شعار قسم ميدان

المصرية للاتصالات.. خطة حكومة السيسي لابتلاع سوق الشبكات

ميدان - المصرية للاتصالات

لا تبدأ القصة منذ أسابيع قليلة عندما أعلنت "الشركة المصرية للاتصالات"، على لسان رئيسها التنفيذي أحمد البحيري، عن إطلاق الشبكة الرابعة للهواتف المحمولة العاملة في مصر باستثمارات مليارية كما جاء في حديثه، وإنما بدأ الأمر قبل ذلك بسنوات في إطار معارك نفوذ متتالية لم يصل منها للعامة إلا نزر يسير.

في شهر (أبريل/نيسان) عام 2014 عقدت وزارة الاتصالات المصرية، المسؤول الرسمي عن تنظيم قطاع الاتصالات المحلي، "مؤتمرًا عالميًّا" لإطلاق ما عُرف وقتها بمشروع "الرخصة الموحّدة". قُرر للرخصة أن تتيح لشركات المحمول الثلاث "موبينيل" (أورانج الآن)، و"فودافون مصر"، و"اتصالات مصر" تقديم خدمات الهاتف الأرضي، وبالمقابل تُمنح "الشركة المصرية للاتصالات" حق تقديم خدمات الهاتف المحمول.

وتضمن المؤتمر أيضا الإعلان عن كيان جديد للبنية التحتية للاتصالات في مصر، دون الخوض في تفاصيل ذلك الكيان (1). وبعد ذلك بأيام أصدر مجلس الوزراء قرارا بتشكيل لجنة برئاسة وزير الاتصالات حينها المهندس عاطف حلمي بهدف وضع خطوات إنشاء ذلك الكيان، وحدد له اختصاصه بإنشاء ومد الكابلات وشبكات الفايبر وكل ما يتعلق بالبنية الأساسية المحلية للاتصالات بطول الجمهورية وعرضها، ثم بيع تلك الخدمات لشركات الاتصالات العاملة، ما عنى سيطرته على رئتي أحد أهم الأسواق شديدة الربحية بالداخل المصري.
 

بعد مرور بضعة أشهر بدأت ملامح الكيان الجديد بالوضوح، فأعلنت وزارة الاتصالات أن الجهاز/الشركة الجديد سيقام بمشاركة وزارة الدفاع المصرية وجهات حكومية أخرى، بالإضافة لشركات الهواتف المحمولة الثلاث، و"الشركة المصرية للاتصالات"، وقدمت وزارة الاتصالات بقيادة "حلمي" مسودة التأسيس الأولى للشركة، محددا نسب المساهمين بـ 30% لوزارة الدفاع و30% للوزارات الأخرى، بينما تساهم شركات الاتصالات الأربع بنسبة 40%، مع منح شركات المحمول الثلاثة حقوق ملكية راسخة في أصول الشركة القادمة، وتسميتها بـ "الشركة الوطنية للبنية التحتية للاتصالات".
 

 عاطف حلمي وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات السابق (يناير 2013 - مارس 2015) (رويترز)
 عاطف حلمي وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات السابق (يناير 2013 – مارس 2015) (رويترز)

كان تسلسل الأحداث سريعا، وبعد أشهر قليلة من كشف نسب المسودة، وفي (مارس/آذار) لعام 2015 تمت الإطاحة بـعاطف حلمي خلال تعديل وزاري محدود أجراه الرئيس ذو الخلفية العسكرية عبد الفتاح السيسي (2)، وهو التعديل الشهير الذي أُطيح فيه بوزير الداخلية محمد إبراهيم أيضا. وكان للأمر أن يمر بلا غرابة لولا إجراء وزارة الدفاع، بعدها بفترة قليلة وتحديدا في (مايو/أيار)، تعديلات موسعة على مسودة وزارة حلمي، ألغى بموجبها الجيش معظم ما ورد في المسودة، ورفع حصته في التعديلات لتصل إلى 60% من أسهم المشروع المستقبلي، و20% لجهات حكومية تحددها وزارة الدفاع أيضا، مع منح ثلاثي الاتصالات المحمولة المحلّي الـ 20% الباقية فقط.

