة، حيث سيصبح هذا اللون مكونا أساسيا لاختمار المهرجانات، فقدم له فكرة الحوار والنزعة الدينية الشعبية، لكنّ فنا آخر سيقدم للمهرجانات الموسيقى المُصنعة أو الإلكترونية.

  

الأغنية الشعبية الصناعية

كانت الأغنية الشعبية حتى ذلك الوقت تعتمد على الصوت الطبيعي للمطرب وجمالية الصوت والأداء والإيقاع إلى حد كبير، لكن في فترة الثمانينيات ثم التسعينيات ظهر جيل جديد يقدم موسيقى تعتمد في أغلبها على أصوات الآلات المصنعة، وأصوات الكورال الذي يعتمد على صوت المطرب نفسه بتنقية تسجيل المقطع الغنائي عدة مرات على قنوات صوتية متعددة يتخللها أحيانا تعدد تصويت (غناء المقطع الغنائي نفسه بأكثر من طبقة صوتية)، وعُرفت هذه الموجة من الغناء بموسيقى الجيل التي ظهرت تحديدا عام 1982 وأطلق عليها هذا الاسم رائدها وهو الليبي حميد الشاعري. (5)

    

    

قدمت موسيقى الجيل في تلك الفترة صوت المطرب الشعبي عبد الحكيم عبد الصمد كامل الشهير بحكيم، حيث التقى بحميد الشاعري عام 1989 وأنتج له أول ألبوماته وهو "نظرة" عام 1991 وحقق الألبوم نجاحا كبيرا، فكان حكيم هو حلقة الوصل بين الأغنية الحداثية الشعبية التي ظهرت منذ هزيمة يونيو/حزيران 1967 والأغنية ما بعد الحداثية التي ابتدأت من الثمانينيات وحتى بداية الألفينيات والتي اختلّت فيها الإيقاعات ومعايير الجمال الصوتي وانتشرت في المجتمع كله وكانت الممهدة لظهور فن المهرجانات.

        

ففي عصر الاستهلاك غير المرهون بمعايير قيمة ثقافية أو علمية والتي كانت قدوة يُحتذى بها في فترات ما قبل 67 في مصر، أصبحت الأغاني التي تسمعها شرائح الطبقة الوسطى العليا ومن فوقها هي نفسها الأغاني التي يسمعها سائقو الميكروباصات والتوكتوك، لأن الجميع خاضع لثقافة استهلاكية تتساوى فيها القيم (5)، بجانب أن الوضع السياسي للمجتمع المصري والوضع الاقتصادي والثقافي عزز من مفهوم القوة وأن الاستجابة المثلى لأي فعل اجتماعي هو العنف، فانتشر العنف في اللغة اليومية للناس، بجانب ثقافة السوق والربح السريع والغش والاحتيال والبحث عن الشهرة.

    

     

ظهرت مع بداية الألفية الثالثة مجموعة جديدة من المطربين الذين تروج أغانيهم للابتذال كاتجاه عام، مثل سعد الصغير، والمطربة الشعبية أمينة التي اشتهرت بأغنية "الحنطور"، والمطربة الشعبية ياسمين محمد شعبان الشهيرة ببوسي التي كان أول ظهور لها مع أغنية "آه يادنيا"، ثم المغني الشعبي محمود سمير الليثي الشهير بمحمود الليثي الذي كانت شهرته بظهوره في أفلام من إنتاج أحمد السبكي.

    

"والعامل المشترك بين جميع هؤلاء المغنين هو أنهم يغنون ويرقصون لدرجة تصل في الغالب إلى الابتذال، مثل سعد الصغير وبوسي في بعض الأغنيات، للفت الانتباه والهبوط بشكل المنتج الفني حتى إن كان مضمونه جيدا مثل أغنية "آه يادنيا"". (5) والمغني الشعبي المعاصر الذي وُجد في القرن الحادي والعشرين لا يعنيه أن يكون مغنيا أو ممثلا أو مقدم برامج، ولا يعنيه جودة المنتج الفني، وإنما الهدف الرئيس له هو الربح السريع، وتجميع الكم الأكبر من الأموال.

