شعار قسم ميدان

إيران بين الماضي والحاضر.. حوار مع "إرفاند أبراهاميان"

ميدان - إيران
مقدمة المترجم
حوار مع "إرفاند أبراهاميان"، أستاذ التاريخ المبرّز وصاحب الأعمال العديدة عن إيران. يتناول هذا الحوار تاريخ إيران منذ الثورة الدستوريّة حتى وقتنا الحالي، ويدلي بملاحظات في غاية الرّشاقة عن مصدّق والانقلاب والثورة والخميني، ومآل إيران في ضوء السياسات الترامبيّة.

  

هل تمانع بالحديث بإيجازٍ إلى قرّائك غير المطّلعين على أعمالك عن المكان الذي ترعرعتَ فيه وما الذي قادكَ إلى مواصلة دارسة التاريخ الإيرانيّ الحديث؟

وُلِدتُ في طهران، وتحصّلت على الدرجات الثلاث الأُوَل من مدرسة مهر المجاورة، ثمّ ابتُعثِتُ للدراسة في بريطانيا. وكانت هذه السنوات هي سنوات تأميم النّفط العصيبة، لذلك كانت أسرتي، مثلها مثل أغلب الأسر، منخرطة في السياسة لدرجة عالية وكانت تستمتع إلى أخبار الرّاديو في كلّ مساء -كما كنتُ أقوم بذلك أثناء العطلات الصيفيّة في إيران. وفي سنتي الأخيرة في المدرسة الداخليّة، أطلعني مدرّسنا على كتابات ر.ح. تاوني وكريستوفر هيل. ولم تكن لديّ فكرة عمّا كانت سياسة المدرّس، لكن من الواضح أنّه كان له مذاقٌ لا تشوبه شائبةٌ.

 

وفي الجامعة، درستُ بالأساس التاريخَ الأوروبيّ مع كيث توماس -وهو تلميذٌ سالفٌ لــ "كريستوفر هيل". إذ تعرّفت، من خلاله، على المؤرّخين ذوي العلاقة بمجلّة "الماضي والحاضر" (journal Past and Present)، مثل "جورج رودي" و"إيريك هوبزباوم" و"لورانس ستون" و"فيكتور كيرنان" و"بريان مانينغ" و"رودني هيلتون".

 

وتخرّجت بحلول الوقت، وعرفتُ وأردتُ أن أدرس إيران الحديثة، لكنّ الجامعات الأوروبيّة في ذلك الوقت لم تكن تعترف بالتاريخ المعاصر باعتباره تخصّصاً مشروعاً. لذلك تقدّمت لقسم العلوم السياسيّة في جامعة أميركا الشماليّة، غير مدركٍ بأنّ أقساماً كهذه كانت معنيّة حصراً بكيف يمكن "تحديث" المجتمعات وكيف يمكن أن يُؤمَّن العالمُ لصالح المصالح الأميركيّة. وبما أنّ أيّاً من هذين السؤالين لم يكونا يعنيانني، فقد واصلتُ اهتمامي باستكشاف إيران الحديثة من تلقاء نفسي، وذلك من خلال عدسة مجلّة الماضي والحاضر.

كتبَ ثومبسون للقارئ الذكيّ العادي متجنّباً الرطانة السياسيّة والهراء الأكاديميّ والغموض الفكريّ
كتبَ ثومبسون للقارئ الذكيّ العادي متجنّباً الرطانة السياسيّة والهراء الأكاديميّ والغموض الفكريّ
  

في حين أنّ الماركسيّين الإيرانيّين مثل "إحسان طبري" و"بيجان جازاني"استعملوا الماديّةَ التاريخيّة لتوصيف طبيعة ودينامكيّة التطّور الاقتصاديّ والسياسيّ لإيران، فربّما يكون كتابك ذائع الصيت الذي يحمل عنوان "إيران بين ثورتين (1982)"، يؤطّره جزئياً على الأقلّ المنهج التأريخيّ لـ"ثومبسون" والنّزاع بأنّ "الطبقة ليست شيئاً، بل هي حادثة". برأيك ما الذي جلبَه ثومبسون لدراسة التاريخ الإيرانيّ وعجزت عنه المُقاربات الماركسيّة التقليديّة؟