 
لم تكتفِ وَزارة الدفاع بذلك، وإنما ضمنت تعديلاتها عدم امتلاك ثلاثي الاتصالات أو "الشركة المصرية" أي حقوق ملكية بالأصول، واقتصار مد وإنشاء كابلات الاتصالات على شركات الجيش فقط، وتعيين لواء من القوات المسلحة رئيسا لمجلس إدارة الشركة، ومنع الاستفادة من أراضي القوات المسلحة في مدّ وإنشاء الكابلات إلا بشروط معينة، وبمقابل مادي تحدّده وتحصّله وزارة الدفاع (3).

 
عنت الشروط سيطرة الجيش الكاملة على البنية التحتية للاتصالات في مصر بالكامل، ما دفع ثلاثي الاتصالات إلى التراجع سريعا عن مشاركتهم في الكيان، ومن ثم تراجعت وزارة الاتصالات عن التأسيس وكذا تم التراجع عن طرح الرخصة الموحدة كاملة (4)، ما عنى أن الأمر يتطلب خطة أكثر دقّة وإحكامًا للفوز بصراع نفوذ سوق الاتصالات المصري، ما بدأ بالتحقق بعدها بأعوام بالفعل وبشكل مختلف.
 

ألعاب "مصرية"
 المصرية للاتصالات (رويترز)
 المصرية للاتصالات (رويترز)

 
مثّلت الرخصة الرابعة للهاتف المحمول أحد أكثر فصول الصراع دراماتيكية في قطاع الاتصالات المصري، صراع طويل بدأته "الشركة المصرية للاتصالات" منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي. فبالعودة إلى ما قبل عقدين وتحديدا في عام 1996 بدأت "الشركة المصرية للاتصالات" المعروفة آنذاك بـ "الهيئة القومية للاتصالات السلكية واللاسلكية" بتقديم خدمات المحمول في مصر على نطاق ضيق لأول مرة، بجانب عملها المعتاد في توفير خدمات التليفون الأرضي وبوابات المكالمات الدولية كوسيلة الاتصال الأساسية حينها.
 

كان إطلاق يد القطاع الخاص لالتهام أصول الاتصال المصرية إحدى السمات المميزة لعقد التسعينيات، بعد اشتراط الولايات المتحدة والمؤسسات المالية الدولية على النظام المصري تطبيق برنامج إصلاح اقتصادي وتكيف هيكلي لإنقاذها من الإفلاس نهاية عقد الثمانينيات، حتى أتى عام 1998 وقرر النظام المصري تحرير قطاع خدمات المحمول ضمن ظاهرة "تحرير اقتصادية" اجتاحت مصر وقتها.
 

مُنحت الرخصة الأولى للمحمول لكيان خاص مكوّن من تحالف دولي ضم شركة "فودافون" البريطانية، وشركة "آيرتوتش" الأميركية قبل اندماجها مع شركة "فودافون" فيما بعد، ومستثمرين مصريين مقابل ما يزيد بقليل على نصف مليار دولار، وليطلق على الشركة اسم "مصر-فون" (5). وفيما بدا وكأنه امتصاص أرباح اللعبة للنهاية قام النظام المصري بتحويل الهيئة القومية للاتصالات إلى شركة مساهمة مصرية في نفس العام تحت مسمى "الشركة المصرية للاتصالات"، ولم ينته العام إلا وقد تم نزع خدمات المحمول كاملة من الشركة المساهمة الجديدة، ليتم بيعها في صورة رخصة ثانية لتحالف مكوّن من شركة "أوراسكوم" للاتصالات لصاحبها نجيب ساويرس، وشركة الاتصالات الفرنسية "فرانس تليكوم"، لتصبح "موبينيل" ثاني الثلاثي الشهير مقابل نفس ثمن الرخصة الأولى أيضا (6)، ومن ثم اقتصرت خدمات "المصرية للاتصالات" على الهاتف الثابت والمكالمات الدولية.