الأغنية الشبحية وظهور المهرجانات

مثلما يقسّم الفيلسوف أفلاطون العالم إلى مثال وصورة وصورة غير وفية تسمى الفانتازم أو الشبح، فهكذا تقارب د. ياسمين فراج بين تلك الحالة الشبحية والثقافة اليوم، فهي ثقافة متحررة من قيود الأصل، "هي كل شيء ولا شيء على حد السواء، لا تنتج إلا أطيافا من الرموز والعلامات، تعانق الإيهام وترصد الطيف فترده مرغما إلى واقع مرئي وسمعي من خلال وسائطها التقنية الحديثة".

    

       

تطلق د. ياسمين الفراج على المهرجانات لقب "الأغنية الشبحية"، وترجع سبب انتشارها الكبير بعد الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011 رغم ظهورها منذ عام 2002 في الأحياء الشعبية إلى عدة أسباب منها: انتشار الكمبيوتر الذي حدث مع حكومة أحمد نظيف، الحكومة الأخيرة في عهد مبارك، بجانب الارتفاع الكبير لنسب البطالة، والتطلع إلى الربح السريع، بسبب الرسائل الإعلامية التي تروج للرأسمالية المتوحشة وتعتمد على التسويق لمنتجات الأغنياء فقط طبقا لشروط المجتمعات الرأسمالية. (5)

  

وقد رسّخت وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والعالمية في ذهن المتلقي أن أفضل مهن للربح السريع هي المهن المرتبطة بالشهرة مثل مجالات الفن، الرياضة وتحديدا كرة القدم، البرامج التلفزيونية، وهذا ما جعل الكثير من الشرائح المجتمعية الدنيا من الطبقة المتوسطة والفقيرة يوظفون التكنولوجيا لصناعة أغنيات المهرجانات، التي باتت مصدر رزق كبير لأبناء هذه الطبقات.

    

     

لكن هناك بُعد آخر لظهور المهرجانات الشعبية، ففيما تكافح فرق البوب وفرق الروك البديل والموسيقى الشرقية وحتى المؤلفات المعاصرة جاهدة في سبيل إخفاء أي "شائبة" في صوت المطرب، وإخفاء العمل التقني الهائل اللازم لإنتاج صوت بشري أصلي مسجّل في إطار تعاون خفي بين الإنسان والآلة، تسعى موسيقى المهرجانات إلى إنتاج النقيض تماما، حيث تأتي المهرجانات ضد المعايير الجمالية السائدة للغناء، أصوات غير نقية، واضح جدا بداخلها استخدام برامج تصنيع الصوت، فكأنهم يفرضون معاييرهم الخاصة للجمال، وبينما عملت الموسيقى الشعبية على تغيير الذوق العام للمستمع العربي، تقدم المهرجانات انقلابا وسبا واضحا لهذا الذوق من الأصل واضعة بدلا منه لغة الشارع غير اللائقة. (6)

     

ورغم اعتماد فن المهرجانات على الغناء الجماعي والإيقاعات الراقصة المكررة، واعتماد جمل من أفلام وأغانٍ قديمة وإعادة صياغتها في نسيج شعبي خاص ببيئتهم، فإن فن المهرجانات هو تعبير عن واقع مأزوم، وتمرد على مؤسسات الدولة وعلى ما تفرضه من ثقافة، بل هو تمرد على المجتمع كله، بجانب شيوع الألفاظ العنيفة والعسكرية في كلمات المهرجانات والتي تشير إلى طبيعة بيئتهم التي يستشري فيها العنف بجانب التعبير عن طاقة هائلة تستعد للانفجار قريبا في وجه السلطة والمجتمع.

المصدر : الجزيرة