شعار قسم ميدان

بين إسطنبول والقاهرة.. كيف يشكل العنف رعبًا للاقتصاد؟

ميدان - هجمات باريس

مرتديًا سترة بسيطة ذات لونين نبيذي ورمادي تناسب عقده الرابع من العمر، وبوجه ممزوج بالقلق والترقب، يقف بائع الكعك "نسيم جليك" بجانب عربته في شارع الاستقلال، أشهر شوارع العاصمة الاقتصادية التركية "إسطنبول". لم تكن حركة البيع في يومه هذا جيدة أبدًا، فالاستقلال هو أكثر الطرقات ازدحامًا في تركيا بأكملها، ويزوره أسبوعيًا ملايين الأشخاص يصلون إلى مليونين في عطلة نهاية الأسبوع بمفردها، طريق يبدو أنه لن يخلو من المارة إلا عند غلقه، أو شيء آخر أكثر عنفًا.

 

بات الاستقلال الآن فارغًا إلا من بعض من يمثل لهم مورد الرزق الوحيد، حينها وفي 19 (مارس/آذار) للعام الماضي 2016 وقع فيه انفجار أودى بحياة خمسة أشخاص. لم تكن هذه خبرة إسطنبول الأولى مع التفجيرات العنيفة أو حتى تركيا كلها، فقبلها وقعت في أقل من خمسة أشهر خمسة انفجارات في أنقرة وإسطنبول، حصدت أرواح أكثر من 100 شخص معظمهم من السائحين، وبعدها في الأول من (يناير/كانون الثاني) لعامنا الحالي 2017 كان موعد الاستقلال مع هجوم جديد على ملهى ليلي فيه، قتل فيه حوالي 39 شخصًا من 14 دولة مختلفة.

 

باع بائع الكعك - المعروف بـ
باع بائع الكعك – المعروف بـ"سميت"- المتجول 30 كعكة فقط بعد أن كان معتادا على بيع حوالي 250 كعكة، وذلك بعد أن قل عدد مرتادي الشارع عقب الانفجار
 

يقول "جليك" متحسرًا أنه اعتاد على بيع 250 كعكة صباح كل يوم حتى الساعة العاشرة1، إلا أنه لم يبع سوى ثلاثين كعكة فقط في صباح اليوم التالي للانفجار، كما أكد أن عدد مرتادي الشارع قل بنسبة 75% تقريبًا مما اعتاد هو عليه. هجمات لا تهدأ من قبل أطراف مختلفة، "تنظيم الدولة الإسلامية" المعروف بـ"داعش"، وبعض مسلحي الأكراد وغيرهم، وهي هجمات تؤثر بالتأكيد على السياحة كونها أحد شرايين الاقتصاد التركي الحيوية، ممثلة 5% من حجمه كاملًا، وموفرة أكثر من اثنين مليون فرصة عمل، ما يوازي 8% من مجموع العمالة في البلاد. نجحت الهجمات بالفعل، وانخفض عدد السياح الذين يدخلون تركيا عن طريق المطارات بنسبة 21% العام الماضي 2016، وهو تراجع يتطلب فترة تعاف طويلة.

 

خلال العقد الماضي ارتفعت وتيرة العمليات العنيفة لتنتشر في دول كثيرة حول العالم، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا. وكما تستهدف الهجمات العنيفة مسلحة كانت أو عن بعد أرواح المدنيين فإنها تستهدف أيضًا اقتصاد أي دولة. في الفترة من عام 2006 إلى عام 2015 وقعت أكثر من 106800 عملية عنيفة ضربت اقتصادات العالم2، كان أبرزهم العام 2007 حيث وقعت فيه أكثر من 14400 عملية بمعدل 40 عملية يوميًا تقريبًا. أسفر ذلك العدد عن مقتل أكثر من 190 ألف شخص، وإصابة أكثر من 300 ألف شخص في نفس الفترة حول العالم، بينما كان العام 2014 الأكثر دموية، إذ قُتل فيه جراء تلك العمليات أكثر من 32700 شخص، بمعدل قتلى وصل إلى 90 قتيلًا يوميًا.

