شعار قسم ميدان

من الاستعمار البريطاني إلى صندوق النقد.. تعرف على رحلة انهيار الجنيه المصري

مقدمة التقرير:

صباح اليوم الخميس، 27 أكتوبر/تشرين الأول 2022، أعلن البنك المركزي المصري أنه قرر تحرير سعر صرف قيمة الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية بشكل كامل لقوى العرض والطلب في إطار نظام سعر صرف مرن، وهو ما تسبب على الفور في انخفاض الجنيه المصري إلى أدنى قيمة في تاريخه ليُتداول عند مستوى 22.7 جنيه لكل دولار في تلك اللحظة، في تكرار لما حدث قبل ست سنوات تقريبا، حين قررت الحكومة في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 تحرير سعر الصرف لتنخفض قيمة الجنيه ساعتها من 9 جنيهات إلى 19 جنيها مقابل الدولار. لذلك، نُعيد نشر تلك السلسلة التي أعددناها سابقا في "ميدان" وتتبع رحلة الجنيه أمام الدولار من التحدي إلى الركوع.

 

نص التقرير:

في مساء يوم الاثنين 17 يناير/كانون الثاني 1977، وقف عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء المصري للشؤون المالية والاقتصادية، ليُلقي خطابا أمام مجلس الشعب المصري حينها؛ بدأه بإلقاء بيان الموازنة العامة الجديدة، ثم أعلن فجأة عن اتخاذ قرارات اقتصادية صادمة، قال عنها حينها إنها "حاسمة وضرورية"، وتهدف إلى خفض العجز في ميزان المدفوعات، ومن ثم استقرار سعر صرف الجنيه أمام الدولار، وبالتالي تقليل عجز الموازنة العامة، وذلك حتى تستطيع مصر إبرام اتفاق مع صندوق النقد والبنك الدوليين لتدبير موارد مالية كافية.

 

كان ضمن تلك القرارات رفع الدعم عن مجموعة من السلع الأساسية، وصلت إلى 30 سلعة ضرورية لحياة المصريين، مثل الخبز والسكر والأرز وزيت الطهي والشاي والبنزين واللحوم، وذلك بنسب وصلت إلى 50%. قرارات لم تكن لتمر مرور الكرام بأي شكل، لتخرج في صباح اليوم الثاني للشوارع جحافل من العمال، كانوا بمنزلة شرارة أشعلت النيران المحلية، لينضم إليهم بعدها مباشرة طلبة الجامعات وجميع طوائف المجتمع البسيطة بطول البلاد وعرضها، يهتفون ضد الجوع والفقر، ليُشكِّلوا ما عُرف بعدها شعبيا بـ"انتفاضة الخبز"، بينما عُرفت رسميا على لسان الرئيس المصري حينها، محمد أنور السادات، بـ"ثورة الحرامية"، بينما يبدو مسرح التاريخ متفرغا هذه الأيام لإعادة المشهد نفسه مرة أخرى.

أزمة الخبز في 2013 (رويترز)
أزمة الخبز في 2013 (رويترز)

 

البداية

"لقد كان الاقتصاد المصري كبقرة ترعى في أرض مصر، ولكن ضروعها كانت كلها تحلب خارج مصر".

(عبد الجليل العمري، متحدثا عن حالة الاقتصاد المصري قبل ثورة عام 1952)

ولَّدَت الحقبة الاستعمارية الإنجليزية لمصر تبعية نقدية ومصرفية بوصفها جزءا من التبعية الكاملة، فكان الجنيه المصري تابعا للإسترليني حتى انتهت الحرب العالمية الثانية وأفل نجم بريطانيا العظمى، ولم يكن لمصر قبل الحرب العالمية الثانية أي نظام رقابة على النقد، بينما تم تحديد ارتباط الجنيه المصري بالإسترليني بسعر صرف ثابت وهو 97.5 قرشا لكل جنيه إسترليني، وكان تحديدا لا يُعبِّر عن قوة أو ضعف الاقتصاد المصري الكلي آنذاك، فلم تكن تتوفر لمصر رفاهية سلوك مسارات مستقلة تتحدد على أساسها قوة أو ضعف العملة المحلية، وإنما هي مستعمرة إنجليزية، تُحْسِن بريطانيا إدارة مواردها من أجل استمرار إدرار خيرات "البقرة" دون انقطاع.