 

عام 2006، قامت المصرية للاتصالات بالاستحواذ على حصة أخرى بلغت 23.5%، لتبلغ حصتها الكلية في
عام 2006، قامت المصرية للاتصالات بالاستحواذ على حصة أخرى بلغت 23.5%، لتبلغ حصتها الكلية في "فودافون" 49%، وبدا أن "المصرية" تتجه بخطوات واضحة إلى استحواذ غالب على "فودافون" في مصر
 

في عام 2003 أتت بداية عودة "المصرية للاتصالات" إلى ملعب نفوذ الشبكات، حين حصلت على ترخيص جديد وتردد اتصالات بلغ 1800 ميغا هيرتز، لكنّ عملاقي الهاتف قاما بالضغط في اتجاه آخر، لتتنازل "المصرية" عن الترخيص الجديد والتردد، وتسترد قيمتهما البالغة 2 مليار جنيه آنذاك، بفوائدهم، على أقساط لمدة عشر سنوات تدفعها "فودافون" و"موبينيل"، ومليار ثالث يُدفع للجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، الذي كان يترأسه أحمد نظيف قبل توليه رئاسة الوزراء في العام التالي، مع استحواذ "المصرية" على حصة في "فودافون مصر" بلغت 25.5% (7).

عقب فشلها في اقتناص الرخصة الثالثة من "اتصالات الإمارات"، لجأت "المصرية للاتصالات" إلى تبني إستراتيجية جديدة، وهي زيادة استحواذها القائم بالفعل في الشركة الأكبر بالسوق المصري "فودافون"، فقامت عام 2006، وهو نفس عام خسارتها للرخصة الثالثة، بالاستحواذ على حصة أخرى بلغت 23.5%، لتبلغ حصتها الكلية في "فودافون" 49% (12)، وبدا أن "المصرية" تتجه بخطوات واضحة إلى استحواذ غالب على "فودافون" في مصر، مما دعى "فودافون" الأم إلى ممارسة ضغوط على الحكومة المصرية، لتبيع "المصرية" 5% من حصتها بعدها بعدة أيام فقط لينخفض إجمالي الحصة إلى 45%، ثم تستمر الأمور على ما هي عليه حتى ثورة (يناير/كانون الثاني) عام 2011.
 

حرب "الرابعة"

بعد ثورة (يناير/كانون الثاني) يمكن رسم المشهد في قطاع الاتصالات في طريقين فقط: ثلاثي هواتف محمولة "موبينيل" و"فودافون مصر" و"اتصالات مصر" في تنافس عاتٍ لا يجمعه إلا هدف واحد رئيس هو منع أي منح مستقبلي للرخصة الرابعة لـ "المصرية للاتصالات"، وصعود سريع لوزارة الدفاع المصرية في قطاع الاتصالات المصري كاملا، وهما طريقان سيتقاطعان فيما بعد مع بدء سقوط حرس السوق القدامى.
 

في 2014، قام أحد عمالقة الأعمال المصريين نجيب ساويرس، المتحكم الرئيس في
في 2014، قام أحد عمالقة الأعمال المصريين نجيب ساويرس، المتحكم الرئيس في "موبينيل" وقتها، بتشبيه منح الرخصة الرابعة للمحمول لـ "المصرية للاتصالات" بـ "كارثة اقتصادية
 

بدأت معركة النفوذ منذ نهاية عام 2012 عندما صدرت مخاطبات رسمية من الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات تقضي بقرب منح "المصرية" الرخصة الرابعة، لكنها ظلت مجرد مخاطبات حتى بداية عام 2014، بسبب نجاح شركات المحمول الثلاث في العامين المذكورين بالضغط من أجل منع صدور الرخصة الرابعة. ففي عام 2013 قامت شركة "فودافون" العالمية بإرسال خطاب شديد اللهجة، نشرت نسخة منه في صحيفة "الوطن" المحلية المقربة من النظام المصري، لوزراء الاتصالات والصناعة والتجارة الخارجية، لإيقاف إصدار رخصة المحمول الرابعة لـ "المصرية".

