شعار قسم ميدان

من القذافي إلى السيسي.. أسلحة "الهجرة غير النظامية" الشاملة

midan - Migrants are rescued by the Italian Navy in the Mediterranean Sea

يصلح القذافي دوما أن يكون بطلا للحكايات، ولا يقتصر الأمر هنا على الخطابات الجريئة والإطلالات الفكاهية والإيماءات المسرحية، ولكن الأمر يمتد إلى جوهر السياسة أيضا.

نحن الآن في عام 1986 والخلاف الأميركي الليبي على أشده بعد نشر القوات الأميركية حاملات طائرات في خليج سرت، وهو مكان لقبه القذافي يوما بخط الموت.

في مساء 5 أبريل/نيسان تشتعل النيران بملهى "لابيلا" الليلي في برلين، حيث اعتاد الضباط والجنود الأميركيون في المدينة قضاء ليلتهم، ولتكون الحصيلة أربعة قتلى وأكثر من خمسين جريحا منهم، وعشرات الجرحى المدنيين، حادثة شبه متعمدة أشير فيها بأصابع الاتهام إلى القذافي، ثم بعد بضعة أيام كانت الطائرات الأميركية تحلق في سماء ليبيا.

 

يستيقظ سكان طرابلس وبني غازي على دوي هدير طائرات مقاتلة واضح تماما، 66 طائرة أميركية تحلق في السماء الليبية وتقصف أهدافا في المدينتين، بما في ذلك المجمع السكني الذي يقيم فيه الرئيس الليبي معمر القذافي، قصف عنيف أودى بحياة ابنته بالتبني (هناء القذافي).

لن يصمت القذافي بالطبع، وسيأتي رده سريعا عبر إطلاق صواريخ سكود تجاه قاعدة عسكرية أميركية في جزيرة لامبيدوزا التابعة لإيطاليا بالبحر المتوسط، ليوجه أنظار العالم ربما لأول مرة منذ زمن طويل صوب تلك الجزيرة الهادئة.

 

رغم هدوء الأحداث نسبيا بعد ذلك ظلت الجزيرة التي داعبها القذافي بصواريخه تقبع في ركن بعيد من خياله السياسي بعد أن علمته السنون أن الغرب لم يكن يعبأ بإمطارها بالصواريخ بقدر ما كان يخشى من إغراقها بالبشر.

بعد قرابة 15 عاما، وفي الأيام الأولى للثورة الليبية استدعى معمر القذافي وزراء الاتحاد الأوروبي في طرابلس ووجه لهم إنذارا بوقف دعم المتظاهرين وإلا فسوف يقوم بتعليق التعاون معهم بشأن الهجرة.

لم تكن العبارة هنا إنشائية أو تهديدا أجوف منه، كان ذلك يعني أن أوروبا سوف تواجه طوفانا بشريا من المهاجرين من شمال أفريقيا.

وبحكم خبرة تاريخية ليست بعيدة سنتطرق إليها لاحقا كان العالم -والأوروبيون في القلب منه- يدركون مدى جدية وخطورة التهديد. 

 

(1) مقبرة الحالمين
مهاجرون ليبيون
مهاجرون ليبيون "بطريقة غير شرعية" إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية 24- 8 – 2004 
 
خلال عامي 2014 و2015 فقد الطريق المار عبر ليبيا الكثير من جاذبيته باعتباره معبرا إلى أوروبا لصالح طريق تركيا اليونان، خاصة بالنسبة إلى اللاجئين السوريين بسبب قصر زمن الرحلة التي تمتد لثلاث ساعات فقط

نحن الآن في لامبيدوزا نفسها بقلب البحر المتوسط على بعد نحو 205 كيلومترات من صقلية الجزيرة البلاجية التي قصفها القذافي بصواريخه قبل ثلاثة عقود كما ذكرنا، جزيرة صغيرة لا تزيد مساحتها على 21 كيلومترا مربعا، ذات أثر تاريخي، بمثابة شاطئ أحلام واسع في خيال جحافل من المهاجرين، ويبدو أنها في معظم الأحيان لا تبادلهم ودا بود.