 

وبينما كان من بين صلاحيات البنك الأهلي المصري، المنشأ عام 1898، إصدار البنكنوت، فإنه لم يمتلك أي صلاحيات رقابية نقدية أو ائتمانية لسيطرة المصالح الأجنبية عليه، فرأس ماله وإدارته وأهدافه كانت تخدم الأجانب، أما بقية البنوك فكانت تتعامل مع الخارج مباشرة، وكانت عملية إصدار البنكنوت والغطاء النقدي تخضعان في الأصل لبنك لندن، المتحكم الأساسي في البنك الأهلي المصري؛ إلى أن تمت أول محاولة للاستقلال النقدي بخروج مصر من منطقة الإسترليني، وفرض الرقابة على الجنيه الإسترليني نفسه، بمعنى أنه أصبح عملة أجنبية لمصر عام 1947، وأصبح الإصدار النقدي يخضع لرقابة حكومية مصرية منذ ذلك الحين.

 

يمكن القول إن أهمية الجنيه المصري وقوته بين العملات العالمية في تلك الحقبة لم تكونا ناشئتين عن قوة الاقتصاد المصري نفسه كما يدَّعي البعض، فالمستعمر الإنجليزي كان شغله الشاغل هو امتصاص ما يجود به هذا الاقتصاد وتحويله إلى بريطانيا، حتى بلغت مستويات الفقر درجة وصل معها أن نحو 40% من الشعب المصري خلال تلك الفترة كان يسير حافي القدمين، وإنما اكتسب الجنيه المصري هذه القوة نتيجة تبعيته للجنيه الإسترليني عملة بريطانيا العظمى.

 

جاءت الحرب العالمية الثانية لتُشكِّل نقطة تحوُّل كبرى لكلٍّ من الاقتصاد المصري والأميركي على حدٍّ سواء. أما عن الولايات المتحدة، فبينما كانت الطائرات الألمانية تدك الأراضي الأوروبية بما فيها بريطانيا، والدمار والخراب يُخيمان على اقتصادات القوات المتصارعة جميعا خلا الأراضي الأميركية، كانت النهضة الاقتصادية الأميركية العالمية قد بدأت في التبلور لتحل محل الهيمنة البريطانية، من خلال ارتفاع صادراتها، بدءا من المواد الغذائية ومرورا بالصناعات التحويلية، ووصولا إلى الصناعات العسكرية، وبدأت الولايات المتحدة في التعافي من الكساد الكبير الذي كاد أن يُعيدها إلى مستويات دول العالم الثالث، بينما صاحب هذه النهضة القائمة على أنقاض الحرب العالمية الثانية ارتفاع قيمة الدولار، وزيادة الإقبال عليه دوليا.

قدرت الخارجية الأمريكية الدين البريطاني لمصر في 1950 بحوالي مليار دولار، ومن ثم ساعدت هذه الأرصدة على استغناء مصر عن اللجوء للاستدانة عقب ثورة يوليو 1952
قدَّرت الخارجية الأميركية الدين البريطاني لمصر في 1950 بنحو مليار دولار، ومن ثم ساعدت هذه الأرصدة على استغناء مصر عن اللجوء للاستدانة عقب ثورة يوليو 1952 (رويترز)

أما عن الاقتصاد المصري، فقد ساعدت الحرب العالمية الثانية مصر على التحرر من الاستعمار البريطاني منهك القوى بفعل القتال العالمي، كما أدت إلى تراكم أرصدة إسترلينية لمصر على بريطانيا، مع مديونيات أخرى بسبب صادرات مصرية قامت بريطانيا بأخذها عنوة من مصر دون سداد قيمتها، حتى إن وزارة الخارجية الأميركية قدَّرت الدين البريطاني لمصر في 24 فبراير/شباط 1950 بنحو مليار دولار، ومن ثم ساعدت هذه الأرصدة على استغناء مصر عن اللجوء للاستدانة عقب ثورة يوليو 1952.

 

اختبار الجنيه

نظريا، يؤثر على قيمة العملة المحلية أمام العملات الأخرى من الداخل ثلاثة متغيرات رئيسة؛ هي ميزان المدفوعات، والدين السيادي، والاحتياطيات الأجنبية. فميزان المدفوعات، الذي يضم الميزان التجاري، وهو مقدار الفرق بين قيمة الصادرات وقيمة الواردات، يؤثر بشكل مباشر في قيمة العملة المحلية، وفائض الميزان التجاري يعني أن قيمة الصادرات أكبر من قيمة الواردات، وأن النقد الأجنبي الذي يدخل حدود الدولة أكبر من النقد الأجنبي الخارج منها، وبالتالي فإن توافر النقد الأجنبي وانسيابية تدفقه يقللان من طلب الدولة على العملة الأجنبية، ومن ثم تعزيز قيمة العملة المحلية.

