شعار قسم ميدان

أين تذهب مغامرات "بوتين" بالاقتصاد الروسي؟

putin

في عام 1978 اندلعت ثورة في أفغانستان على حكومة نور محمد تراقي، واتسعت رقعة الاحتجاجات حتى تحولت إلى حرب أهلية، طلبت الحكومة الأفغانية حينها من الاتحاد السوفيتي أن يتدخل مرارًا لقمع المعارضة بناءً على اتفاقية التعاون والصداقة الموقعة بين الطرفين، لتدخل القوات الروسية برًا وجوًا الأراضي الأفغانية في ديسمبر (كانون الأول) عام 1979، وتهاجم المناطق التي تسيطر عليها المعارضة الأفغانية المدعومة آنذاك من واشنطن والرياض ولندن. دمرت القوات السوفيتية كل شيء تقريبًا، البيوت والقرى والحقول والماشية، ما ولّد بغضًا كبيرًا لدى الشعب الأفغاني تجاه السوفييت، واستمر الاتحاد السوفيتي في قتاله ضد المعارضة، يغنم منهم ويغنمون منه لمدة عقد كامل.

 

قُدرت التكلفة الاقتصادية للحرب السوفيتية في أفغانستان بـأربعة إلى خمسة مليارات دولار عام 1985، وكان مستوى المعيشة داخل الاتحاد السوفيتي أقل بكثير مما عليه الوضع وقتها في أوروبا الشرقية والغرب، وعانت شعوب الاتحاد السوفيتي وخصوصًا في روسيا من مستويات فقر كبيرة، فهناك نقص دائم في الحصص الغذائية، وطوابير طويلة تقف على المخازن، والفقر المدقع يضرب معظم السكان. ولكن نظام الرئيس ميخائيل جوربتشوف اعتاد على التعامل مع أزمات أكبر من ذلك، دون التفريط في ذرة واحدة من قبضة الدولة على المجتمع والاقتصاد. فالظروف السياسية داخل الاتحاد كانت أقل ازعاجًا، مع تواصل 20 عامًا من القمع بلا هوادة وسجن المعارضين والتخلص منهم داخل المعسكرات والسجون، أو إجبارهم على الهجرة.

 

لم تكن هناك أية علامات على اتجاه الاقتصاد السوفيتي نحو كارثة، فالأمور بدت طبيعية بشكل كبير، والناتج المحلي الإجمالي من عام 1981 إلى عام 1985 كان ينمو بمعدل 1.9% سنويًا في المتوسط، رغم تباطؤه مقارنة بنموه في فترة الستينيات والسبعينيات، فإنه كان ينمو. هذا النمو الواهن استمر حتى عام 1989، بينما لم يكن عجز الموازنة السوفيتي أيضًا يشي بشيء كارثي فلم يتجاوز 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهبطت أسعار النفط بشكل حاد من 66 دولارا للبرميل عام 1980 إلى 20 دولارا عام 1986 ما شكل ضربة قوية للاقتصاد السوفيتي. كان هناك ركود واضح ومقلق، ولكنه كما أشار بيتر روتلاند الأستاذ في جامعة ويسليان "الأمراض المزمنة بعد كل شيء ليست بالضرورة قاتلة".. بشكل مفاجئ، في 26 ديسمبر (كانون الأول) عام 1991، قتلت الأمراض المزمنة الاتحاد السوفيتي وانهار بشكل مدوي لم يتوقعه أحد.

 

الاقتصاد الروسي الفتي
undefined 
 
الصفعة الأوروبية.. والركلة النفطية
حينما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم، وتدخلت في شرق أوكرانيا، أراد الأوروبيون والغرب أن يوجعوا الاقتصاد الروسي، وفي يوليو (تموز) لعام 2014 سُنّت عقوبات اقتصادية على روسيا من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وغيرهم من الحلفاء والشركاء بالتنسيق فيما بينهم.
 

undefined 

توقف فرض العقوبات على تطور الأوضاع داخل أوكرانيا وتحديدًا على تنفيذ البنود الواردة في اتفاقيات ميسنك الموقعة بعد ذلك بين جميع الأطراف، لذا كان من المقرر أن تنقضي العقوبات في يوليو (تموز) 2015 إلا أنه جرى تجديدها من قبل الدول الغربية، ثم جددت ثانية في ديسمبر (كانون الأول) 2015، وفي 15 ديسمبر (كانون الأول) 2016 اجتمع قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل وقرروا تمديد العقوبات من جديد لمدة ستة أشهر أخرى، أما عقوبات الولايات المتحدة وكندا فهي مستمرة دون أجل معين، وإن كان من المحتمل أن تُرفع من قبل واشنطن قريبًا بعد تولى دونالد ترامب الرئاسة، صاحب اللقب الشهير عالميًا (صديق بوتين).

