شعار قسم ميدان

الاقتصاد الإيراني.. هل ترمي طهران أزمتها على شماعة ترامب؟

midan - Iranian Rial

خسر الريال الإيراني ثلثي قيمته خلال الأشهر الستة الماضية، وجاء الجزء الأعظم من ذلك الانخفاض بعد انسحاب الولايات المتحدة رسميًا من الاتفاقية النووية في مايو/أيار. ويُنظر على نطاق واسع في واشنطن إلى انهيار الريال الإيراني على أنه نتيجة مباشرة للعقوبات الأمريكية، ما يُعد بدوره علامة على انهيار اقتصادي من شأنه إسقاط النظام في إيران. وبينما يُعد الادعاء الأول صحيحًا على الرغم من المبالغة، إلا أن الادعاء الثاني يستند إلى افتراضات خاطئة.

    

على الرغم من أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد ألحق ضررًا بالاقتصاد الإيراني، إلا أن السقوط المدوي غير المتوقع للريال الإيراني يرجع بقدر أقل إلى سياسة الولايات المتحدة منه إلى سوء صنع القرار في طهران، والضعف الهيكلي للاقتصاد الإيراني. إن الفهم المناسب للعوامل التي عمقت الأزمة يشير إلى أن المعاناة الحادة التي تعانيها البلاد قد تنخفض وطأتها أو تختفي تمامًا مع تكيف طهران مع الوضع الجديد. سوق الصرف الأجنبي الإيراني يحتاج إلى فهم وفق شروطه الخاصة، من أجل تجنب الوقوع في الخطأ المعتاد بمساواة انخفاض قيمة الريال الإيراني في السوق الحرة بالانهيار الاقتصادي، وارتفاع معدلات الفقر، وزيادة الاحتجاجات التي قد تضعف النظام.

  

في الأشهر التي تلت يناير/ كانون الثاني لعام 2016، ومع بدء سريان خطة العمل الشاملة المشتركة، كان التفاؤل ملموسًا في طهران. وامتلأت فنادق الخمس نجوم بالمسؤولين التنفيذيين الأوروبيين بحثًا عن الفرص الاستثمارية، وطورت إدارة خدمات سيارات الأجرة الخاصة بالمطار من أسطولها ليتناسب بشكل أفضل مع عملائها الأجانب. كما سجل الاقتصاد الإيراني نموًا في السنة المالية 2016-2017 (التي بدأت في مارس/ آذار 2016 إلى مارس/ آذار 2017) بلغ 12.5%، على الرغم من استمرار سريان بعض العقوبات الأمريكية.

    

     

ولكن بحلول منتصف عام 2017، أصبح من الواضح بشكل كبير أن خطة العمل الشاملة المشتركة تحتاج إلى دعم مستمر، وأن إيران لن تعيد التفاوض بشأن الاتفاق النووي. عصف شبح العقوبات بأشرعة الاقتصاد الإيراني. بل إن التنفيذيين الأوروبيين قد بدأوا بحزم أمتعتهم قبل أن يعلن ترامب عن انسحابه من خطة العمل الشاملة المشتركة. بالنسبة للشركات الدولية الكبرى، يفوق خطر خسارة الوصول إلى الأسواق الأمريكية بكثير الأرباح غير المؤكدة التي يمكن الحصول عليها في إيران. فقد انخفض إجمالي تأسيس رأس المال الثابت، وتباطأ نمو الناتج القومي الإجمالي، وانهار الإنتاج الصناعي، بينما بقيت القطاعات الأخرى كما هي. إلا أن إنتاج النفط كان الاستثناء الأبرز، فقد ارتفع انتاجه خلال الربع الأخير بسبب هروع المشترين للحصول على شحناتهم الأخيرة من النفط الإيراني قبل أن تسري العقوبات الأمريكية على قطاع النفط في نوفمبر/ تشرين الثاني.