 

يحدث العكس حينما نجد عجزا في الميزان التجاري، أو أن تصبح قيمة الواردات أكبر من قيمة الصادرات، وبالتالي يرتفع الطلب على العملة الأجنبية لتغطية هذا العجز، مما يؤدي إلى ارتفاع قيمتها أمام العملة المحلية. وغالبا ما يحمل فائض الميزان التجاري في طياته زيادة في النمو الاقتصادي، أما الدين السيادي أو الدين الذي يلزم الوفاء به بالعملة الأجنبية وليست المحلية، فكلما زاد حجم هذا الدين؛ ارتفع حجم مبالغ الفائدة عليه، بالإضافة إلى أقساط الدين نفسه، ما يُشكِّل معا الحربة التي تخترق جدار العملة المحلية، لأن الدولة تضطر لتوفير العملة الأجنبية لتسديد تلك الديون، سواء بمزيد من الاقتراض أو باللجوء إلى الاحتياطي النقدي، وفي جميع الأحوال ترتفع قيمة العملة الأجنبية مقابل المحلية نتيجة ارتفاع الطلب من قِبَل الدولة على النقد الأجنبي.

 

أما الاحتياطي النقدي فيؤثر بشكل غير مباشر على قيمة العملة المحلية، فوجود احتياطي نقدي كبير يُعَدُّ ضمانة قوية لقدرة الدولة على توفير النقد الأجنبي في أي لحظة، ومن ثم تنعكس تلك القدرة على قوة العملة المحلية، لذا يتناسب حجم الاحتياطي النقدي طرديا مع درجة التصنيف الائتماني للدولة، فكلما زاد الاحتياطي النقدي، ارتفعت درجة تصنيف الدولة ائتمانيا، ومن ثم تستطيع إذا ما رغبت في الاقتراض أن تقترض بأسعار فائدة قليلة، وبالتالي تنخفض خدمة دين هذا القرض، ما يرفع في نهاية المطاف من قيمة العملة المحلية.

 

وبخلاف هذه العوامل التي تؤثر على قيمة العملة، هناك عامل آخر خارجي يغفل عنه الكثيرون؛ هو قوة العملة الأجنبية نفسها، وهي الدولار الأميركي في هذه الحالة، ففي أنظمة سعر الصرف المرن، تكون العملة المحلية عبارة عن مرآة لاقتصاد الدولة؛ تضعف بضعف هذا الاقتصاد وتقوى بقوته. وقيمة العملة هي حلقة من الحلقات التي تدور في فلك الاقتصاد، تؤثر وتتأثر بجميع المعطيات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى.

 

في عام 1958 كان الدين الخارجي لمصر بالعملة الأجنبية صفرا تقريبا، إذ إن الالتزامات التي ولَّدت ديونا، رغم ضآلتها، كان سدادها بالعملة المحلية بدلا من الدولار الأميركي أو الجنيه الإسترليني. كما أن عبد الناصر ورفاقه، في السنوات الستة التالية لثورة يوليو 1952، لم ينشغلوا بالتنمية الاقتصادية بقدر انشغالهم بتثبيت أصول الحكم، ومن ثم كان الهدف الرئيس هو تحقيق الاستقرار السياسي، وأدى ذلك إلى استهلاك مصر لمعظم احتياطاتها الأجنبية.

undefined

ورغم المؤشرات الاقتصادية المتماسكة في تلك الفترة، بسبب تواضع جهود التنمية المبذولة من قِبَل النظام الجديد، واعتماده على الاستثمارات الخاصة، سواء الوطنية منها أو الأجنبية في دفع التنمية الاقتصادية، ومن ثم لم يُشكِّل الاستثمار العام أي ضغوط على تلك المؤشرات وعلى رأسها ميزان المدفوعات، لكن الاحتياطات الأجنبية قد تراجعت بشكل كبير بسبب تداعيات تأميم قناة السويس، والهبوط الحاد في أسعار القطن عالميا، حتى وصلت تلك الأصول إلى ما قيمته 114 مليون جنيه، وهو رقم يغطي تكلفة ستة أشهر من الواردات السلعية، بعد أن كان 270 مليون جنيه في نهاية 1954. كما ارتفع الصافي الذي على مصر في اتفاقيات الدفع من 11 مليون جنيه في نهاية عام 1954 إلى 37 مليون جنيه بنهاية شهر يونيو/حزيران 1959.