 

undefined

 

تكسير الأطراف

منذ تفجير برجي التجارة العالميين في 11 (سبتمبر/أيلول) عام 2001، عكف بعض علماء الاقتصاد على تحديد وتقييم الآثار الاقتصادية للعنف المسلح، الموجه ضد مدنيين، باهتمام واسع. وإذا كانت التكاليف البشرية الناجمة عن تلك الهجمات غالبًا ما تكون دموية، فإن تأثير تلك الهجمات ربما يكون كارثيًا على اقتصادات الدول المصابة، سواء كان تأثيرًا آجلًا أو عاجلًا خاصة إذا لم تكن تلك خبرة الدولة الأولى، وربما يتخطى التأثير حدود الدولة لدول مجاورة أو للاقتصاد العالمي برمته كأي وباء، كما حدث في أعقاب هجمات (سبتمبر/أيلول) 2001 أو تفجيرات مدريد 2004. وتصاحب العمليات العنيفة تأثيرات عدة، كمصر التي شهدت موجة من العمليات المسلحة بمختلف أنواعها، آخرها منذ بضعة أيام في محافظة المنيا، وأسفرت جميعها عن مقتل وإصابة العشرات.

 

ويأتي على رأس تأثيرات العمليات على اقتصاديات الدول: التدمير الاقتصادي المباشر كالدمار المادي، فمرتكبي تلك العمليات يستهدفون دومًا في طريقهم الموارد الاقتصادية، كالمصانع والآلات وآبار البترول والغاز ووسائل النقل والعمال، كما تقع الآثار على المنشآت التجارية الصغيرة كالمقاهي والمتاجر والمطاعم، وكذا دور العبادة كالمساجد والكنائس، ووسائل النقل العامة والمباني الحكومية، والمؤسسات المالية. تلك الموارد الإنتاجية المدمرة كانت تولد سلعًا وخدمات قيمة، ومن ثم حُرم الاقتصاد من القيمة المضافة الناتجة عنها. التكلفة الأخرى تتمثل في تحرك الدول عمومًا لعكس تأثيرات أي عملية عنيفة، وإعادة المنشئات المتضررة لحالتها الأولية أو تعويض المواطنين المتضررين بشكل مباشر، ما يعني تحول جزء لا يستهان به من موارد الدولة من الإنفاق العام لأموال دافعي الضرائب في بناء المدارس والمستشفيات ودعم الطبقات الفقيرة، إلى معالجة آثار العنف المسلح، ومن ثم حرمان الاقتصاد من الاستفادة بذلك الإنفاق. كما تؤدي تلك العمليات لزيادة الإنفاق على قطاعات الأمن والدفاع، وهي قطاعات تأكل من ميزانية أي دولة عامة ولا تساهم فيها بدخل قومي ثابت، مما يؤثر على القطاعات الإنتاجية الأخرى.

 

ربما يرشدنا مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2015 على أرقام تساهم في توضيح الصورة أكثر، فنجد أن التكاليف المادية للهجمات المسلحة في جميع الدول عام 2014 بلغت حوالي 53 مليار دولار3. وفي دراسة لورقة بحثية صادرة عن صندوق النقد الدولي فإن التكاليف المباشرة الناجمة عن هجمات 11 (سبتمبر/أيلول) 2001 بالولايات المتحدة؛ بلغت 27.2 مليار دولار4، غير أن هناك بعض التقديرات التي قامت بقياس التكلفة المباشرة للهجمات قد أوردت أرقامًا أكبر للخسائر، فبعد عقد من تلك الهجمات؛ نشرت صحيفة نيويورك تايمز استطلاعًا لتقديرات التكاليف الاقتصادية الحقيقية للهجمات، وذكرت أن الأضرار المادية المباشرة بلغت 55 مليار دولار5.

 

تفجير الكنيسة الكتدرائية في القاهرة في ديسمبر 2016، والذي تسبب بخسائر وصلت قيمتها إلى أكثر من 5.5 مليون دولار أميركي
تفجير الكنيسة الكتدرائية في القاهرة في ديسمبر 2016، والذي تسبب بخسائر وصلت قيمتها إلى أكثر من 5.5 مليون دولار أميركي
 

في مصر بلغت تكاليف ترميم مديرية أمن القاهرة بسبب الهجوم المسلح عليها بنهاية عام 2013 حوالي 7.2 مليون دولار، وفقًا لسعر الصرف آنذاك، بينما وصلت خسائر تفجير الكنيسة البطرسية بالقاهرة، في شهر (ديسمبر/كانون الأول) العام الماضي، أكثر من 5.5 مليون دولار.