 

وعلى الرغم من أن الصدمة الاقتصادية الهادمة المترتبة على إعادة فرض عقوبات الولايات المتحدة كانت لا مفر منها، إلا أن العديد من الأخطاء السياسية قد زادت من حدة الأزمة. إذ كان من بين أبرز تلك الأخطاء، قرار تثبيت سعر الصرف خلال السنوات الست الماضية، من عام 2012 إلى عام 2018، فخلال هذه الفترة، تضاعفت الأسعار الإيرانية بالكاد مقارنةً بأسعار شركائها التجاريين. نتج عن ذلك تقدير لقيمة العملة الإيرانية مبالغ فيه بنسبة 100%، ما ألحق ضررًا بالصادرات غير النفطية والعمالة. جدير بالذكر أن المغالاة في تقدير القيمة يُعد أمرًا عاديًا في الاقتصادات المعتمدة على تصدير النفط مثل إيران. إذ عادةً ما يتطلب الأمر صدمة خارجية لتصحيح سعر الصرف لصالح المصدرين، كما حدث عندما فُرضت العقوبات عام 2012 (انخفض سعر الريال الإيراني آنذاك بنسبة 200%)، وهو ما يفعلونه مرةً أخرى في الوقت الراهن.

  

ارتكبت الحكومة الإيرانية خطأً ثانيًا عندما استخفت علنًا بخطر العقوبات التي تهددها، وتأثيرها على سعر الريال. وبدلًا من طمأنة المستثمرين والتأكيد لهم على أن الحكومة على دراية بالمشكلة، ولديها خطط لمواجهة عواقبها الاقتصادية، ذهب المسؤولون إلى وصف أمر انهيار الريال بالفقاعة المُصطنعة التي روجت لها شخصيات مشبوهة داخل وخارج إيران، وأشاروا إلى الفائض التجاري الإيراني، والاحتياطيات الوفيرة من النقد الأجنبي. لا شك أن هذه التطمينات كانت جوفاء بالنسبة للإيرانيين الذين خسروا مدخراتهم خلال أزمة عام 2012، عندما انخفضت قيمة العملة المحلية بنسبة 200%، بعد إنكار الحكومة الإيرانية واستخفافها بالأمر. في غضون ذلك، ما كان من الأثرياء الإيرانيون وأفراد الطبقة الوسطى إلا أن حولوا مدخراتهم من الريال إلى عملات أجنبة وذهب، إذ كان هدف البعض حماية مدخراتهم، والبعض الآخر كان هدفه إخراج أمواله من البلاد.

     

undefined

  

تسبب البنك المركزي الإيراني في زيادة تحويل الناس أموالهم من الريال عن طريق تقديم "أكياس من الدولارات" (وصف الرئيس روحاني) إلى صرافين مرخصين. وقد أوضحت الحكومة ذلك على أنه محاولة لطمأنة المستثمرين أن الريال مستقر ولا يزال عملة قابلة للتحويل. لكن كان من غير المنطقي أن تبيع الحكومة احتياطياتها الشحيحة، واشترى المستثمرون، مستغلين خطأ الحكومة، كل الذهب والعملات الأجنبية التي طرحها البنك المركزي.

 

في أبريل/نيسان 2018، حددت حكومة روحاني قيمة الريال بحيث يساوي الدولار الواحد 42 ألف ريال، خافضة بذلك قيمة العملة بنسبة عشرة في المائة فقط، وأغلقت سوق العملات الأجنبية بالكامل، مما أجبر التجار على دخول السوق السوداء. هذا، أيضًا، كان خطأً. ومما يثير السخرية، بما أن العقوبات الأمريكية لم تدخل حيز التنفيذ رسميًا حتى أغسطس/آب 2018، أن الحكومة الإيرانية هي نفسها التي عطلت التجارة الخارجية للبلاد.