 

وبطبيعة الحال تأثرت قيمة الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي الصاعد بقوة، بسبب انخفاض حجم الاحتياطيات وزيادة مديونية اتفاقيات الدفع، وإن كانت عبارة عن مديونيات واجبة السداد بالجنيه المصري وليس العملة الأجنبية.

 

التأميم

ذلك المشهد تغيَّر تماما بعد عام 1959 وحتى نكسة عام 1967، فشهدت هذه الفترة تحركا اقتصاديا مكثفا، وتغييرا هيكليا كبيرا في نسيج الاقتصاد المصري. ثورة اقتصادية جادة بدَّلت المشهد الاقتصادي برُمَّته، وربما كانت تلك هي الفترة الوحيدة التي يمكن أن نطلق عليها "العصر الاقتصادي الذهبي" لمصر من بين الفترات اللاحقة حتى الآن. فبعد أن اكتشف عبد الناصر عجز القطاع الخاص -المتأثر بالاستعمار البريطاني وسيطرة رأس المال الأجنبي عليه- عن تلبية طموحات الدولة الناشئة، بدأ على الفور في إعادة هيكلة القطاع العام، ليضع يده على مفاصل الاقتصاد المصري برُمَّته، حتى أضحت تلك الفترة من أكثر فترات التخطيط المركزي التي شهدها الاقتصاد المصري في تاريخه، أو ما يمكن تسميته "عنفوان الاشتراكية القومية وتدخل الدولة"، فأبرز الإنجازات الناصرية في المجال الاقتصادي العالقة في الأذهان كانت قد حدثت في تلك الفترة.

 

أدت سياسة التأميمات التي انتهجتها الدولة حينها إلى سيطرة القطاع العام على معظم عناصر الحياة الاقتصادية، وخضعت الصناعات المتوسطة والكبيرة الحجم، ومشروعات البنية التحتية، والإنتاج الزراعي، والنظام التأميني والمصرفي للملكية العامة، وأُنشئ البنك المركزي المصري عام 1960 ليُحكِم الرقابة على الجهاز المصرفي برُمَّته، ولتخضع له جميع البنوك التجارية والخاصة.

 

وجنى الاقتصاد المصري فوائد تنظيم الفوضى الاقتصادية التي كانت سائدة قبل ذلك، وفوائد إعادة توزيع القطاعات الاقتصادية. فارتفع النمو الاقتصادي إلى 6% في المتوسط سنويا بسبب ارتفاع معدل الاستثمار، وارتفع مستوى الدخل الحقيقي للفرد بأكثر من 3% سنويا.

 

ولكن ذلك الاندفاع الاقتصادي الطموح، وربما المتسرع، كان على حساب اختلال وتفاقم عجز ميزان المدفوعات، ومن ثم ظهرت الحاجة إلى الاستدانة من جديد. فزيادة معدل الاستثمار إلى تلك المستويات كان يتطلب زيادة الواردات من السلع الرأسمالية والوسيطة الداخلة في عملية الإنتاج، كما أدَّت زيادة توزيع الدخول إلى زيادة معدلات شراء السلع الاستهلاكية أيضا، ومن ثم ارتفعت قيمة الواردات عموما. ومع الإنفاق الحكومي الكبير، والإنفاق العسكري الضخم على حرب اليمن، تفاقم عجز ميزان المدفوعات، للدرجة التي لم تستطع الزيادة الكبيرة في قيمة الصادرات السلعية، أو إيرادات النقد الأجنبي المرتفعة -جراء تأميم قناة السويس- أن تواكب ارتفاع قيمة الواردات، ومن ثم جاءت الحاجة إلى النقد الأجنبي. حتى إن عجز ميزان المعاملات التجارية في الفترة من 1959-1966 زاد بثلاثة أضعاف ما كان عليه في الفترة من 1952-1958.