كان ثومبسون شخصيّة هائلة لعددٍ من الأسباب -ليس فقط بالنسبة إلى مؤرخي إيران، وإنّما أيضاً إلى المؤرّخين الماركسين في كافّة أرجاء العالم. فأولاً، عارضَ تطبيق نظرية واسعة وجارفة على حقب طويلة من التاريخ، وكان أكثر اهتماماً بالتاريخ الإمبريقيّ. ثانياً، أدركَ ثومبسون أهميّة الثقافة والوعي في تشكيل الطبقة، بينما لا يزال يعطي الاهتمام اللازم بالعوامل الأخرى مثل الاقتصاديّات.

 

وبإدراكه ذلك، فقد كان واعياً أيضاً بأنّ الثقافةَ، بما فيها الدينُ، هي نفسها ليست سكونيّة ولكنها متطورة باستمرار بمقتضى التغيّرات الاجتماعيّة. ثالثاً، على خلاف الكثير من المؤرّخين الاجتماعيين، رفضَ ثومبسون أن يخلي السياسةَ من التاريخ. رابعاً، كتبَ ثومبسون للقارئ الذكيّ العادي، متجنّباً الرطانة السياسيّة، والهراء الأكاديميّ، والغموض الفكريّ.

 

باختصار، لقد كان مؤرخاً لمؤرّخ، غامساً نفسه في زمكان محدّد، قارئاً كلّ شيء يخصّ الحقبة التي يدرسُها، وبالتالي يخرج بعملٍ مدهش غنيّ بالمعلومات الإمبريقية. وكان المثقفون مثل إحسان طبري وجازاني نشطاء سياسيين في المقام الأوّل، وليسوا مؤرّخين غمسوا أنفسهم في حقبة معيّنة من التاريخ. فلم يكن لديهم لا الوقت ولا الفرصة -ولا الميلُ، ربّما- للغوص في الأعماق الأرضيّة للتاريخ.

 

تأثّرت أعمالك البحثيّة عن الحشود الإيرانيّة بـ"جورج رودي"، وهو عضو في جماعة المؤرّخين للحزب الشيوعيّ في بريطانيا العظمى، ويتركّز عمله الأساسيّ على الحشود أثناء بعض الاضطرابات السياسيّة الكبرى التي تحدّد أوروبّا الحديثة. في تطبيقك لتبصّرات رودي على الثورتين الإسلاميّة والدستوريّة في إيران، فماذا كانت الأفكار الخاطئة التي انطلقت في مهاجمتها؟


قدّم رودي ثلاثة إسهامات مهمّة: الأوّل أنّه أدرك الدّور المهمّ للحشود في التاريخ الأوروبيّ؛ والثاني أنّه قاومَ فكرة غوستاف لوبون عن أنّ الحشود "غير عقلانيّة" وأنّهم "رعاعٌ خَطِرون"؛ ثالثاً أنّه صوّر بوضوح "الأوجه" المختلفة في الحشود -بنيتهم الاجتماعيّة. وعند قراءة رودي وسماع محاضرَاته في صيف واحد في نيويورك، صُعقتُ من كيف أنّ عمله كان وثيق الصّلة بإيران. ففي الواقع، لعبت الحشود دوراً أكثر أهميّة في التاريخ الإيرانيّ من التاريخ الأوروبيّ -في الثورة الدستوريّة من 1906-1909، وفي الحركة العمّاليّة 1941-1946، وفي حملة تأميم النّفط، و، بالطّبع، في الثورة الإيرانيّة 1979-1981.

 

وقد حاولتُ أن أختبر نتائجه الثلاث على الحشود في إيران؛ دورهم، وعقلانيّتهم في مقابل لاعقلانيتهم، وبنيتهم الاجتماعيّة. ومن الواضح أنّ هذه النظريّة لم يكن لها كبير تأثير في إيران. فمثقفو المؤسّسة، لا سيّما المستفيدون من ثورة 1979، لا يزالون ينساقون وراء فكرة " لوبون"، غافلين فيما يبدو لرودي. فهم يفضّلون أن ينظروا إلى الحشود باعتبارها رعاعاً خَطِرة، ويتم التلاعب بهم بسهولة من قبل "أيدٍ خفيّة أجنبيّة".