وفي (أكتوبر/تشرين الأول) للعام التالي 2014 قامت صحيفة "المصري اليوم"، المحلية والمحسوبة على النظام المصري أيضا، بنشر خطاب مسرب موجه من قِبَل شركة "اتصالات مصر" إلى "جهة سيادية"، حد تعبير الصحيفة، يطالبها بمنع صدور الرخصة الرابعة للمحمول و"مساندة استثمارات الشركة في السوق المصري" (14)، كما استغلت الشركة الأم "اتصالات الإمارات" المساعدات الإماراتية المليارية لنظام ما بعد الثالث من (يوليو/تموز) 2013 بقيادة السيسي للضغط من أجل وقف طرح رخصة المحمول الرابعة (15).
 

لم يقتصر الأمر على "فودافون" و"اتصالات" فقط، وإنما قام أحد عمالقة الأعمال المصريين نجيب ساويرس، المتحكم الرئيس في "موبينيل" وقتها، بتشبيه منح الرخصة الرابعة للمحمول لـ "المصرية للاتصالات" بـ "كارثة اقتصادية ستصبح أسوأ من كارثة شركة فوسفات أبو طرطور" في نفس شهر تسريب خطاب "اتصالات مصر" أيضا (16)، مشيرا إلى خسارة مصر مليارات الجنيهات بسبب منجم فوسفات "أبو طرطور"، كما قامت الشركات الثلاث بالتلويح في كل مناسبة باللجوء إلى التحكيم الدولي حال منح المصرية الرخصة الرابعة بالأمر المباشر (17).
 

في نفس الشهر الحيوي (أكتوبر/تشرين الأول) 2014 خرجت أنباء مما سُمّي بـ "مصادر مطلعة" داخل وزارة الاتصالات المصرية عن مقترح يجري دراسته ببيع حصة "الشركة المصرية للاتصالات" البالغة 45% في "فودافون" لجهة سيادية بداعي "الحفاظ على حصة الدولة في الشركة ولدواعي الأمن القومي" (18)، ومَثَّلَ توالي الأخبار والتسريبات وضغوط المعركة ملامح مشهد السوق القادم ودور النفوذ الحكومي للنظام المصري الجديد فيه، لذا شهد العام التالي مباشرة 2015 سقوط أحد أعمدة السوق الرئيسة، وقام ساويرس ببيع كامل حصة شركته "أوراسكوم للاتصالات" في "موبينيل" بشكل تدريجي حتى نهاية العام لصالح "أورانج" الفرنسية، "فرانس تليكوم" سابقا، مقابل 7.4 مليار جنيه تقريبا (19)، في انسحاب واضح ودلالة مستقبلية شبه مؤكدة على ملامح واتجاهات السيطرة المتوقعة.

 

ثم كانت "وي"

undefined

أوضح مشروع "الرخصة الموحدة" حماسة وزارة الدفاع المصرية لإقراره ومن ثم إنشاء كيان يسيطر على البنية التحتية بشكل شبه كامل، خاصة مع تدخلها بشكل مفاجئ في (أكتوبر/تشرين الأول) لعام 2014 لحل الخلافات المذكورة سلفا بين لاعبي سوق الاتصالات المصري وبين "المصرية للاتصالات" خلال مفاوضات إطلاق الرخصة الموحدة تمهيدا لتفعيلها، وقررت الوزارة عقد سلسلة من الاجتماعات مع جميع أطراف الخلاف للتوصل إلى حلول نهائية، على أن تكون توصياتها الصادرة بمنزلة "قرارات نهائية مُلزمة" (20)، لكنّ رفض الثلاثي وإلغاء مشروع الرخصة على أثره في 2015 جعل الوزارة تستعيد مسارا قديما للواجهة مرة أخرى.
 