 

ورغم أن مصر في بداية تلك الفترة كان لا يزال لديها أرصدة إسترلينية بمقدار 80 مليون جنيه إسترليني، فإنها لم تكن كافية أيضا لتلبية الزيادة المطردة في الاستهلاك الخاص والحكومي، بالإضافة إلى وجود المزيد من الأعباء الأخرى مثل دفع تعويضات عمليات التأميم على الممتلكات الأجنبية، خاصة لحملة أسهم قناة السويس المؤمَّمة، ودفع تعويضات للسودان عن غرق بعض المساحات من أراضيها أثناء بناء السد العالي. وما زاد الأمور تفاقما هو تقديم مصر قروضا ومساعدات لبعض الدول العربية والأفريقية.

undefined

النكسة

حدثت نكسة عام 1967، لكنها لم تكن نكسة حربية فقط، ولكن كانت اقتصادية كذلك، حيث كانت السبب الرئيس في انتهاء تلك الحقبة التنموية على ما فيها من سلبيات، كما كانت انتكاسا لمسار التجربة برُمَّتها، لينحدر الاقتصاد المصري إلى مستويات غير مسبوقة، ولتبدأ مرحلة جديدة من الركود المميت الذي امتد من النكسة إلى منتصف السبعينيات تقريبا.

 

فمع بداية حرب 1967 انخفضت موارد مصر من النقد الأجنبي انخفاضا شديدا، مع ارتفاع تكاليف الإنفاق العسكري، وفقدت مصر آبار البترول في سيناء، وتم تخريب معامل تكرير البترول في السويس، وأغلقت قناة السويس نفسها وهي التي كانت تُدر ما لا يقل عن 20 مليون دولار سنويا في المتوسط في الفترة السابقة على عام النكسة، وانخفضت إيرادات السياحة المصرية التي كانت تُدر -هي الأخرى- ما لا يقل عن 13 مليون دولار في المتوسط سنويا.

 

وانقطعت المعونات الغربية المساهمة -ولو قليلا- في زيادة مستويات الاستثمار في السنوات السابقة، وزاد العبءَ الإنفاقُ على تهجير سكان مدن القناة، وما زاد من تفاقم الأمر حلول موعد أقساط الديون السابقة التي زادت من 56 مليون دولار إلى 240 مليون دولار وجب سدادها في العام الواحد، حيث بلغ إجمالي المديونية السيادية بجميع أنواعها، المدنية والعسكرية، وطويلة ومتوسطة وقصيرة الأجل، بنهاية شهر ديسمبر /كانون الأول 1971 نحو خمسة مليارات دولار. ومن ثم ارتفع عجز ميزان المدفوعات بنسبة 86% في فترة ما بين النكسة والانتصار بالمقارنة بالفترة التي سبقتها. وانخفض النمو الاقتصادي إلى 2% تقريبا، بما لا يتناسب مع الزيادة السكانية الكبيرة التي حدثت في تلك الفترة.

يعد تدهور الإنتاج الزراعي مسئولية مركبة يشترك فيها التدهور الاقتصادي أواخر عقد الستينيات، بسبب تراجع الاستثمارات التي كانت تستطيع وحدها زيادة الإنتاج
يعد تدهور الإنتاج الزراعي مسئولية مركبة يشترك فيها التدهور الاقتصادي أواخر عقد الستينيات، بسبب تراجع الاستثمارات التي كانت تستطيع وحدها زيادة الإنتاج (رويترز)

من الممكن تقسيم "الحقبة الساداتية" وتأثيرها في انخفاض أو ارتفاع الجنيه المصري إلى قسمين: النصف الأول من عقد السبعينيات، والنصف الثاني. فالنصف الأول شهد خللا هيكليا في الميزان التجاري، فرغم زيادة الصادرات المصرية خلال تلك الفترة مقارنة بالنصف الثاني من عقد الستينيات، فإن زيادة مقدار الواردات كانت أكبر بكثير، حيث زادت بمقدار 350%. وتراجع الإنتاج الزراعي أو لم يستطع مواكبة الزيادة السكانية، كما تراجعت أسعار القطن عالميا، مما أدى إلى تراجع قيمة تلك الصادرات، بينما ارتفعت بشدة أسعار القمح الذي كان يُشكِّل نسبة كبيرة من الواردات.