 

لم يكد يستوعب الاقتصاد الروسي ما يحدث بسبب فرض العقوبات الغربية، إلا وقد تلقى ضربة جديدة من قبل أسعار النفط. يُصنف الاقتصاد الروسي بأنه اقتصاد ريعي مثل اقتصادات المملكة السعودية وفنزويلا وغيرها من الدول المعتمدة بشكل رئيس على النفط، لذا عندما تراجعت أسعاره بدءًا من يوليو (تموز) 2014، بعد أن وصلت قبلها إلى ما يقارب 110 دولار للبرميل، واستمر الهبوط إلى ما دون النصف، أثر ذلك على الإيرادات العامة الروسية، فعلى سبيل المثال كانت الإيرادات في النصف الأول من 2014 حوالي 97 مليار دولار من إمدادات النفط الخام، بينما بلغت هذه الإيرادات في النصف الأول من عام 2015 حوالي 56 مليار دولار فقط. ومن ثم بدأ الاقتصاد الروسي في الهبوط هو الآخر.


الاقتصاد الروسي يئن

"نعم، العقوبات أحدثت ضررًا، نحن لم ننكر ذلك. أنا أعني ضررًا اقتصاديًا. الشيء الأكثر إيلامًا، وهو ما أود أن أخصه بالذكر هنا، هو انخفاض الدخل الحقيقي للسكان، ونتيجة لذلك، حدث انخفاض في الطلب على السلع الاستهلاكية." – سيرجي إيفانوف، رئيس إدارة الكرملين، متحدثًا عن تأثير العقوبات الغربية على روسيا، في يوليو (تموز) 2015.
 
اتحدت العقوبات الغربية مع انهيار أسعار النفط في منتصف عام 2014 لتصنع معًا السهم الذي اخترق "كعب أخيل" للاقتصاد الروسي. فمثلما تسبب السهم في قتل أخيل البطل الأسطوري في الميثولوجيا الإغريقية، كادت العقوبات مع أسعار النفط أن تفعل. في خريف عام 2014 قدر وزير الاقتصاد الروسي أليكسي أليكاف أن التكاليف المباشرة للعقوبات المالية قد وصلت إلى حوالي 90 مليار دولار، أي حوالي 4.8% من الناتج المحلي الإجمالي للعام نفسه، وأكمل أن هذا المبلغ أيضًا هو الذي تحتاجه موسكو من أجل إعادة تمويل ديونها الخارجية، ثم في أغسطس (آب) 2015 مسح البنك المركزي الروسي تقييمَ الخسائر الناجمة عن العقوبات المالية الغربية وانخفاض أسعار النفط بين منتصف عامي 2014: 2016، فوجد أنها ستكون بين 4.2%، و4.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وتوقفت رؤوس الأموال عن التدفق إلى روسيا، وقررت الموجودة الخروج قبل تفاقم الأزمة، ومن ثم عجزت البنوك والمؤسسات الأخرى عن تمويل ديونها أو تمويل القروض.
 

والأمر الذي شكل إيلامًا لهذه المؤسسات بشكل أكبر، هو محدودية الفرص المتاحة أمامها للحصول على رؤوس أموال من جهات أخرى بعيدًا عن الغرب، فهناك قيود تقليدية خاصة بالأسواق الآسيوية، فكان التعاون معها في الماضي في نطاق ضيق للغاية، ولها طبيعة تحكمية بشكل أكبر من المؤسسات الغربية، كما أن نطاقها يظل ضيقًا مقارنة بالغرب، والشيء المؤثر بشكل أكبر هو أن هذه الأسواق تراعي هي الأخرى العقوبات الغربية، فعولمة التدفقات المالية تفرض هذه المراعاة. نتيجة ذلك كانت انخفاض مستوى إعادة تمويل الديون، فاضطرت جميع القطاعات إلى بيع الأصول الأجنبية للحصول على الأموال اللازمة لسداد ديونها، فعلى سبيل المثال في الربع الثالث من عام 2014 باع القطاع المصرفي أصولًا أجنبية بحوالي 30 مليار دولار، ولوحظ الأمر نفسه في القطاعات الأخرى.