 

حملت أطروحتك للدكتوراه في جامعة كولومبيا في عام 1969 عنوان "القواعد الاجتماعيّة للسياسة الإيرانيّة"، وكانت بمثابة أوّل دراسة سوسيولوجيّة وسياسيّة لحزب الجماهير الإيرانيّة (حزب توده في إيران)، التي يمكن القول إنّها أهمّ تنظيم سياسيّ اشتراكيّ في تاريخ إيران. ما الذي دفعكم للعمل على توده وما الذي قمت به لفهم تأثيره السياسيّ والثقافيّ الأوسع على المجتمع الإيرانيّ؟

كانت دراسة الأسس الاجتماعيّة لحزب توده وسيلة جيدة – ربما الوسيلة الوحيدة في ذلك الوقت – لدراسة السياسة الإيرانيّة من الأسفل، والتركيز ليس على النخبة على مستوى الدولة، ولكن على الشعب العاديّ الذي يلقى دائماً "إهمالاً هائلاً من الأجيال القادمة" -الميكانيكيون، عمّال النفط، العمّال، الباعة المتجوّلون، المعلمون، الخياطون، ربّات البيوت، الممرّضات، سائقو الشاحنات، وأصحاب المحلات. وكان هؤلاء الناس العاديون الذين رغم اختلافهم الدينيّ، انتماؤهم العرقيّ، وتعليمهم، وأجناسهم، ينضمّون إلى الحزب والنقابات العمّالية، وبالتالي تدخلوا بوقاحة في سياسة الدولة التي تُعتبر، تاريخيّاً، ملكاً خاصاً للطبقة الحاكمة. وكان حزب توده فريداً فيما فعله. ولا يزال الأمر كذلك.
الرئيس الإيراني الأسبق محمد مصدق
الرئيس الإيراني الأسبق محمد مصدق

 

لقد كنت مؤرخاً بصيراً وناقداً للدور المدمّر للإمبرياليّة البريطانيّة والأميركيّة في إيران خلال أواخر القرنين التاسع عشر والعشرين. هذا هو الحال بشكل خاصّ في كتابك الأخير الذي يحمل عنوان: الانقلاب: 1953، السي آي ايه، وجذور العلاقات الأميركيّة الإيرانيّة الحديثة. هل يمكن أن تقول لماذا اعتقدت أنّه لابدّ من أن يُكتَب كتابٌ آخر على الحلقة الفاصلة من انقلاب 1953، وماذا كنت تعتقد أنه غائباً ومفقوداً في التصوّرات السابقة لتأميم شركة النفط الأنجلو-إيرانيّة (أيوك) والإطاحة بـ"محمد مصدّق" على يد انقلاب مدبّر من السي آي ايه؟

كما قلتَ، فقد نُشرَ الكثير عن أزمة تأميم النّفط، التي بدأت في عام 1951 وبلغت ذروتها بانقلاب عام 1953 – وبعض الأعمال متعاطفة مع مصدّق. بيد أنّه حتى الأعمال المتعاطفة تنزع نحو اللجوء إلى الاستشراق لشرح الكارثة النهائيّة. وهم يكرّرون بلا نهاية أن المملكة المتحدة والولايات المتحدة عرضتا على إيران تسوية معقولة، بما في ذلك قبول التأميم، لكن مصدق كان غير قادرٍ على قبول شروطهما بسبب أوجه قصور شخصيّة وثقافيّة. فقد تم صُوِّر بلا رحمة على أنه "غير عقلانيّ" و"طفوليّ" و"عفويّ" و"متعجرف" و"غريب الأطوار" و "متعصّب" و"كارهٍ للأجانب" و"عاطفيّ" و"شرقيّ" و"روبسبيريّ" و"فرانكنشتايني"، وديماغوجوي مهجوس بـ"بعقدة الاستشهاد" الشيعيّة.