 

ويُعَدُّ تدهور الإنتاج الزراعي مسؤولية مركبة يشترك فيها التدهور الاقتصادي أواخر عقد الستينيات، بسبب تراجع الاستثمارات التي كانت تستطيع وحدها زيادة الإنتاج، ومن ثم تحقيق اكتفاء أو على الأقل تقليل معدلات استيراد القمح. ونتيجة لهذا الخلل في الميزان التجاري ارتفعت المديونية بشكل كبير في تلك الفترة، مع ارتفاع الإنفاق العسكري، وتوجيه جميع موارد الدولة نحو التعبئة العسكرية. وارتفعت المديونية المصرية الخارجية من 1.8 مليار دولار أواخر عقد الستينيات حتى وصلت إلى 6.3 مليارات دولار عام 1975.

 

ونتيجة لارتفاع الدين الخارجي المصري، وزيادة التزامات خدمة الدين بسبب كثرة اللجوء إلى الاقتراض قصير الأجل ذي أسعار الفائدة التي تجاوزت في بعض الأحيان 14%، وتفاقم عجز ميزان المدفوعات، انخفضت قيمة الجنيه المصري بقوة في تلك الفترة، ففي عام 1971 لم يتغير سعر الصرف كثيرا عن نهاية الحقبة الناصرية، إذ بلغ 43 قرشا لكل دولار أو 2.3 دولار لكل جنيه وفقا لتقرير البنك الدولي. وربما يرجع ثبات قيمة الجنيه أمام الدولار أواخر فترة الستينيات وبداية السبعينيات -رغم التدهور الاقتصادي المصري البين- إلى تراجع الدولار الأميركي بعد فك الارتباط بينه وبين الذهب. كما انتهج البنك المركزي المصري سياسة سعر الصرف الثابت مع الدولار في بداية السبعينيات.

undefined

 

جحيم الانفتاح

في النصف الثاني من عقد السبعينيات، أو مرحلة ما أُطلق عليه "الانفتاح الاقتصادي"، غُرس الاقتصاد المصري في المزيد من الديون الخارجية، حتى بلغت تلك الديون مستويات غير مسبوقة، للدرجة التي عجزت مصر معها عن الوفاء ببعض خدمة هذه الديون، وتوقفت بالفعل عن تسديد بعض أقساط الديون المستحقة في تلك الفترة، حيث بلغت تلك المديونية طويلة ومتوسطة الأجل فقط عام 1975 نحو 4.8 مليارات دولار، لترتفع عام 1977 إلى 8.1 مليارات دولار، وتصل في نهاية الحقبة الساداتية عام 1981 إلى 14.3 مليار دولار.

 

ويمكن تفسير ارتفاع الديون بهذا الشكل الصارخ بالعودة إلى تفاقم عجز الميزان التجاري بسبب ارتفاع الواردات، بعد فتح باب الاستيراد على مصراعيه دون رقيب أو حسيب، ودون تهيئة لحالة الاقتصاد غير المجهز لاستقبال تلك التغييرات، حتى ارتفعت قيمة الواردات السلعية في الفترة من 1977 إلى 1981 من 1.8 مليار جنيه إلى 6.1 مليارات جنيه، أي بمقدار أربعة أضعاف تقريبا. في حين لم تستطع الصادرات أن تُجاري هذا الطوفان، وهو ما شكَّل ضغطا غير مسبوق على ميزان المدفوعات، وبالتالي المزيد من الاستدانة.

 

ومن ثم كان طبيعيا أن يأتي في تقرير البنك الدولي المعنون بـ"التطورات الاقتصادية الأخيرة ومتطلبات رأس المال الخارجي لجمهورية مصر العربية"، والصادر في ديسمبر /كانون الأول 1980، أن سعر صرف الجنيه المصري انخفض أمام الدولار الأميركي بنسبة كبيرة بلغت 70 قرشا للدولار تقريبا أو 1.43 دولار للجنيه.

 

تولى محمد حسني مبارك الحكم بعد اغتيال السادات في ظل ظروف اقتصادية سيئة، فبعد الاغتيال تراجعت مصادر تدفق النقد الأجنبي بصورة كبيرة، وضربت حالة من الركود الاقتصاد المصري، الأمر الذي أثَّر على قيمة الصادرات المصرية، وارتفعت خدمة الديون بسبب المديونية الكبيرة التي مُني بها الاقتصاد في نهاية عصر السادات، كما أن المنح التي كانت تُقدِّمها الدول العربية لمصر توقفت بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل بنهاية عقد السبعينيات.