 

لم تترك الحكومة الروسية مؤسساتها للانهيار رويدًا، فقدم البنك المركزي ووزارة المالية خطة أساسها مساعدة هذه المؤسسات على حساب الموازنة العامة، ومن ثم بدأ نزيف جديد للاحتياطات الأجنبية للدولة الروسية، فوصلت المساعدات من الدولة للقطاع المصرفي وحده بين نهاية عام 2014 وشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 نحو 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي، فظهر العجز في الموازنة، وأدى هذا الأمر إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، إذ انخفض في عام 2015 بنسبة 3.7% مرة واحدة. فبدأت بوادر ركود الاقتصاد الروسي بالكامل، مع عجز السوق المحلي على جذب رؤوس أموال أجنبية من الخارج.

undefined
وتمثلت الإشكالية في الدعم الحكومي أن الإيرادات العامة انخفضت هي الأخرى بسبب انخفاض أسعار النفط، ومع وصول سعر برميل النفط لـ30 دولارا فقط في يناير (كانون الثاني) من العام الماضي 2016، تفاقم عجز الموازنة العامة الروسية، واضطرها للجوء بشكل أكبر للاحتياطات الدولية.

 

مثلت العقوبات ضربة قوية لدور روسيا العالمي، دور يعد دعامة أساسية من دعائم النظام الروسي داخليًا، فاقدًا للكثير من التأثير والنفوذ. ومن ثم كان للقيصر الروسي فلاديمير بوتين الذي لا يحسن إدارة الأمور الاقتصادية كما يصفه البعض أن يبحث عن مخرج.

أما نزيف كعب أخيل على مستوى قطاع الطاقة الروسي المشمول بالعقوبات الدولية الضخمة، أثر سلبًا على حالة ميزانيتها، ومن ثم فرصها في تنفيذ مشاريع بنية تحتية متعلقة بالطاقة، وأول من رضخ للأمر الواقع هي مجموعة روسنفت، عملاق الطاقة الروسي الذي أعلن عن حاجته لتعديل ميزانيته الاستثمارية، وعدلها بالفعل في يوليو (تموز) 2014. وفي مارس (آذار) 2015 أعلن عن انخفاض نفقاته الاستثمارية بنسبة تصل إلى 30%، من 14 مليار دولار عام 2014 إلى 9.8 مليار دولار عام 2015.

 

أما نوفاتيك عملاق الغاز الروسي أعلن هو الآخر أن خططه الاستثمارية ستُعدّل في مارس (آذار) عام 2015، وخفّضت ميزانيتها لعام 2015 بنسبة 21%، وزادت التخفيض في عام 2016. ما يُظهر عنف الأزمة التي مرت بها المؤسسات والشركات الروسية جراء العقوبات الغربية مع انخفاض أسعار النفط، على سبيل المثال طلبت روسنفت من الحكومة الروسية تقديمَ دعم مالي بقيمة 1.5 تريليون روبل من صندوق الضمان الاجتماعي الوطني أي ما يعادل 45 مليار دولار في أغسطس (آب) 2014، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2014 ارتفع المبلغ ليصل إلى 2 تريليون روبل أو 60 مليار دولار، وكان هذا المبلغ يمثل أكثر من نصف أموال الصندوق. وفي مايو (آيار) 2015 أعلنت الشركة أنها تخطط لأخذ قرض مقداره 10 تريليون روبل من البنوك الروسية أي حوالي 300 مليار دولار.