 

تغفل هذه الأعمال العياريّة اثنين من التفاصيل الهامّة -والشيطان يكمن في التفاصيل، بالطّبع. فأولاً، كانت المملكة المتحدة والولايات المتحدة على استعداد لقبول "مبدأ التأميم" ما دام المبدأُ لن يطبّق في الممارسة الفعليّة، وظلّت صناعة النفط خارجة تماماً عن أيدي إيران، وسيكون، عوضاً عن ذلك، في "اليد" الصلبة لشركات النّفط الغربيّة. وبالفعل، بعد الانقلاب، حصلت الشركات على السيطرةَ الكاملة في شكل اتّحاد النفط. ثانياً، رفضت المملكة المتحدة التفكير في أي "تعويض" استناداً إلى القيمة الفعلية للمنشآت النفطية في عام 1953، بل، بدلًا من ذلك، فكرت في مبلغ "فلكيّ" يستند إلى الأرباح المتوقّعة الممتدة حتى نهاية القرن.

حقيقة أنّ الأميركيين كانوا على المحكّ مثلهم مثل البريطانيين، هي حقيقة مهملة طوال الوقت في تواريخ الانقلاب
حقيقة أنّ الأميركيين كانوا على المحكّ مثلهم مثل البريطانيين، هي حقيقة مهملة طوال الوقت في تواريخ الانقلاب

تَقنيّاً، لم "يرفض" مصدق أيّ عرض نهائيّ بتاتاً. ببساطة، كلّ ما طلبه هو توضيحٍ لكيفيّة حساب التعويض -على القيمة الحالية أو الأرباح المستقبليّة. ورفضت إدارة إيزنهاور توضيح ذلك. والحال أنّ كافة التواريخ التقليديّة لتغفل هذه الإشكالات "غير المهمّة". كان الأميركيون مهتمين، بالقدر نفسه الذي يهتمّ به البريطانيون، بمنع التأميم الناجح. وبالأخير، فإن مثالاً ناجحاً قد يكون مثالًا سيئاً في أماكن أخرى، لا سيّما في العراق وإندونيسيا وفنزويلا.

 

والحال أنّ هذه الحقيقة الصارخة، أي أنّ الأميركيين كانوا على المحكّ مثلهم مثل البريطانيين، هي حقيقة مهملة طوال الوقت في تواريخ الانقلاب. وبدلاً من ذلك، يفضّل الأكاديميّون الأميركيّون موضعة الانقلاب بصورة مباشرة في سياق الحرب الباردة -وليس في سياق صراعات الشّمال مقابل الجنوب أو الصراعات الإمبريالية مقابل الصراعات المعادية للكولونياليّة. لقد كانت الحربُ الباردة تسويغاً جيّداً لأيّ عمل شائن تقريباً. ويمكن للمرء أن يستخدم الحرب الباردة لتبرير الإطاحة بجدّته تحت الحافلة.

 

لماذا تعتقد أنّه في السنوات الأخيرة هناك محاولة لإحياء تصوّر تنقيحيّ للانقلاب، سعياً لتقليل دور أجهزة المخابرات البريطانيّة الأميركيّة، والعمل، بدلاً من ذلك، على وضع حصّة الأسد من اللوم للإطاحة بمصدّق على الجهات الفاعلة المحليّة، بما في ذلك مصدّق نفسه؟

تنبعُ الهجماتُ على مصدّق من اتجاهات متنوعة. ويهاجم الملكيّون لأسباب واضحة، ولكنّهم، يا للغرابة، يحاولون ربط الانقلاب ليس بالضبّاط العسكريين الذين تنظمهم وكالةُ الاستخبارات المركزية الأميركيّة (MIA6)، وإنّما برجال الدين مثل "آية الله بهبهاني" و"قاشاني". وكأنهم بذلك يريدون أن ينقلوا إلى الآخرين "الثقة" لما يسمى بـ"انتفاضة شعب على الشاه". وهذا يدل على عدم شعبيّة الانقلاب.