 

من بين وفود أولئك الباحثين عن أمل بعيد تحملهم قوارب الموت الصغيرة في عرض البحر بشكل شبه يومي ربما كان الطفل أحمد ذو الـ13 عاما وابن مدينة رشيد محظوظا مقارنة برفاقه، رفاق عادة ما يتحولون إلى طعام للحيتان قبل أن يصيروا أرقاما بلا أسماء على صفحات الجرائد ومواقع الإنترنت.

 

وطأ أحمد -وهو الطفل الذي أطلقت عليه صحف إيطاليا لقب "بطل لامبيدوزا الصغير"- شاطئ الجزيرة بلا أي متاع إلا شهادة طبية تخص شقيقه فريد البالغ من العمر سبعة أعوام والمصاب بأحد أمراض الدم النادرة.

بعدها تعاقبت الأحداث سريعا، وأقفلت فصول تلك المأساة على غير العادة على إحدى النهايات السعيدة، على الأقل بالنسبة إلى أحمد وأسرته بعد أن أصدر رئيس الوزراء الإيطالي قرارا باستقدام شقيقه للعلاج في إيطاليا في أغسطس/آب الماضي.

 

بالنسبة إلى المدينة الصغيرة ليست حكاية أحمد إلا إحدى الحكايات المتكررة بلا نهاية، هناك قرابة 340 ألف مهاجر وصلوا أوروبا العام الماضي عن طريق البحر.

من بين تلك الأعداد الضخمة تستأثر مصر بأعلى نسبة للأطفال المهاجرين بلا عوائل، حيث يستغل المهربون القانون الإيطالي الذي ينص على أن "كل طفل غير مصحوب بعائل تطأ قدماه الأراضي الإيطالية هو تحت حماية السلطات الإيطالية، كما أنه لا يرغم على العودة إلى بلاده" من أجل إقناع هؤلاء الأطفال وذويهم بخوض رحلة الموت.

 

وتتابعت فصول المأساة، ففي عام 2014 بلغ عدد الأطفال القصر المهاجرين ألفين بما يمثل نصف عدد المهاجرين المصريين الذين وصلوا إلى إيطاليا، تواصل الأرقام صعودها لتصل نسبة الأطفال القصر إلى 66% في العام الماضي قبل أن تبلغ 77% خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الماضي، أي ما يتعدى الـ2500 طفل، بينما بلغ التعداد الرسمي للمهاجرين الواصلين لأوروبا (إيطاليا واليونان) من مصر هذا العام نحو 8400 شخص حتى الآن.

 

تبدو لنا هنا معلومة أكثر أهمية: هذه التجارة الرائجة لا تقتصر على المصريين فقط، فبحكم الواقع تستضيف مصر عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين، يعيش 60% منهم اعتمادا على دخول تتراوح بين لا شيء و262 جنيها مصريا شهريا، دخول شديدة الضآلة تدفعهم إلى إلقاء أنفسهم في البحر بلا تردد.

 

من لامبيدوزا إلى الإسكندرية المصرية، حيث المهندس المدني أبو حمادة ذو الـ62 عاما، والقادم من إحدى ضواحي دمشق، يدير أبو حمادة -وهو اسم مستعار كما يبدو- إحدى أكبر شبكات التهريب المصرية عبر البحر، شبكة استطاع أن يجني منها أكثر من مليون ونصف يورو أثناء ستة أشهر من خلال تهريب السوريين وغيرهم، وظل طوال عام 2014 ينظم رحلتين أسبوعيا، ليهرب أكثر من عشرة آلاف شخص عبر البحر في العام المذكور فقط.

 

لا يرى أبو حمادة أنه يقوم بأي عمل شائن مثلا، فما الضرر في أن يكسب المال ويفيد أبناء وطنه أيضا، ناظرا إلى رحلة الموت تلك على أنها خدمة جليلة.

تلفت قصة أبو حمادة -التي نشرتها صحيفة غارديان البريطانية مطلع 2015- النظر إلى الفوارق المفزعة بين الأرقام الرسمية والأعداد الحقيقية للمهاجرين عبر البحار، ورغم ذلك فإن أنشطة التهريب في مصر لم تتوقف فقط عن هذا الحد.

 

من الإسكندرية إلى أرض اللواء، لا تختلف المنقطة الشهيرة التابعة لمركز كرداسة في محافظة الجيزة عن مثيلاتها من المناطق الشعبية بالقاهرة الكبرى، نفس المشكلات الشائعة من القمامة والزحام الشديد والأبراج المستحدثة التي ترتفع فوق أراض كانت قبل فترة قريبة أراضي زراعية.