في (يونيو/حزيران) للعام الماضي 2016 وبشكل مفاجئ تلقت "المصرية للاتصالات" خطابا من الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات يفيد بحقها في الحصول على ترخيص لتقديم خدمات الجيل الرابع للمحمول (21). وفي نهاية (أغسطس/آب) من نفس العام تم منح المصرية الرخصة الرابعة للهواتف المحمولة بشكل رسمي، بالإضافة إلى ترددات الجيل الرابع، مقابل 7.08 مليار جنيه، تسدد منها الشركة 5.2 مليار جنيه بشكل فوري ويودع المتبقي بعد عام، مع منحها ترددا جديدا يعمل لأول مرة بمصر وهو تردد "700 ميغا هيرتز" ليكسبها ميزة تغطية مضاعفة من حيث المساحة الجغرافية (22)، لتطلق "الشركة المصرية للاتصالات" خدمة المحمول للجمهور في 18 (سبتمبر/أيلول) الماضي تحت اسم "وي" (We) مسجلة اسمها كرابع شركة محمول عاملة في مصر، وأول مشغل متكامل لخدمات الاتصالات محليا بفضل تقديمها لخدمات الهاتف الأرضي والإنترنت والهواتف المحمولة (23).
 

بعد الإعلان طفت على السطح أسئلة عديدة أبرزها عن كيفية تقديم "المصرية" خدمات الشبكة الرابعة دون وجود بنية تحتية خاصة بها بالفعل، ويقتضي جواب ذلك التساؤل إيضاح هيكل البنية التحتية للاتصالات في الداخل المصري بشكل مختصر.

 

قبل إطلاق
قبل إطلاق "المصرية" لـ "وي" قررت استخدام محطات وشبكات الشركات الثلاث الأخرى لصنع شبكتها الرابعة بموجب اتفاقية سميت بـ "التجوال المحلي".  (المصرية للاتصالات)

 
تمتلك "المصرية للاتصالات" منذ إنشائها بنية تحتية حصرية خاصة بالهاتف الأرضي والبوابة الدولية، وتقوم بتأجيرها لشركات المحمول الثلاث بالإضافة إلى شركات الإنترنت الخاصة مثل شركة "نور"، مقابل إيرادات مجتمعة تقدر بمليار جنيه تقريبا في العام الواحد، وهو مبلغ يمثل 20% من إيرادات "المصرية" السنوية، بحيث يمكن للشركات المذكورة تقديم خدمات الإنترنت فائق السرعة "ADSL" عن طريق تمرير البيانات في كابلات خطوط الهاتف الأرضي.
 

على الجانب الآخر تمتلك شركات المحمول الثلاث أبراجا وشبكات خاصة بكل واحدة منهن تقدم بها خدمات الهواتف المحمولة كاملة كاتصالات وكإنترنت، بعدد محطات إجمالي يصل إلى 25 ألف محطة تقريبا بطول مصر وعرضها توفر الخدمة لمستخدمي الثلاثي (24). لذا قبل إطلاق "المصرية" لـ "وي" قررت استخدام محطات وشبكات الشركات الثلاث الأخرى لصنع شبكتها الرابعة بموجب اتفاقية سميت بـ "التجوال المحلي".
 