 

لفهم أكبر، فإن إنفاق الحكومة المصرية لـ 100 مليون جنيه تقريبًا لترميم الكنيسة البطرسية، كان يمكن أن يتم به بناء 43 مدرسة تخدم أكثر من 21 ألف طالب، ولكن بسبب الهجوم المسلح؛ تضاعفت تكاليف الطريق البديل لدرجة منع دورة اقتصادية صغيرة كاملة؛ فنتيجة لتحويل مسار هذا المبلغ عن بناء تلك المدارس مثلًا؛ تم حرمان آلاف من الطلبة من فرصهم التعليمية، ووقف أعمال محتملة لمئات من المدرسين والإداريين والعمال، وكذا حرمان المقاولين وأصحاب مواد البناء من حركة تجارية نشطة. وينطبق الأمر على جميع الخسائر المادية الناجمة عن العمليات المسلحة المستهدفة لأي مكان آخر. ولا يتوقف التأثير الفوري على الأضرار المادية فقط، وإنما وكما ذكرنا فإن هناك تعويضات ضرورية تُمنح من قبل الحكومات للأشخاص المتضررين سواء كانوا ذوي الضحايا أو المصابين، ما يثقل كاهل الإنفاق العام، ويحول تلك التعويضات من أنشطة منتجة إلى أنشطة غير منتجة، ما يؤثر على القدرة الإنتاجية لأي دولة.

 

في تفجيرات "أحد السعف" في (أبريل/نيسان) الماضي، بكنيسة مار جرجس بمدينة طنطا المصرية، والكنيسة المرقسية بمحافظة الإسكندرية المصرية أيضًا، أعلنت السلطات المحلية عن منح أسرة كل قتيل من ضحايا التفجيرين 100 ألف جنيه مصري لكل ضحية، وصرف معاش استثنائي بقيمة 1500 جنيه شهريًا6. وبالتالي بلغت قيمة التعويضات لـ 45 ضحية حوالي 4.5 مليون جنيه، بخلاف 67500 جنيه كمعاشات شهرية. أما بالنسبة للمصابين فتأتي التكلفة الاقتصادية من العلاج الطبي خاصة إن كان طويل الأجل.

 

ومن الآثار المباشرة أيضًا لأي هجوم ينجم عنه قتلى ومصابين هو: خسارة رأس المال البشري، فمن خلال استخدام أسلوب "الناتج المفقود"؛ ترتفع التكلفة الاقتصادية بخاصة مع ارتفاع أعداد القتلى، إذ أن الضحايا كانوا عناصر مُنتِجة في المجتمع، ومن ثم تم حرمان الاقتصاد من جهودهم الإنتاجية، وترتفع تكاليف خسارة العامل البشري بشكل متزايد حينما يتم فقدان الأشخاص المهرة والمؤهلين بشكل قوي لتأدية أعمالهم السابقة. ويمكننا استعارة دراسة قام بها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري7، بخصوص ضحايا حوادث الطرق، لاستخلاص التكلفة الاقتصادية لخسارة رأس المال البشري، إذ قدرت الدراسة أن التكلفة الاقتصادية باستخدام أسلوب "الناتج المفقود" تبلغ 3.9 مليون جنيه لكل متوفى، و2.2 مليون جنيه لكل مصاب.

 

آثار التفجير الذي استهدف كنيسة مار جرجس في طنطا  (رويترز)
آثار التفجير الذي استهدف كنيسة مار جرجس في طنطا  (رويترز)

 

الفيروس

أصبح العالم الآن أكثر ارتباطًا من أي وقت مضى في التاريخ، وأصبحت الأسواق الدولية سوقًا واحدًا مترابطًا. وتؤدي الهجمات العنيفة إلى زيادة عدم اليقين بالأسواق الذي يعد بمثابة فيروس يستشري في جسد اقتصاد أي دولة، وهو فيروس يفقد الجميع القدرة على التنبؤ بخطوط اقتصادية مستقبلية، فلا يستطيع التنبؤ بمدى الركود المحتمل، ومتى يبدأ وينتهي، وكم سيكلف، وما هي القطاعات التي تستطيع تحمل تلك التكلفة، وما التي ستُسحق بسببه.