الفارق أنك إذا جلست على مقاهي أرض اللواء سوف تلحظ بوضوح تجمعات الشباب الأفارقة، بجانب الجلسات المعتادة للمصريين من الشباب والحرفيين وأرباب المعاشات، تشهد المنطقة ارتفاعا ملحوظا في أعداد الأفارقة -خاصة الإريتريين- المتوافدين على مصر ضمن موجة اللاجئين الفارين من البلاد منذ عام 2014 بعد أن تم حظر المعارضة السياسية فيها، وبالنسبة إليهم أصبحت مصر هي الطريق المفضل للهجرة إلى أوروبا في خضم خطورة ليبيا الثنائية المتزايدة: سقوطها في يد تنظيم الدولة الإسلامية، والمخاطر التقليدية للعصابات التشادية.

 

يخشى الإريتريون كثيرا من تصفيتهم حال وقوعهم في يد تنظيم الدولة لكونهم غير مسلمين، ولا يقتصر أمر الأفارقة على الإريتريين فقط، فالأكثر احتجازا في مصر بتهم الهجرة غير النظامية هم الصوماليون، مع أعداد ملحوظة من السودانيين. 

 

(2) وليمة لأعشاب البحر 
أبعاد ظاهرة الهجرة غير النظامية من مصر ودوافعها، وتعامل النظام المصري معها 
أبعاد ظاهرة الهجرة غير النظامية من مصر ودوافعها، وتعامل النظام المصري معها 
 

عام واحد إلى الوراء من قصة فتى لامبيدوزا، وقارب آخر يواجه المجهول وظلمات الليل والبحر في مياه المتوسط، يتقلب زورق الموت الصغير في عرض البحر حاملا على متنه 132 طفلا مصريا قاصرا من إجمالي 240 مهاجرا كانوا على متنه قبل أن يتم إنقاذه جنوب جزيرة كريت في اليونان في نهاية أغسطس/آب 2015.

 

بدأت الرحلة كما تبدأ معظم هذه الرحلات عادة عن طريق شخص يعرف على أنه "السمسار" غالبا ما يقيم في إحدى المدن الساحلية المصرية، مثل الإسكندرية أو بلطيم أو عزبة البرج، ويتمتع بعلاقات واسعة، ويمثل الحلقة الأولى في شبكات التهريب، ورغم التباينات الكبيرة بين طرق عمل الشبكات من حيث تنظيم الرحلات والتكلفة المادية وحتى المصطلحات المستخدمة فإن المعالم الرئيسية للرحلة تبقى واحدة غالبا، وهؤلاء السماسرة ليسوا بالضرورة مصريين، فهناك شبكات تهريب يديرها سوريون وفلسطينيون بالاستعانة بوسطاء مصريين لهم علاقات مع قوات خفر السواحل.

 

يداعب السمسار خيال زبائنه -سواء كانوا من اللاجئين أو من أهالي الأطفال- بأحلام الهجرة إلى أوروبا حيث الأموال الوفيرة والفرص والواسعة، ويقنعهم بدفع تكاليف الرحلة، وغالبا ما يتكلف المقعد الواحد في سفن الموت بين 1500 وثلاثة آلاف دولار، ولا يتوقف سعر رحلة الموت على عمر الطفل فقط، ولكنه يرتبط أيضا بشبكة التهريب التي تلقته، ومقر إقامته في مصر، وشكل علاقته وأسرته بالسمسار، والحالة الفنية للسفينة، وأيضا أعداد الرفقاء على متن زوارق الموت المحملة غالبا بثلاثة إلى أربعة أضعاف حمولتها الطبيعية.

ويلجأ السماسرة عموما إلى مجابهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة بزيادة حمولة رحلاتهم لتخفيض قيمة الرحلة، وبالتالي زيادة حجم المخاطرة وفرصة تحول هؤلاء الأطفال بين عشية وضحاها إلى وليمة لأعشاب البحر.

 

تفضل الشبكات استئجار بعض القاصرين ممن يجيدون قيادة القوارب من أجل قيادة الرحلات مقابل الحصول على توصيلة مجانية إلى أوروبا، ولكن الأمر الأكثر شيوعا هو استئجار صيادي الأسماك المتدهورة أحوالهم بفعل الانهيار الاقتصادي.