 

ومن ثم كان من الضروري انتهاج سياسة اقتصادية مغايرة تماما لما كان عليه الاقتصاد المصري قبل تولي مبارك السلطة، وعلى رأسها التحكم والسيطرة على الواردات من أجل تقليل عجز الميزان التجاري، وعدم اللجوء إلى الاقتراض إلا بهدف ضخ استثمارات ذات مردود اقتصادي أكبر من سعر الفائدة على تلك القروض، وتذليل العقبات أمام الإنتاج الزراعي؛ لتقليل الواردات الضرورية مثل القمح، وزيادة الصادرات من محصول القطن، أو استغلال الموارد الذاتية الاستغلالَ الأمثل.

هوى الجنيه المصري أمام الدولار إلى مستويات قياسية؛ فوفقًا لتقرير البنك الدولي "الموقف الاقتصادي الحالي وبرنامج الإصلاح الاقتصادي لمصر" والصادر في 1986
هوى الجنيه المصري أمام الدولار إلى مستويات قياسية، وفقا لتقرير البنك الدولي "الموقف الاقتصادي الحالي وبرنامج الإصلاح الاقتصادي لمصر" الصادر في 1986(رويترز)

لكن ما حدث لا يعدو استمرارا للسياسة الاقتصادية نفسها المتبعة قبل ذلك، وهي الاعتماد على الاقتراض الخارجي من أجل زيادة الاستثمارات، وعدم تقييد الواردات. وبدا أن مسلسل التسرع الاقتصادي مستمرٌ بالعرض دون مراجعة، ليستمر معه عجز ميزان المدفوعات حتى ارتفع من 1.7 مليار دولار بداية حكم مبارك إلى 2.5 مليار دولار عام 1986، ومع نقص تدفق النقد الأجنبي، كان لا بد من الاستدانة من جديد لتغطية هذا العجز، ليتجاوز معدل الدين الخارجي تركة الديون التي تركها السادات، ويمكن اعتبارها رفاهية كبيرة مقارنة بما وصل إليه حجم الدين الخارجي في منتصف الثمانينيات، إذ بلغ إجمالي المديونية الخارجية بجميع أنواعها نحو 45 مليار دولار عام 1986.

 

من ثم هوى الجنيه المصري أمام الدولار إلى مستويات قياسية، فوفقا لتقرير البنك الدولي "الموقف الاقتصادي الحالي وبرنامج الإصلاح الاقتصادي لمصر" الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 1986، وصل سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار إلى 93 قرشا للدولار بنهاية عام 1985.

 

وفي عام 1986 شهدت مصر أزمة اقتصادية عنيفة؛ نتيجة تراكم أخطاء السياسة الاقتصادية في الماضي، والذي عجَّل بانفجار تلك الأزمة هو انهيار أسعار النفط، حتى انخفضت إلى ما دون 50% بين شهرَيْ يناير/كانون الثاني ويونيو/حزيران 1986. وتراجعت إيرادات السياحة بالمقدار نفسه في الفترة نفسها، فإيرادات مصر من البترول كانت تُشكِّل ركيزة أساسية من ركائز تدفق النقد الأجنبي، ومن ثم كان من المتوقع أن تنخفض إيرادات قناة السويس هي الأخرى بسبب تراجع معدل التبادل التجاري العالمي على النفط. كما تراجعت تحويلات المصريين العاملين في الخارج بسبب انخفاض أسعار النفط، مما أثر على البلدان التي يعملون فيها.

 

الإفلاس المحتمل

كان لا بد للمديونية أن ترتفع بشكل أكبر، ولكن هذه المرة كانت مصر قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس، لولا حدوث بعض التغيرات على الساحة العالمية أنقذتها من الفخ.

undefined

وإذ وصلت المديونية المصرية عام 1990 إلى مستويات حد الإفلاس قبل الحرب الخليجية؛ فلا بد أن ينعكس ذلك على قيمة الجنيه المصري أمام الدولار. ولكن كان ذلك التأثير استثنائيا أيضا، فهو العام الذي تجاوز فيه الدولار الجنيه المصري لأول مرة في التاريخ. فالعام 1989 بلغ سعر صرف الجنيه 83 قرشا للدولار، وفي عام 1990 انخفض الجنيه المصري بمقدار النصف تقريبا ليسجل 1.5 جنيه لكل دولار. ومن هنا يبدأ فاصل تاريخي جديد، يشهد بدايات هيمنة الدولار الأميركي على الجنيه المصري لأول مرة.

المصدر : الجزيرة