نتيجةً لكون الرخصة الرابعة للمحمول أصبحت أمرا واقع قُبيل إطلاقها وافق الثلاثي على تأجير شبكاته لـ "المصرية" مقابل رسوم سنوية عن طريق الاتفاقية، وحتى لا تمنع الأخيرة بنيتها التحتية عن الشركات حال وضعهم أي عراقيل بأي شكل، فمثلا تبلغ اتفاقية "التجوال المحلي" بين شركة "أورانج" و"المصرية للاتصالات" 2.5 مليار جنيه لمدة خمس سنوات (25)، لتلعب "المصرية" بذلك دور تاجر يبتاع خدمات الهاتف الجوال من الشركات الثلاث ثم يبيعها للعملاء، لحين بناء غير مؤكد لشبكة خاصة به، وهو أسلوب إدارة أعمال يشبه بشدة أسلوب الجيش المصري في تسيير كثير من أنشطة إمبراطوريته الاقتصادية.

 

قبضة "التدخل الحكومي"

بالنظر لسيناريوهات "وي" المحتملة المستقبلية يبرز أمامنا طريقان هما الأكثر احتمالا لاتباعهما من قِبَل "المصرية"، وليس بينهما على الأرجح استمرار تجديد اتفاقية "التجوال المحلي" مع دفع رسوم مليارية متواصلة لكل شركة. يأتي الطريق الأول بتبني سياسة القيمة المضافة، ما يعني استغلال أرباح الشركة الهائلة المتوقعة في تأسيس بنية تحتية حديثة ومتطورة خاصة بها بعيدا عن شبكات الشركات الأخرى، ما يعني إضافة حقيقية إلى الناتج المحلي المصري. أما السيناريو الآخر، والمرجح حدوثه، فهو قائم على سياسة الاستحواذ على أصول موجودة بالفعل بأسعار أقل من قيمتها، ومن ثم عدم توليد قيمة اقتصادية فعلية.

undefined

    
تمتلك "المصرية للاتصالات" سابقة شهيرة ترجح السيناريو الثاني بشكل كبير، ففي أواخر عام 2001 قامت "المصرية" بالاستحواذ الكامل على شركة نقل البيانات "جيجا نت" المعروفة فيما بعد بـ "تي إي داتا" (26). وقبيل عملية الاستحواذ كانت "جيجا نت" كيانا رائدا بين مزودي خدمات الإنترنت العاملين في مصر وقتها، والبالغين 52 مزودا في القاهرة وحدها، وتميزت باستخدامها لاتصال مباشر من خلال قناة خاصة بسرعة 4 ميغابايت في الثانية مرتبط بالولايات المتحدة، في حين تنقل المزودات الأخرى بياناتها عبر قنوات مشتركة بسرعات أقل (27).

 
 وبعد الاستحواذ وإدخال تقنية الإنترنت عالي السرعة "أيه دي إس إل" (ADSL)، قامت "تي إي داتا" بما يشبه الهيمنة على سوق الإنترنت المصري لتصل إلى التحكم في نسبة 75% منه بشكل فعلي حاليا، مع توقعات برفع تلك النسبة إلى 80%، وترك حصة 20% لشركات الإنترنت الأربع الأخرى "لينك، وفودافون، واتصالات، ونور" (28)، لتخلق تلك الإستراتيجية شبه غياب تام للتنافسية مع ترد واضح في خدمات قطاع الإنترنت المصري.

ومن ثم فالتوجه الأقرب لنمط عمل "المصرية"، لا سيما في ظل التزاماتها المالية الضخمة، هو الاستحواذ على أصول قائمة بالفعل، ويعني ذلك استحواذ مرجح على محطات أحد أضلاع ثلاثي المحمول المصري، دون عناء بناء شبكة خاصة رابعة جديدة قد تكلفها أكثر من 15 مليار جنيه، ووقت قد يمتد إلى أربع سنوات حتى اكتمالها (29). وبتتبع مسار أداء شركات المحمول الثلاث في السوق المصري خلال الأعوام الخمسة الماضية، يتضح أن شركة "أورانج" هي الشركة الوحيدة الخاسرة على مدار تلك الفترة، باستثناء عام 2015، ما يجعلها الهدف الأقرب لـ "المصرية".
  