 

هل ستسبب أزمة العملة انهيارًا اقتصاديًا وانتشار الفقر على نطاق واسع؟

الصدمات الاقتصادية الخارجية السلبية ليست نادرة الحدوث في البلدان النامية. تبدأ عادة بأزمة عملة، ثم تمتد بعد ذلك إلى بقية الاقتصاد. لكن آليات هذا الامتداد مختلفة تمامًا في إيران، حيث أن الحكومة، بفضل النفط، هي المصدر الرئيسي للعملة الأجنبية، مقارنةً ببلدان مثل الأرجنتين وتركيا، حيث الوضع مختلف. ففي كل من الأرجنتين وتركيا، على سبيل المثال، تدين المصارف الخاصة بدين كبير مقوم بالدولار للمقرضين الأجانب. بعد الصدمة، تصبح هذه الديون بسرعة أكثر تكلفة لخدمة وسداد الدين. لمنع الانهيار المصرفي، ترفع الحكومة أسعار الفائدة، مما يضر الناتج، أو تمد أجل الائتمان للبنوك، مما يسبب التضخم.

 

الغريب، وعلى عكس الأرجنتين وتركيا، قد تساعد أزمة العملة الإيرانية نظامها المصرفي. وهذا ليس لأن البنوك الإيرانية أفضل حالاً، بل على العكس، فقد ظلت معسرة لسنوات، ولكن، لأن ديونها الكبيرة بالريال، والتضخم يمكن أن يمحوها. كانت البنوك تعاني من انهيار أسعار العقارات الإيرانية قبل خمس سنوات. لكن خفض قيمة العملة تسبب في حدوث تضخم سريع للغاية، ومن المرجح أن يتجاوز 50 في المائة هذا العام، مما سيزيد من قيمة العقارات والأصول الأخرى التي تمتلكها البنوك.

    

undefined

   

وبالمثل، يؤثر تخفيض قيمة العملة على الدخول في إيران بشكل مختلف عما يحدث في بلد نموذجي. يمكن للحكومة الإيرانية تخصيص صرف العملات الأجنبية الذي تحصل عليه من النفط لدعم قطاعات محددة أو مجموعات سكانية معينة. في الأرجنتين وتركيا، تعتبر الحكومة مشترٍ صافٍ للنقد الأجنبي، لذا لا يمكنها فعل ذلك. هذا هو السبب في أن الحديث عن سعر الصرف في إيران، كما يحدث بشكل روتيني، يعد مضللاً. حاليًا، لدى إيران ثلاثة أسعار صرف مختلفة.

    

الأول هو سعر السوق الحرة الصغيرة إلى حد ما، والتي، وفقًا لمسؤول في البنك المركزي، لا تمثل سوى ثلاثة بالمائة من العملات المتداولة. في الأسبوع الماضي، كان هذا المعدل يقدر بنحو 140 ألف  ريال لكل دولار أمريكي. والثاني هو السوق الذي يتاجر فيه المصدرون والمستوردون المرخصون. وقد بلغ المعدل في هذا السوق في الأسابيع الأخيرة حوالي 90 ألف  ريال لكل دولار. وأخيرًا، تبيع الحكومة ما يصل إلى نصف إيراداتها من العملات الأجنبية بمعدل أقل بكثير من 42 ألف ريال للدولار الواحد، من أجل استيراد الضروريات المنزلية الأساسية والسلع اللازمة للإنتاج الصناعي.

 

وبسبب أسعار الصرف المتعددة هذه، لا يؤثر تخفيض قيمة العملة على جميع القطاعات بالتساوي. منذ أبريل/نيسان 2018، بينما انخفض سعر الصرف في السوق الحرة بأكثر من 60 في المائة، ارتفع مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 16 في المائة فقط. ومن ثم، فإنه من المضلل قياس معدل التراجع في مستويات المعيشة من خلال الانخفاض في قيمة السوق الحرة للريال.

 

معدل الفقر في إيران منخفض عمومًا حسب المعايير الدولية – أقل من عشرة في المائة، وفقًا لدراسة أجراها البنك الدولي. يتلقى حوالي ثمانية ملايين إيراني بدلات من اثنتين من وكالات الرعاية الاجتماعية، ويتلقى نحو 50 مليون تحويلات نقدية شهرية تبلغ قيمتها حوالي 100 دولار في الشهر لأسرة مكونة من أربعة أفراد (بدولارات تعادل القوة الشرائية). قام برنامج التحويلات النقدية، الذي أنشأه الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد في عام 2010، بالكثير لمساعدة الإيرانيين الفقراء والطبقة الوسطى على مواجهة الأزمة في عام 2012.