 

بعد الهجمات العنيفة يبدأ الأفراد في ممارسة سلوكيات جماعية تلقائية، فيميل الأغلب للبقاء بمنازلهم وعدم الخروج إلا للضرورة، ويميلون للبعد عن مواطن الخطر البديهية

على الرغم من وقوع الهجمات في بقع جغرافية ضيقة، إلا أن تأثير عدم اليقين يمتد ليطال الجميع حتى ولو كانوا بعيدين عن موقع الهجوم. فجميع الأسواق تخشى عدم اليقين الذي يخلفه العنف بكثرة، والمستثمرون ينظرون للعمليات الإرهابية نظرة تتجاوز الحوادث الفردية، وإنما بالمفهوم الواسع الذي يلقي بظلاله على الدولة والمنطقة بأكملها، نظرة مفادها أن الإقبال على الأسواق يندر في المساحات العنيفة، ويواكب العنف على الفور نوايا نقل الاستثمارات إلى مناطق أكثر أمنًا، وتأجيل مشاريع استثمارية كانت مقررة في البلدان المتضررة من العمليات المسلحة.

 

قام الاقتصاديان الأميركيان "والتر إندرس" و "تود ساندلر" بدراسة هامة، وضحا فيها أن دولًا مثل إسبانيا واليونان شهدت انخفاضًا في استثماراتها الأجنبية المباشرة في الفترة من 1975 إلى 1991، بسبب سلسلة من الهجمات العنيفة8. وبعد أحداث 11 (سبتمبر/أيلول) 2001 أغلقت الأسواق المالية ولم تتعاف إلا عام 2003. كما تراجعت البورصة المصرية مع العديد من البورصات العربية بسبب تفجيرات "أحد السعف" لتخسر حوالي 7 مليارات جنيه مباشرة.

 

تجمع أغلب الدراسات البحثية أن وقع الهجمات الإرهابية غير المؤثرة عالميًا على سوق المال يعتبر الأقل ضررًا، حيث تتراجع الأسواق بشكل فوري ثم تبدأ في التعافي سريعًا وتحقيق المكاسب، لتعوض خسائرها السابقة9. وكما يلقي عدم اليقين بشروره على المستوى الجزئي في الشركات؛ فإنه يفعلها أيضًا مع الأفراد. فـ"الإنفاق الاستهلاكي" هو المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي، ممثلًا أكثر من 70% من الاقتصاد الأميركي على سبيل المثال.

 

بعد الهجمات العنيفة يبدأ الأفراد في ممارسة سلوكيات جماعية تلقائية، فيميل الأغلب للبقاء بمنازلهم وعدم الخروج إلا للضرورة، ويميلون للبعد عن مواطن الخطر البديهية، كأماكن التجمعات العامة "المطاعم والمقاهي ووسائل النقل" في أوروبا، والكنائس في مصر، والأسواق التجارية المكتظة في باكستان، ما يقلل من فرص الإنفاق بشكل كبير. كما أن الخوف من المستقبل؛ يعيد هيكلة إنفاق الأسر من جديد، حيث يقتصر الإنفاق على السلع الأساسية فقط، ومن ثم تتضرر باقي القطاعات أيضًا.

 

 الرئيس الفرنسي السابق هولاند والرئيس الأميركي السابق أوباما يضعان الزهور لضحايا هجمات باريس في نوفمبر 2015 (رويترز)
 الرئيس الفرنسي السابق هولاند والرئيس الأميركي السابق أوباما يضعان الزهور لضحايا هجمات باريس في نوفمبر 2015 (رويترز)

 

حينما وقعت هجمات باريس الشهيرة في 13 (نوفمبر/تشرين الثاني) عام 2015، وافتتحت الأسواق المالية أبوابها يوم 16 (نوفمبر/تشرين الثاني)؛ تم فقد أكثر من ملياري يورو على الفور من السوق الفرنسي والأوروبي، وكانت من بين الشركات الخاسرة الرئيسية؛ شركات الطيران الضخمة مثل شركة الخطوط الجوية الفرنسية، وشركات الفنادق مثل "أكور"، وشركات الرحلات والسفر مثل "توماس كوك"، وسط مخاوف عاتية من ضرب الإنفاق الاستهلاكي الفرنسي كاملًا. ويؤثر انخفاض الإنفاق الاستهلاكي على بشدة على قطاعات السلع الفاخرة، فتعد المدينة الأنيقة باريس وجهة الموضة العالمية، ومع انخفاض أعداد الزوار الأجانب كان من المتوقع تأثر صناعة الأزياء مثلًا، لذا انخفضت بشدة أسهم بيوت الموضة عقب الهجمات مباشرة.