خسائر موبينيل.
خسائر موبينيل. " مصادر الإنفوغراف: (30) & (31) & (32) & (33) " (الجزيرة)

  
تبلغ القيمة السوقية لـ "أورانج" حوالي 12.7 مليار جنيه، وعند بيع الأصول يجري التفاوض غالبا على سعر أسهم أعلى من سعر التداول وقتها، فعند بيع حصة شركة "أوراسكوم للاتصالات" في "موبينيل" لـ "فرانس تيليكوم" بلغ تقدير سعر السهم حوالي ثلاثة أضعاف سعر التداول يومها، وفي نهاية المطاف فالأمر متروك للقدرات التفاوضية التي يحملها طرفا البيع والشراء. 

 

بوضع ما سبق في الاعتبار فإن سيناريو استحواذ "المصرية" المحتمل قد يكون مختلفا، فبجانب اكتساب المصرية قدرات تفاوضية نافذة خلال ثلاثة الأعوام الماضية كُلّلت بمنحها الرخصة الرابعة، وهي قدرات ربما يشوبها تدخل حكومي، تظهر تلك القدرات المفاجئة بشكل أكبر حينما شرعت "المصرية" في أكبر عملية تغيير لبنيتها التحتية لخطوط الهاتف الثابت من الكابلات النحاسية إلى ألياف ضوئية "فايبر" تتحمل سرعات إنترنت فائقة (34).

 
كان من الطبيعي أن تستخدم الشركات الثلاث خطوط الفايبر الجديدة بدلا من كابلات النحاس، لكن الثلاثي فوجئ بضربة تجارية موجعة جاءت قبيل الرخصة الرابعة، إذ قصرت "المصرية" استخدام كابلات الفايبر ومن ثم تقديم خدمات الإنترنت السريعة على "تي إي داتا" التابعة لها فقط، بينما توقفت خدمات الإنترنت للشركات الأخرى على الكابلات النحاسية، وبالتالي تم ما يشبه إجبار عملاء الشركات الأخرى على التحويل إلى "تي إي داتا" في عملية "احتكار" صريحة لخدمات الإنترنت المصرية (35)، وهي عملية دفعت جهاز حماية المنافسة المصري الرسمي نفسه في (أبريل/نيسان) للعام الماضي 2016 إلى اتهام "المصرية للاتصالات" بالموافقة على تقرير ورد فيه احتكار "المصرية" لخدمات الإنترنت الثابت بالفعل (36).
 

برغم ذلك استمرت سياسة "المصرية" حتى استطاعت تحجيم حصة الشركات الأخرى في سوق الإنترنت الثابت المصري كاملا إلى أقل من 30% فقط، ما تسبب في كثير من الخسائر لتلك الشركات، وبنفس السلطة التي استعملتها "الشركة المصرية للاتصالات" في احتكار الإنترنت الثابت دون رادع قانوني، فمن المحتمل وبشدة قدرتها على التفاوض، بنفوذ مدعوم حكوميا، على الاستحواذ على "أورانج" عند مستويات تقترب من حدود التداول الحالي وبلا زيادات حقيقية.

 
بدأت الحكاية بسوق ضعيف البنية، ثم انفتاح ليبرالي، ثم تدخل حكومي مع تصاعد مفاجئ للجيش المصري في سوق الاتصالات، وهو تصاعد ترافق مع صعود نظام ما بعد الثالث من (يوليو/تموز) العسكري، وتمر حاليا بشبكة رابعة وقصة استحواذ ربما ستمر بنفس طريق "جيجا نت" كاملا، وربما تنتهي بعملية استحواذ تاريخية لـ "المصرية" على "أورانج" لتصبح الأخيرة بمنزلة باب الأولى الذهبي للانفراد بسوق الهواتف المحمولة المصري كثيف الربحية، ومع قبضة التدخل الحكومي ممثلة في القوات المسلحة والنظام المصري عسكري البنية تبدو نهاية الحكاية محتملة الحدوث ربما بشكل أكبر بكثير مما يتوقع الجميع.

المصدر : الجزيرة