 

من جانبهم، لدى الإسلاميين أسباب أيديولوجيّة خاصة بهم لتقويض مصدق. وبالأخير، كان مصدّق قوميّاً علمانيّاً رفضَ استثمار الدين في السياسة، وكان نتاجاً مباشراً لحركة التنوير -أي إنّه بغيض إلى الذهنيّة الدينيّة. وعلاوة على ذلك، أصبحَ بعض المثقفين الشبّاب الذين نشأوا في ظلّ الجمهوريّة الإسلاميّة متيّمين بالأسواق الحرّة والمشاريع الحرة التي يناصرها المحافظون الجدد والنيوليبراليون الغربيّون. فبالنسبة لهم، ليس النفط مصدراً طبيعيّاً سياديّاً وثميناً، بل "وباءٌ" يموّل دولة استبداديّة. ويبدو أنّهم ينظرون إلى حملة تأميم النفط برمّتها على أنها مضلّلة وبالية.

undefined

تحاجج في كتابك الذي يحمل عنوان "الخمينيّة (1993)" بأنّ أيديولوجية "آية الله الخمينيّ" والحركة التي قادها ينبغي أن يتمّ فهمها باعتبارها شكلاً من أشكال الشعبويّة العالمثالثيّة. وتتضادُّ أنت بهذا التأويل مع السرديّة السائدة في وسائل الإعلام الغربيّة التي غالباً ما تقولب الثورة الإيرانيّة على أنّها رد فعل عنيف، متعصّب، وأصوليّ ضد التحديث. هنا، يمكنك الاستشهاد بأعمال ريتشارد هوفستادتر، الذي أحييَ مقاله الشهير "النّمط البرانويديّ في السياسة الأميركيّة" في السنوات الأخيرة. واستعادةً لما جرى، كيف ترى إسهامك في النقاش حول "الخمينيّة"، وما هي السمات التي تتقاسمها تواريخ الشعبويّة الأميركيّة والإيرانيّة؟

احتوتِ الحركةُ الخمينية، في ذروة الثورة، على مجموعة واسعة من العناصر السياسيّة. وأدركَ الخميني نفسه وأقرب تلاميذه، مثل آية الله بهشتي، أنّه كي يسقطوا الشاهَ فهم بحاجة إلى الكلام بالنيابة عن المستضعفين (المحرومين). وهكذا، لجأوا إلى لغةِ الشعبويّة الراديكاليّة. بيد أنّ حركة مناهضة الشاه تنطوي أيضاً على عناصر كانت محافظة اقتصادياً وحتى رجعيّة -وهي العناصر التي تمثّل البورجوازية الصغيرة الخيريّة. وفي السنوات الأخيرة للخميني، بل وأكثر من ذلك بعد وفاته، أصبحت هذه العناصر المحافظة أكثر حزماً بكثير.

 

وبالتالي، لدينا الآن جمهورية لا تزال تتحدث بخطاب الشعوبية الراديكالية، ولكنها تنتهجُ سياسات اجتماعيّة-اقتصاديّة هي، في لبّها، سياسات محافظة. على سبيل المثال، حكمَ النظام بأن الإصلاح الزراعيّ يجب ألّا يحدّ من الملكيّة، لأنّ هذه القيود من شأنها أن تنتهك الحقوق المقدّسة للممتلكات الخاصة المنصوص عليها في الشريعة. والحال أنّ الشعبويّة في إيران لتتقاسم الشيءَ الكثير من الشعبويات في أماكن أخرى من العالم. وتبدو أنّها راديكاليّة من الخارج، ولكنها، في جوهرها الداخلي، محافظة. وإنّ الفرق الواضح بين الشعبويّة الحالية في الولايات المتحدة وفي إيران هو أنه بينما الأولى تمثّل تهديداً على الأرض كلّها، فإنّ الشعبويّة الإيرانيّة تضرّ شعبها في الغالب.