   

كانت سياسة روحاني هي إعاقة هذا البرنامج، مما سمح لقيمة التحويلات الشهرية بالتراجع بنحو ثلاثة أرباع منذ عام 2012، واستبدالها أساسًا بتحويلات من مؤسسات الرعاية الاجتماعية، وإحداها مؤسسة خيرية دينية. الترتيب الجديد يضر بالطبقة الوسطى الدنيا، التي لا تندرج تحت الحماية الرسمية. ظهر غضب هذه الفئة خلال الاحتجاجات التي اجتاحت مناطق حضرية أصغر في إيران في يناير/كانون الثاني الماضي.

    

undefined

   

المستقبل في الميزان

شكّل استئنافُ العقوبات الأمريكية ضربةً قوية للاقتصاد الإيراني، لكن لا يُمكِننا قياس هذا التأثير حقاً عبر قياس مدى انخفاض قيمة العملة الإيرانية. يعتمد ما يحدث للاقتصاد الإيراني بشكلٍ كبيرٍ على كيفية استجابة كُلٍ من سوق العمل والمدخولات الحقيقة لانخفاض قيمة العُملة. وحتى حينئذٍ، تبقى الطريقة التي سيستجيب بها الجمهور الإيراني للصعوبات الاقتصادية المجهول الأكبر: هل سيحُثُّ الإيرانيون قادتهم على الانصياع لمَطالِب الولايات المتحدة كام تأمل إدارة ترامب؟ أم أنهم سيتخلّون عن السياسات القائمة على الانتخابات والعلاقات مع بقية دول العالم كما يأمل المتشددّون الإيرانيون؟

 

وقد استجابت الحكومة الإيرانية لتدهوُر الأوضاع الاقتصادية من خلال برامِجَ تُوفّر للفقراء حماية أكبر من الآثار الأشد وطأة للعقوبات. ولكن نسبة البطالة المرتفعة بين الشباب تبقى هي المشكلة الاقتصادية الأكبر. فثُلث الرجال ونصفُ النساء من الحاصلين على الشهادات الجامعية دون سِن الثلاثين عاطِلون عن العمل. يُمكِن للريال الرخيص أن يساعد الحكومة على خَلقِ فُرص عملٍ عن طريق زيادة الطلب على الصادرات غيرُ النفطية لإيران. ولكن هناك حدٌّ لفُرَص العمل التي يُمكِن خلقُها مادامت العقوبات المالية الأمريكية تحد من قدرة إيران على الولوج إلى لنظام البَنكي العالمي. تعتمد إيران الآن على الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا للوصول إلى الأسواق العالمية، حيثُ تُحاول هذه القوى إنقاذ ما يُمكن إنقاذه من الصفقة النووية التي كانوا أطرافًا فيها. ويبقى السؤال مطروحًا حول ما إذا كانت هذه القوى قادرة على فتح شريان الحياة للاقتصاد الإيراني.

  

بالعودة إلى عام 2012 عندما اجتاحَت البلادَ أزمةٌ مماثِلة، ألقى الإيرانيون باللوم على إدارة أحمدي نجاد لعدم كفاءتها وموقِفها العدائي من الغرب. وظلَوا يأملون أنهم ومن خلال انتخاب إدارةٍ أكثر اعتدالًا، فسيتمكّنون من إنهاء أربعة عقودٍ من العُزلة. لقد صوّت الملايين من الإيرانيين في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة لِصالح العولمة وتطبيع العلاقات مع الغرب. فإذا لم يترتّب على تلك الآمال سِوى الصعوبات والخيانة، فستكون النتيجة في الأغلب هي استجابة الإيرانيين للصوت الأعلى في البلاد ـــ ذاك الذي يُنادي بالتخلي عن الغرب والالتفاف إلى الداخل والشرق بدلاً من ذلك.

  

——————–

ترجمة: فريق الترجمة

هذا التقرير مترجم عن: Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.