هناك ما بين مئتين وثلاثمئة ألف عامل في قطاع صيد الأسماك في مصر، وهو عدد يتقلص بالآلاف بشكل شبه سنوي، فيجني مثلا أبو أيمن -وهو اسم مستعار- 650 دولارا عن كل شخص يهربه، بما يزيد على عشرة آلاف دولار للرحلة الواحدة مقارنة بـ65 دولارا فقط لكل يوم أو يومين من أيام الصيد العادية.
 

تسبب انضمام الصيادين إلى شبكات التهريب في توسعها، بسبب انخفاض تكلفة الحصول على القوارب إلى بضع مئات من الدولارات للقوارب الرديئة وصولا إلى بضعة آلاف للقوارب الجيدة.

دفع هذا البعض إلى بيع شققهم من أجل شراء قوارب تحقق لهم ثراء سريعا، حيث يكفي تنظيم رحلة واحدة أو رحلتين ناجحتين في تغطية التكاليف الرئيسية للاستثمار هنا، وتتعاون شبكات التهريب الكبرى مع هؤلاء الأفراد إذا اقتضت مصلحتهم ذلك، ولكن توسع تجاره التهريب أدى إلى ظهور العديد من الشبكات غير المستقرة ربما تظهر وتتلاشى في غضون أسابيع.

 

بمجرد اتخاذ القرار ودفع العمولات تبدأ مرحلة الاستعداد للرحلة، يمضي المتقدمون بضعة أيام وربما أسابيع في انتظار مكالمة هاتفية يتم إبلاغهم فيها بالتوجه إلى مكان معين، حيث تقوم السيارات بنقلهم إلى أحد المنازل الآمنة لقضاء بعضة أيام قبل الانتقال إلى الميناء أو الشاطئ.

في معظم الرحلات تقوم الزوارق الهوائية بحملهم إلى منتصف البحر، تنتظرهم إحدى السفن الراسية على بعد أميال لإيصالهم إلى المياه التجارية، ثم يتم تركهم في قوارب رديئة بانتظار أن يتم إنقاذهم من قبل إحدى السفن العابرة أو مواجهة المصير المحتوم.

 

(3) انتقام القذافي.. من ليبيا إلى مصر
"مع انهيار نظام القذافي في أغسطس/آب 2011 انخفض ضغط الهجرة بشكل كامل تقريبا، وظلت حالات الهجرة في عام 2012 منخفضة جدا، ولكن العام التالي شهد الذروة الثانية في أعداد المهاجرين من ليبيا قبل أن تصل الهجرات إلى مستوى مذهل عام 2014 بوصول 170 ألف مهاجر إلى إيطاليا، وهو أكبر تدفق على بلد واحد في تاريخ الاتحاد الأوروبي" وكالة الحدود الأوروبية (فرونتيس)

 

معمر القذافي في قمة أفريقيا - الاتحاد الأوروبي 2010ليبيا29-11-2010 
معمر القذافي في قمة أفريقيا – الاتحاد الأوروبي 2010ليبيا29-11-2010 
 
تشير مصادر إلى ضلوع محتمل للسلطات المصرية في عمليات التهريب على الحدود الشرقية عبر شبكات تهريب يشرف على بعضها ضباط الجيش المصري والمخابرات بالتعاون مع بعض القبائل الليبية

العام 2010 يجلس كبار المسؤولين الأوروبيين والأفارقة في قمة أفريقيا-الاتحاد الأوروبي يستمعون إلى خطاب القذافي بينما يعلن الرئيس الليبي بشكل مباشر أن بلاده لم تعد ترغب منذ الآن في أداء دور خفر سواحل أوروبا مجانا، مطالبا البلدان المسيحية -كما سماها- بدفع مبلغ خمسة مليارات يورو لبلاده من أجل إنشاء مصلحة للمهاجرين وتهيئة مخيمات للاجئين في البلاد وشراء الزوارق وتدعيم الدوريات وإلا فإن أوروبا سوف تتحول إلى سيرك أسود كبير يتحكم فيه المهاجرون الأفارقة.