 

أنت الآن بصدد القيام بكتابة كتاب جديد عن الثورة الإيرانية عام 1979. ما الذي تعتبره بمثابة إسهام من اليسار الراديكاليّ في الثورة؟ فما حصلَ في كثيرٍ من التأريخ الحالي هو أنّ هذا الإسهام إمّا تمّت المبالغة فيه كثيراً أو تمّ تجاهله، بينما لا يزال الأمر متعلّقاً بإشكاليّة الاستقطاب؟

لعبَ اليسار الجديد دوراً غيرَ مباشرٍ في الثورة لكنّه دور مهمّ. وظلت الحركة المسلّحة، لا سيّما حركة فدائيي الماركسيّة، طوال السبعينيات من القرن الماضي، تحتفظ بروح المقاومة وبالقناعة بأنّ النظام لديه ضعفٌ مستورٌ رغم كل أمواله النفطيّة واستحقاقاته العسكريّة. وفي الوقت نفسه، رسّخَ اليسار القديم -وخاصة منذ الأربعينيات- في الثقافة السياسية الفكرةَ الهامة التي مفادها أنّ للمواطنين حقوقاً اجتماعيّة واقتصاديّة غير قابلة للمصادرة. وكان شعار توده الرئيسيّ هو "الخبز للجميع، والإسكان للجميع، والتعليم للجميع".

 

أضف إلى ذلك أنّ اليسار الإسلامي، وعلى الأخصّ "علي شريعتي"، تأثر كثيراً بالماركسيين الأوروبيين في الستينيّات. وليس بمقدور المرء أن يحلّل الإسلام الراديكاليّ الجديد دون إشارة مباشرة إلى الماركسيّة الغربيّة. وبالأخير، كان شريعتي موسوماً بحق بأنّه "المؤدلج" الحقيقيّ للثورة الإسلامية.

 

ماذا تقول للانتقادات الموجهة إلى كل من منظمة توده ومنظمة فدائيي خلق الإيرانيّة المسلحة (فصيل الأغلبيّة) بأنهم ضحوا بـ"الحريّات البرجوازيّة الليبراليّة" على مذبح مكافحة الإمبريالية، وساعدوا، بقيامهم بذلك، في تمهيد الطريق للتعزيز السلطويّ للجمهوريّة الإسلاميّة في الثمانينيّات؟


دعّمت، في الفترة 1978-1979، كافّة المجموعات السياسّية تقريباً -باستثناء واضح من الملكيين- الثورة والجمهورية الإسلاميّة. وانتقلت منظمات مختلفة إلى المعارضة في أوقات مختلفة وبسبب إشكالات مختلفة. وانتقلت منظمة "توده" و"فدائيي خلق" إلى المعارضة في عام 1982، عندما اتخذ النظامُ القرارَ المشؤوم والكارثيّ بشنّ الحرب على العراق. وكان وقف الحرب هو أحد الدفاعات الوطنيّة بحقّ.

 

إنّ كثيراً من الانتقادات الموجّهة إلى اليسار بسبب دعم النّظام تأتي من "الليبراليين" الإسلاميين الذين لم يدعموا النظام فحسب، بل كانوا أيضاً جزءاً لا يتجزأ من ذلك النظام. وبالأخير، كان "بازرجان" رئيس وزراء الخميني، وصوّت للدستور، وظلّ صامتاً عندما عبرت الجيوش إلى العراق. بمقدور المرء أن يطرح قضية بسبب بقاء اليسار بمعزل عن الخمينيّ وعن مناصرة القضايا التقدميّة العلمانيّة -بعبارة أخرى، التحالف مع الجبهة الوطنيّة الليبراليّة. لقد كان هذا نهجاً انتهجهُ بعض قادة توده. لكنّهم أُضعِفوا بالحقيقة البسيطة التي مفادها أنّ الجبهة الوطنية نفسها استسلمت للخميني في وقت مبكر.