 

 لا يفاقم تأخير الوصول لرؤوس الأموال بشكل مباشر من أوضاع المؤسسات السيئة فحسب، وإنما يؤخر أيضًا تنفيذ مشاريع البنية التحتية الروسية الكبرى، التي كان من المتوقع أن تبدأ في جلب الإيرادات، وخاصة في قطاع الغاز الطبيعي المسال الذي تعتمد عليه روسيا كثيرًا في إيراداتها العامة، مثل حقل الغاز يامال الا ان جي، المشروع الروسي الواعد في مجال الغاز المسال ذو القدرة الإنتاجية المقدرة بـ23 مليار متر مكعب من الغاز، فجرى إيقافه لعدم قدرة الأطراف المشاركة فيه على توقيع اتفاقيات قروض بسبب العقوبات الغربية على شركات الطاقة والبنوك التي كان من المفترض أن تساهم في تمويل المشروع. ومن الممكن أن تؤدي العقوبات إلى انسحاب الشركات الروسية من مشروعات بنية تحتية أيضًا مثل خطط بناء مصانع تسييل غاز وبتروكيماويات، ما دفع وزير الاقتصاد الروسي إلى التصريح بشكل واضح في مارس (آذار) 2015 أن مشروع بناء مصنع بيتروكيماويات لشركة روسنفت لن يكون له أولوية في منح الدعم من قبل صندوق الضمان الاجتماعي الوطني.

 

جعلت الردود الروسية على العقوبات الغربية (من حظر لواردات اللحوم والجبن والأسماك والخضروات والفاكهة ومنتجات الألبان من الدول المشاركة) الوضعَ أسوأ بكثير في روسيا، فلم تضر سوى المواطنين الروس أنفسهم، وأدت إلى تدهور خطير في الاستهلاك وارتفاع في معدلات التضخم، فكانت التدابير الروسية بمثابة عقوبات ضد السكان.

 

في عام 2015 بلغت ارتفاعات الأسعار للحوم ووالخضروات والفاكهة من 15 إلى 25%، ما أضر بالطبقات المتوسطة في روسيا حيث يصعب الحصول على منتجات بديلة محلية للمواد الغذائية المستوردة بأسعار مناسبة وبالجودة نفسها. على الناحية الأخرى لم يتأثر الاتحاد الأوروبي كثيرًا بالإجراءات الروسية، بل على العكس، ففي عام 2015 نمت صادرات الاتحاد الأوروبي إلى دول أخرى بمعدل 4.8%، وولد الضغط الاقتصادي حالة خانقة للاقتصاد والاستهلاك في روسيا شيئًا فشيئًا. صندوق النقد الدولي في 2015 قال إن العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي قد أدت إلى انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 1.5% ولكن إذا استمرت العقوبات لسنوات فسيرتفع الانخفاض ليصل إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي. وخلصت دراسة حديثة جرت من خلال فريق الخبراء الاقتصادي المكون من يافسي جارفيتش وإليا بريلابسكي، إلى أن روسيا سوف تخسر بين عامي 2014 و2017 بسبب العقوبات الغربية وانخفاض أسعار النفط، حوالي 600 مليار دولار. وسيصل هروب رؤوس الأموال خلال الفترة نفسها إلى 280 مليار دولار ثلاثة أرباعها بسبب العقوبات الغربية وحدها.

 

مثلت العقوبات ضربة قوية لدور روسيا العالمي، دور يعد دعامة أساسية من دعائم النظام الروسي داخليًا، فاقدًا للكثير من التأثير والنفوذ، ومن ثم كان للقيصر الروسي فلاديمير بوتين أن يبحث عن مخرج. بوتين الذي لا يحسن إدارة الأمور الاقتصادية كما يصفه البعض. في الأمور السياسية والعسكرية يبقى بوتين القوي، وإذا ما حلت الأمور الاقتصادية فالضعف هو سيد الموقف. التدهور الاقتصادي يحرج بوتين بشدة أمام شعبه، والأكثر من ذلك هو استمراره. نجح بوتين في بداية فرض العقوبات في تعبئة الرأي العام حول معاداة الغرب، ولكن الضغوط الاقتصادية تبدل وتحول المواقف.