 

لتقليل الأضرار، تسارع أغلب البنوك المركزية في الدول التي وقعت فيها هجمات إلى تقليل معدلات أسعار الفائدة، حتى تدعم الإنفاق الاستهلاكي بخاصة في الاقتصادات الديناميكية، كما حدث عقب هجمات 11 (سبتمبر/أيلول) 2001 حيث خفض الفيدرالي الأميركي، بقيادة المخضرم "آلان جرينسبان"؛ أسعار الفائدة إلى مستويات تاريخية لم يصل إليها الاقتصاد الأميركي منذ أربعين عامًا10، ما خفف نسبيًا من وقع الركود الذي حدث، وساعد على التعافي بسرعة أكبر. وهو القرار الذي أيدته ورقة بحثية دعمتها وزارة الأمن الداخلي الأميركية؛ خلصت إلى أن القرار التاريخي للاحتياطي الفدرالي بخفض سعر الفائدة 1% خفض بشكل كبير من التأثير المالي لهجمات (سبتمبر/أيلول)11.

 

يزداد تأثير الهجمات الإرهابية في مواسم بعينها كمواسم التسوق، فالعديد من تجار التجزئة يعتمدون على تلك الأوقات، ويقومون بتخزين بضاعتهم بكميات كبيرة من الشركات المصنعة المحلية والأجنبية استعدادًا لها. فمثلًا أتت تفجيرات "أحد السعف" المصرية في موسم من أهم مواسم الرواج التجاري والخدمي في مصر "أعياد شم النسيم"، حيث يحتفل جموع المصريين بكافة طوائفهم في تلك الفترة، ومن ثم أثرت التفجيرات بالفعل على الحركة الاستهلاكية المصرية خاصة في الإسكندرية وطنطا.

 

النزيف

هل تذكرون ما بدأنا به قصتنا في إسطنبول؟ تضرب العمليات المسلحة صناعتين لديهما حساسية خاصة تجاه التفجيرات تحديدًا هما: قطاعي السياحة والتأمين. وترتفع خطورة نزيف الجروح الاقتصادية كلما اعتمد اقتصاد الدولة على السياحة بدرجة كبيرة.

 

بعد هجمات باريس انخفضت الحجوزات الفندقية الفاخرة بنسبة 50%، كما انخفضت الحجوزات العامة للفنادق بنسبة 30%. ومن ثم يفقد الاقتصاد الفرنسي مليارات الدولارات نتيجة تلك الهجمات
بعد هجمات باريس انخفضت الحجوزات الفندقية الفاخرة بنسبة 50%، كما انخفضت الحجوزات العامة للفنادق بنسبة 30%. ومن ثم يفقد الاقتصاد الفرنسي مليارات الدولارات نتيجة تلك الهجمات
 

مثلاً في فرنسا تشكل السياحة حوالي 8% من ناتجها المحلي الإجمالي، ومن ثم فقطاع السياحة من أكبر قطاعات الاقتصاد الفرنسي، حيث تعتبر فرنسا الوجهة السياحية الأولى في العالم، بعدد سياح يبلغ 83 مليون سائح يقومون بزيارتها سنويًا، وأنفقوا 45.3 مليار دولار عام 2013 فقط12.

 

وفقًا لمحافظ البنك المركزي المصري فإن إيرادات مصر من النقد الأجنبي في قطاع السياحة انخفضت إلى 3.4 مليارات دولار في عام 2016، وهو ما يقل 44.3% مقارنة عن مستواها في 2015. ومن المتوقع أن تستمر تلك المعدلات المتدنية الفترة القادمة بسبب تفجيرات الأخيرة