 

في مقالتك "لماذا نجت الجمهوريّة الإسلاميّة" (2009)، فإنك تحدد الأسباب التي أدّت، دينيّاً، إلى ثبات النظام والاستقرار النّسبيّ منذ 1975، أي الشعبويّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة ونظم الرعاية الاجتماعيّة التي وضعت في وقت لاحق لصالح شريحة كبيرة من السّكان. وبما أنّنا شهدنا تخفيضات في الدعم والمطالبة بالخصخصة (على الرغم من أن هذا أدى في كثير من الأحيان إلى المحسوبيّة الواضحة وممارسات الاستئجاريّة)، هل تتناول العقدَ الاجتماعيّ الذي قد حددته أنتَ أنّه أكثر عرضة للخطر؟

يقبل الاقتصاديّون بإجماع واشنطن مثل انتقاد النظام لإهدار موارد ضخمة على الرعاية والإعانات -للأغذية والإسكان والتعليم والبنية التحتيّة والطبّ والجنود. وقد لا تكون هذه الإعانات ذات معنى من الناحية الماليّة، ولكنّها ذات معنى هادف للغاية سياسياً -فقد أنشأت هذه الإعانات علاقة هامّة بين الدولة والمجتمع، ولا سيّما الطبقات الأكثر فقراً.

 

بدأ الاقتصاديون يتنبؤون بانهيار وشيك للنظام تقريباً بمجرد استقراره في 1979. والسبب الرئيسيّ في أنّ توقعاتهم خابت هو بالضبط لأنّ النظام أسّسَ دولة رفاه شاملة إلى حدٍّ ما. إنّ التحول التدريجيّ، ولكن المتسق، إلى اليَمين في السنوات الأخيرة يضعف بطبيعة الحال دولةَ الرفاه هذه، وبالتالي يقوض الأساس الاجتماعيّ للنّظام.

 

ما هي الآفاق لإيران الأكثر ديمقراطيّة وشمولًا وعدالةً من الناحية الاقتصاديّة في عصر ترمب؟ وبالنّظر إلى الرئيس الأميركيّ وتهديد إدارته بالحرب، ما هي مسؤوليتنا الديمقراطية والسياسية باعتبارنا طلّاباً في التاريخ والسياسة الإيرانيتيْن؟


يطرح سؤالك إشكالين منفصليْن: ترمب، والديناميات الداخليّة في إيران. 
ترمب هو، في جوهره، رجل خادع يحشو بكلامٍ لبيع منتج معيّن. خلال حملته، فضّلَ ترامب أن يضرب إيران والاتفاق النوويّ لأنه اعتقد أنه يمكن الحصول على التصويتات والدعم من نتنياهو. ولم يعد يحتاج إلى دعمِهم. ولكن الخطر الآن هو أنّه مع تبخر وعوده الاقتصاديّة، قد يجد أنّه من المناسب تحديد عدوّ أجنبيّ له. ويمكن أن تصبح إيران هدفاً من قبيل ذلك. وليس مصادفةً أنْ يسعى الشعبويّون اليمينيون في جميع أنحاء العالم إلى خصوم أجانب بمجرد ما تتبخّر وعودهم الاقتصاديّة.

 

وإذا لم تصبح إيران هذا الهدف، فإن مسارها الداخليّ والطبيعي سيأخذها إلى ساحة جديدة. فمنذ الستينيات، كان الخطاب السائد في السياسة هو الإسلام، والأصالة (authenticity)، والأصلانيّة (nativism)، و "العودة إلى الجذور". وقد أدّى هذا الخطاب إلى المأزق الحالي الذي توقف فيه الإصلاح وحصلَ اليمين فيه على الهيمنة والغلبة.

 

وإنّ الجيلَ الجديد المولود بعد الثورة أقل اهتماماً بالبحث عن الأصول -عوضاً عن ذلك، يهتمّ بالأحرى بإصلاحات مجدية ذات معنى تحمي الحقوق الفرديّة كما الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة. وهم، بذلك، يكتشفون أن أجدادهم العظماء أصحاب الثورة الدستوريّة عام 1905- 1909كان لديهم الكثير ليقولوه ويكون ذا صلة بالرّاهن -أكثر بكثير من البحث غير المجدي عن جذور غامضة.

 _____________________________________________________________

المقال مترجم عن الرابط التالي
المصدر : الجزيرة