 

في استطلاع للرأي تم في ديسمبر (كانون الأول) 2014 كان يعتقد 72% من الروس أن هدف العقوبات هو "إضعاف وإهانة روسيا"، ومن ثم كان الموقف العام هو الوقوف بجوار القيادة لمساندة العدوان الخارجي. وفي استطلاع آخر للرأي تم في أواخر 2015، تبين أن 74% لديهم مشكلات حقيقية بسبب العقوبات، و58% قلقون حول عزل روسيا دوليًا، ورأى 75% أن روسيا ينبغي عليها تطبيع العلاقات من جديد مع الغرب، وقال 62% إنهم لم يكونوا مستعدين لحدوث "تدهور كبير في نمط حياتهم" عجلته العقوبات المتبادلة بين روسيا والغرب. وتعني هذه الأرقام أن الروس لم يعودوا يتحملون فاتورة معاداة الغرب، وتثبت أن استعداد الروس لتقديم التضحيات قد لا يستمر لأجل غير مسمى، فرهان الكرملين على استمرار تقديم هذه التضحيات أصبح على المحك، واحتمالية تحوله قريبًا إلى غضب تجاه السلطات التي تسببت بأفعالها في الصعوبات الاقتصادية المستمرة يبدو مسألة وقت فقط.

 

هناك بعض الدول الأوروبية التي تضغط لرفع العقوبات عن روسيا مثل إيطاليا والمجر واليونان وسلوفاكيا، ولكن دون جدوى. وفي تجديد العقوبات الأخير الذي جرى في 15 ديسمبر (كانون الأول) 2016، طلبت إيطاليا وسلوفاكيا تخفيف العقوبات؛ لأنها تسببت في أضرار بمليارات اليوروات للمصدرين في الاتحاد الأوروبي، إلا أن الطلب لم يلق آذانًا أوروبية صاغية. بعد كل ذلك، كان على الرئيس الروسي أن يجد مخرجًا من الكماشة التي وضعها الغرب عليه.

 

بوتين "لقد وجدتها"
 
undefined

في خضم ثورات الربيع العربي في عام 2011؛ تندلع ثورة في سوريا على حكم الرئيس السوري بشار الأسد، وتتحول الاحتجاجات إلى حرب أهلية شاملة، ثم في نهاية شهر سبتمبر (أيلول) 2015 يطلب الرئيس السوري من نظيره الروسي المساعدة العسكرية لقمع المعارضة المسلحة، من ثم يمنح مجلس الشيوخ الروسي الإذن بتوجية ضربات جوية في سوريا، فتبدأ وزارة الدفاع في توجيه تلك الضربات، دون ذكر استراتيجية واضحة لعملياتها. فقط قالت موسكو إن الهجمات لضرب أهداف تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ"داعش".

 

هذه هي المرة الأولى التي تشن فيها روسيا عملًا عسكريًا كبيرًا خارج حدود الاتحاد السوفيتي السابق منذ نهاية الحرب الباردة. دمرت وحرقت القوات الروسية كل شيء خارج حدود سيطرة قوات النظام السوري. قتل للمدنيين وهدم للمباني والقرى وحرق للزروع والماشية. ما ولّد بغضًا كبيرًا لدى الشعب السوري المناهض للنظام تجاه القوات الروسية.

 

أراد بوتين أن يعيد روسيا من جديد كقوة عظمى على الساحة العالمية، وأراد استعادة النفوذ والتأثير الذي فقده بسبب العقوبات الغربية، إضافة إلى استعراض القوة والإمكانات الكبيرة التي وصلت إليها روسيا على صعيد التسليح، من خلال استخدام أنواع جديدة من الأسلحة الحديثة، وأراد كسر العزلة الدولية التي فرضها عليه الغرب، والأهم أنه امتلك ورقة رابحة في مواجهة الغرب، فالتدخل الروسي في سوريا أدى لتهجير الملايين إلى الدول المجاورة وعلى رأسها تركيا، ومن ثم ولّد ضغطًا غير مسبوق على الأوروبيين بسبب تدفق اللاجئين والمهاجرين رسميًا وبطريقة غير شرعية. فيضان بشري أوله سوريا ووسطه تركيا وآخره دول الاتحاد الأوروبي. وبالفعل خلقت روسيا لأوروبا أكبر أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية.

 

التكاليف الاقتصادية للحرب في سوريا

undefined

"بالطبع تطلبت العملية العسكرية في سوريا تكاليف معينة، ولكن معظمها جرى توفيره من قبل وزارة الدفاع، من أموال وزارة الدفاع المدرجة في ميزانيتها لعام 2015 المخصصة لإجراء مناورات وتدريبات قتالية والبالغة حوالي 33 مليار روبل (حوالي 478 مليون دولار). لقد أعدنا توجيه هذه الموارد المالية لتمويل الوحدات (الروسية) في سوريا.. بعد العملية في سوريا هناك حاجة لمصاريف إضافية لسد النقص في الذخيرة وإصلاح المعدات.. هذه التكاليف مبررة وضرورية" الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، متحدثًا حول التكاليف الاقتصادية للعمليات الروسية في سوريا، في 17 مارس (آذار) 2016.