بعد هجمات باريس انخفضت الحجوزات الفندقية الفاخرة بنسبة 50%، كما انخفضت الحجوزات العامة للفنادق بنسبة 30%، وهي النسب المذكورة على لسان "تشارلوت لومونيت" المتحدثة باسم اتحاد الفنادق الرئيس في فرنسا. ومن ثم يفقد الاقتصاد الفرنسي مليارات الدولارات نتيجة تلك الهجمات. كما يعد قطاع السياحة من القطاعات الأكثر الرئيسية في تايلاند، فالعاصمة بانكوك تعد الوجهة السياحية الأولى من بين مدن العالم متفوقة على لندن وباريس ودبي عام 2016، بعدد سياح تجاوز 21 مليون سائح. وساهمت عائدات السياحة والسفر في ثاني أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا بأكثر من 19% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2016. ومن ثم فتفجيرات بانكوك (أغسطس/آب) عام 2015 وشقيقتها نفس الشهر عام 2016، تقوض مساهمة القطاع السياحي في ناتجها المحلي الإجمالي، وتعطي فرصة للسائحين لإعادة التفكير في زيارة المملكة التايلاندية من جديد، مما يكبد الاقتصاد التايلاندي مليارات الدولارات.

 

كما تعتمد العديد من الدول العربية على قطاع السياحة كأحد القطاعات الرئيسية في اقتصاداتها مثل تونس ومصر. فتساهم السياحة بمعدل 7% من الناتج المحلي الإجمالي في تونس، ومنذ وقوع الهجوم العنيف على أحد الفنادق بمدينة سوسة، والذي راح ضحيته 48 سائحًا في (يونيو/حزيران) 2015؛ انخفضت أعداد السياح بنسبة كبيرة ما أخل بالاقتصاد التونسي، كما وقع هجوم آخر في مدينة بن قردان في (مارس/آذار) 2016، ومن ثم زاد تراجع إيرادات السياحة بنسبة 48% تقريبًا خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2016، مقارنة بالعام 2015، وتراجعت أعداد السياح بنسبة 20% في الفترة نفسها.

 

وتعتمد مصر بشكل أساسي على إيرادات قطاع السياحة لتوفير النقد الأجنبي، فمنذ سقوط طائرة روسية في سيناء في (أكتوبر/تشرين الأول) 2015 الذي راح ضحيتها 224 سائحًا، مرورًا بالهجوم على فندق بالغردقة (يناير/كانون الثاني) 2016، لينتهي ذلك العام بتفجير الكنيسة البطرسية في (نوفمبر/تشرين الثاني) وأخيرًا تفجيرات الكنائس في مدينتي طنطا والإسكندرية (أبريل/نيسان) 2017، كل ذلك أعطى انطباعًا عالميًا بأن مصر تعد مقصدًا سياحيًا غير آمن، ومن ثم تم وضع القطاع في مأزق حقيقي. فوفقًا لمحافظ البنك المركزي المصري فإن إيرادات مصر من النقد الأجنبي في قطاع السياحة انخفضت إلى 3.4 مليارات دولار في عام 2016، وهو ما يقل 44.3% مقارنة عن مستواها في 2015. ومن المتوقع أن تستمر تلك المعدلات المتدنية الفترة القادمة بسبب تفجيرات (أبريل/نيسان). وبالتالي تعمق العمليات العنيفة من أوجاع الاقتصاد المصري الذي يعاني بالفعل من ندرة النقد الأجنبي.

 

  هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2011 (رويترز)
  هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2011 (رويترز)

 

أما صناعة التأمين فإنها تواجه خطر العمليات الإرهابية باعتبارها حائط الصد الأول لتغطية الخسائر بوجه عام. ولكن هنا يختلف الوضع كثيرًا، فمخاطر تأمين الإرهاب بالغة الصعوبة حيث أنها تختلف عن نوع المخاطر المؤمن عليها عادة. فحتى تكون المخاطر قابلة للتأمين بسهولة؛ ينبغي أن تكون قابلة للقياس، ويجب أن تكون شركات التأمين قادرة على تحديد العدد المحتمل للأحداث التي ربما تؤدي إلى مطالبات، والحد الأقصى لتكلفة تلك الأحداث المحتملة. فعلى سبيل المثال؛ تعرف شركات التأمين بخبرتها الطويلة ودراساتها الميدانية عدد حوادث السيارات المتوقعة لكل 100 ألف ميل للسيارة الواحدة، وتعرف اختلاف المناطق الجغرافية فيما بينها، وما تلك الحوادث التي يمكن أن تُكلف، وبالتالي يمكنها أن تتقاضى قسطًا مساويًا للخسائر المحتملة عند إصدار بوليصة التأمين. ومن ثم فما يحدث هو أن عدد كبير من الناس أو الشركات لا تتعرض لمخاطر فعليه، بينما إحداها فقط تواجه تلك المخاطر، وبالتالي فإن أقساط أولئك الذين لا يواجهون مخاطر ومن ثم لا يقدمون المطالبات؛ تمول الخسائر للفئات الأخرى. وعلى ذلك تكون الخسائر عشوائية بقدر كبير فيما يتعلق بوقتها وحجمها وموقعها.