 

هكذا إذن هي تكاليف العمليات كما حددها الرئيس الروسي، 478 مليون دولار فقط. ولكن العديد من الجهات المتخصصة في الشؤون العسكرية قالت إن العمليات تكلفت أكثر من ذلك بكثير. فصحيفة آر بي كى ديلي الروسية قالت إن العمليات الروسية في سوريا منذ بدايتها وحتى تاريخ 16 مارس (آذار) 2016 تكلفت 38 مليار روبل أي 550 مليون دولار. وإذا كانت العمليات العسكرية تكلف أربعة ملايين دولار يوميًا وفقًا لشركة جينز أي إتش إس، فإن تكلفة العمليات العسكرية من 30 سبتمبر (أيلول) 2015 بداية العمليات إلى 17 مارس (آذار) وهو تاريخ إعلان الرئيس الروسي سحب بعض القوات الروسية من سوريا، هي حوالي 660 مليون دولار حتى الآن.

 

لماذا لم ينهار الاقتصاد الروسي حتى الآن؟
 
undefined

يوضح سيرجي اليكساشنكو، النائب الأول السابق لمحافظ البنك المركزي الروسي والنائب السابق لوزير المالية الروسي، في مجلة ذا إنترناشيونال إنترست الأمريكية في الأول من يوليو (تموز) من عامنا الحالي 2016، سِرَّ صمود الاقتصاد الروسي وعدم انهياره رغم الصعوبات الكبيرة التي يواجهها. فيقول إن الخبراء كانوا يتوقعون في أوائل عام 2015 تراجعا في الاقتصاد الروسي بمعدل من 8 إلى 10%، بسبب انهيار الروبل، وانخفاض الإيرادات العامة للدولة بسبب انخفاض أسعار النفط، وهروب رؤوس الأموال بسبب العقوبات الغربية، ومع ذلك لم يحدث أي شيء من هذا القبيل.

 

ويرجع ذلك لثلاثة أسباب رئيسة هي: الأول، أن القاعدة في الاقتصاد الروسي هي إنتاج وتصدير المواد الخام والسلع. فعلى عكس الأزمة المالية العالمية في 2008، 2009، فإنه ليس هناك أزمة في الاقتصاد العالمي، والمستهلك الرئيس للمواد الخام الروسية (أوروبا والصين والشرق الأوسط) مستمرون في النمو الاقتصادي، وإن كان ذلك بشكل غير متساو. فلم يكن هناك أي انخفاض في الطلب على المواد الخام الروسية هذه المرة، على عكس ما حدث قبل ست سنوات. وعلاوة على ذلك، فالمنتج الرئيس للصادرات الروسية، وهي المنتجات النفطية والمكررة، قد سجلت زيادة طفيفة في الإنتاج والتصدير كذلك. الزيادة في أسعار النفط الذي يستفيد منه قطاع الطاقة في روسيا، يعود بالفائدة على الموازنة الروسية أيضًا من خلال زيادة حصيلة الضرائب، والعكس بالعكس. علاوة على ذلك، فقد استفادت جميع الصناعات الموجهة للتصدير من انخفاض قيمة الروبل، ومن سياسة الحكومة تجميد الأجور في القطاع العام، فانخفض ضغط العمال من أجل رفع الأجور. وقد سمح كل ذلك لقطاع المواد الخام من الحفاظ على الإنتاج والحفاظ على الاستثمارات اللازمة.

 

ثانيًا، بحلول عام 2015، أطلقت الحكومة الروسية برنامجا مكثفا لتمويل المشتريات العسكرية المتقدمة وإعادة الاستثمار في الصناعات الدفاعية، والتي هي أساسا مملوكة للدولة. وبناء على ذلك، فقد نما إنتاج الصناعات العسكرية بنسبة من 15 إلى 20% سنويًا، والنمو نفسه استمر في 2016. هذا النمو السريع في الصناعة العسكرية من الواضح أنه أفاد العديد من القطاعات الصناعية الأخرى، ومنع التدهور في الصناعة ككل.