 

على عكس فالعمليات العنيفة لا تنطوي على تلك الخصائص، كما أن العنف ليس عشوائيًا ولكنه مصمم لضرب أهداف تحدث تأثيرًا اقتصاديًا ونفسيًا موجعًا. وبسبب الخسائر الباهظة لشركات التأمين لكثرة المطالبات في وقت واحد؛ ترفض بعض الشركات عند حدوث هجمات مسلحة أن ترد المطالبات وربما تعلن إفلاسها. فبعد أحداث (سبتمبر/أيلول) 2001 بلغت خسائر شركات التأمين في الولايات المتحدة نحو 31.6 مليار دولار، وفقًا لمعدل التضخم السائد آنذاك14. وبطبيعة الحال كانت تلك المطالبات مكلفة للغاية وبالتالي رفضت بعض الشركات رد المطالبات لعدم قدرتها، وطالبت الحكومة الأميركية بإخراج "مخاطر الإرهاب" من تغطيتها التأمينية. كانت تلك بداية إصدار قانون "التأمين ضد المخاطر الإرهابية"، الذي يقضي باقتسام الخسائر بين الحكومة الفيدرالية الأميركية وشركات التأمين أثناء وقوع هجمات عنيفة، ويجدد القانون كل خمس أعوام. وترتفع خسائر شركات التأمين في الاقتصادات المتقدمة عنها في النامية، لانتشارها بكثرة هناك حيث أنه إجراء تقليدي متعارف عليه وحتمي للأفراد والشركات على حد سواء.

 

تشير الدراسات الاستقصائية في كلًا من فرنسا وإيرلندا وبريطانيا بأن العمليات الإرهابية لها تأثير سلبي على رضا سكان كل دولة عن الحياة فيها15، مما يساهم في تقليل الإنتاجية أيضًا نتيجة للمخاطر المرتفعة؛ فبسبب إهدار الركاب مليارات الساعات بلا فائدة في خطوط أمن المطارات المشددة على مدار سنوات مثلًا، نجد أن الوقت الضائع هو ثمن باهظ للتدابير الأمنية المحكمة سواء قبل أو بعد وقوع الهجمات العنيفة.

 

تعد شركات الأمن و الحماية والتأمين من أكبر المستفيدين من العجمات العنيفة (مواقع التواصل)
تعد شركات الأمن و الحماية والتأمين من أكبر المستفيدين من العجمات العنيفة (مواقع التواصل)

 

المستفيد

ربما يبدو هذا غريبًا لدى البعض، لكن هناك دول يمكن لها أن تستفيد من العمليات العنيفة الواقعة في بلدان أخرى. فالسائح الكندي على سبيل المثال الذي يُعرِض عن زيارة مصر لوجود مخاطر أمنية لن ينتظر طويلًا حتى استقرار الأوضاع، وإنما سيغير وجهته لبلد سياحي آخر، ومن ثم تستفيد الدول المستقرة من خسائر قطاع السياحة في الدول المصابة. لذا قام على الفور منظمي الرحلات السياحية في فرنسا عقب هجمات باريس بتوصيات للسياح بالتوجه إلى دول أوروبية أخرى، حتى لا تستفيد دول خارج منطقة اليورو بهم وبأعدادهم.

 

ومن المستفيدين بشدة من العمليات العنيفة أيضًا شركات الأمن والدفاع، فبعد وقوع الهجمات، تهرع الحكومات، وكذلك المؤسسات الفردية مثل مراكز التسوق والمسارح والمطاعم والمقاهي والفنادق والنوادي الليلية، لتأمين تلك المنشآت وتعزيز حالتها الحمائية. وبالتالي يرتفع الطلب على شركات الأمن، وتنشط أعمالها، بخلاف استقرار الأوضاع الذي يؤثر على أعمالها سلبًا. وكذا شركات الدفاع التي تقوم بتصنيع الأسلحة من المركبات الكبيرة إلى معدات الأمن الصغيرة، محققة أرباحًا هائلة في خضم التوتر.      

المصدر : الجزيرة