 

ثالثًا، بفضل الإصلاحات في التسعينيات، أصبح الاقتصاد الروسي سوقًا واحدة، بمعنى أنه يميل للتوازن بفعل معدل صرف الروبل المعوم تعويمًا حرًا. فعلينا الاعتراف أن السلطات الروسية لم تلجأ فقط لتثبيت أسعار الصرف بسبب انهيار الروبل، وإنما الفكرة لم تكن مطروحة من الأساس. ونتيجة لذلك، كان الاقتصاد قادرًا على التكيف بسرعة مع الصدمات سواء الخارجية مثل تراجع أسعار النفط وانخفاض قيمة الروبل بمقدار 50%، أو الداخلية كفرض حظر على واردات الغذاء من الدول الغربية. على الرغم من التأثيرات الكبيرة لهذا الحظر، مثل ارتفاع معدل التضخم إلى 17% في ربيع عام 2015، وانخفاض مستوى الاستهلاك الخاص بمعدل 10%، وانخفاض الواردات بنسبة 40%.

 

في العام 2010 كانت سوريا تنتج 385 ألف برميل من النفط يوميًا، وبدأ الإنتاج يقل رويدًا رويدًا مع احتدام الحرب الأهلية. تمتلك سوريا العديد من حقول النفط، أبرزها يوجد في مناطق دير الزور، والحسكة، والرقة، وتدمر، وبانياس. كانت معظمها يقع في قبضة تنظيم الدولة، والبعض الآخر تحت سيطرة القوات الموالية للنظام السوري، وعدد منها في قبضة المعارضة. ولكن منذ بدأت روسيا عملياتها العسكرية في سوريا لمساندة القوات النظامية، بدأت تسيطر الأخيرة على مناطق تابعة لتنظيم الدولة والمعارضة، ويومًا بعد يوم تستعيد السيطرة على باقي المناطق التي تحتوي على آبار النفط.

في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) من عامنا الحالي 2016، ذكرت وكالة الأنباء الإيطالية آكي، نقلًا عن مصادر في مدينة اللاذقية بسوريا أن "القوات الروسية استولت تقريبًا على مصفاة بانياس"، وأن نظام الأسد "أخلى بناءً إداريًا من جميع موظفيه وموجوداته، وسلمه للروس، حيث يقيم به الآن ضباط وتقنيون روس، يشرفون بالإضافة إلى مهامهم العسكرية على كل ما يتعلق بالمصفاة وتشغيلها وإيراداتها وخطط عملها، وحتى القرارات الإدارية فيها دون أن يحتكوا بالعمال والموظفين"، وأكدت الوكالة أن الشركة السورية لنقل النفط التي تتخذ من المصفاة مقرًا لها: "باتت مربوطة بالقرار الروسي أيضًا، ولا يحق للإدارة التصرف دون إذن خطي مُسبق من الخبراء الروس".

مصفاة بانياس هي من أكبر المصافي في سوريا إن لم تكن أكبرها على الإطلاق، ويوجد بالمدينة الساحلية بانياس الميناء النفطي الوحيد في سوريا، ولن تكون مصفاة بانياس الأولى ولا الأخيرة. ومن ثم فيبدو أن القيصر الروسي يتطلع إلى تمويل جزء من عملياته العسكرية في سوريا وتقليل خسائره الاقتصادية من خلال النفط السوري، ولن يمانع النظام السوري في مهادنة الحليف الرئيس الذي يشكل الضمانة الأساسية لبقائه ووجوده. ولكن هل يدعه تنظيم الدولة الإسلامية، والمعارضة السورية ينتفع بالهدية؟   

 

جوربتشوف وبوتين.. ذرية بعضها من بعض
 
مر أكثر من عام على التدخل الروسي في سوريا، ومع ذلك لم يبد الاتحاد الأوروبي والغرب أي بوادر للتراجع عن العقوبات التي فرضتها على روسيا، حتى في الوقت القريب. الاقتصاد الروسي دخل في شرك الركود العميق.

undefined

في ظل استمرار الظروف السابقة لوقت أطول، فلن يصمد كعب أخيل طويلًا، ومن غير المستبعد أن نستيقظ في يوم من الأيام لنجده مقتولًا على قارعة الطريق، أو منهارًا بشكل يضاهي الانهيار الذي حدث عام 1991.          
المصدر : الجزيرة