 

كان قادة الاتحاد الأوروبي قد وصلوا إلى قناعة تامة عبر التجربة أن القذافي بإمكانه التحكم بهذا الملف تماما، ورغم لغته الفكاهية في نظر الكثيرين كان خطاب القذافي مفعما بالقوة والثقة بعد أن نجح في عام القمة بإيقاف موجة التدفقات إلى أوروبا بشكل كبير، فعلى مدار العام المذكور بالكامل لم يطأ شواطئ أوروبا سوى 234 مهاجرا فقط قادمين من ليبيا.

 

أدرك القذافي بالتجربة أن الانتصار في الحروب لا يتمحور فقط حول استخدام القوة العسكرية التقليدية، خاصة في مواجهة خصوم يتفوقون بشكل بارز فيها، ومن خلال نفوذه الكبير في القارة السمراء وعلاقاته الواسعة مع حركات التمرد التي تتحكم في طرق التهريب وقبضته الأمنية الصارمة التي تشمل احتكار استخدام الأدوات الأمنية، من سيارات الدفع الرباعي إلى هواتف الثريا نجح القذافي في امتلاك أكبر قدر من التحكم في صنبور الهجرات المتدفقة.

في الواقع كان القذافي يستخدم سلاحا مجربا، فمنذ الحرب العالمية الثانية تمت هندسة 56 أزمة تهجير قسري ناجحة لتحقيق أهداف سياسية، أي بمعدل أزمة واحدة على الأقل كل عام، الإحصائية لباحثة العلوم السياسية كيلي غرينهيل في كتابها "أسلحة الهجرة الشاملة"، وكما يدرك الأوروبيون قدرة القذافي على السيطرة على الأمور فإنهم يقدرون مدى جدية تهديداته أيضا.

 

قبل ستة أعوام فقط من القمة -وبالتحديد في عام 2004- أغرقت ليبيا شواطئ لامبيدوزا بأكثر من تسعة آلاف مهاجر، دافعة الاتحاد الأوروبي إلى إبرام اتفاق سريع تم بموجبه رفع الجزء المتبقي من العقوبات الغربية مع ليبيا مقابل ضمان تعاون طرابلس في وقف تدفق اللاجئين، وكانت تقديرات الاتحاد الأوروبي للأرقام المتوقعة للتدفقات مخيفة بما يكفي وتراوحت بين 750 ألفا إلى مليون شخص.

 

يبدو أن اللعبة الجديدة حينها راقت للقذافي، حيث دأب على ممارستها في أوقات فراغه السياسي مقابل الحصول على المساعدات المالية والعينية، وقبل ذلك ضمان أن أوروبا سوف تغض الطرف تماما عن حكمه الاستبدادي.

في عام 2006 انتزع القذافي حزمة مساعدات مالية كبيرة مقابل تجديد التزامه بوقف تدفق الهجرة، وبعدها بعامين فقط أبرم صفقته الكبرى، وحصل بموجبها على خمسة مليارات دولار ثمنا لتسوية استحقاقات ليبيا عن فترة الاستعمار الإيطالي، وفي عام القمة 2010 نجح القذافي أيضا في انتزاع مساعدات مالية ومعدات بحرية من الاتحاد الأوروبي تحت شعار مكافحة الهجرة، آخرها كان مبلغ نصف مليار يورو قبل بضعة أشهر من اندلاع موجه الربيع العربي في تونس المجاورة أواخر نفس العام.

 

ولكن القبضة الحديدية التي أعطت القذافي هذا التحكم الهائل في تدفقات اللاجئين سرعان ما انهارت في أعقاب الإطاحة به، واستقبلت لامبيدوزا أكثر من ثلاثين ألف مهاجر أثناء الفترة من فبراير/شباط إلى أبريل/نيسان 2011، وانهارت المؤسسات الأمنية والعسكرية لنظام القذافي، واقتسمت المليشيات الجهوية والقبلية السلطة والسلاح، وتزايد نفوذ الحركات الانفصالية، وتحالفت عصابات التهريب مع المليشيات المسلحة لتحويل ليبيا إلى مركز إعداد لوجستي للهجرة غير النظامية، وصار المهربون يديرون أنشطتهم من خلال صفحات علنية على مواقع التواصل الاجتماعي.

تدعو إحدى تلك الصفحات -التي تم إغلاق معظمها- الراغبين في الهجرة إلى إيطاليا للتوجه إلى ميناء زوارة، حيث توجد العديد من القوارب، والتسعيرة المعلنة هي ألف دولار لكل بالغ، ونصفها لكل طفل، والرضع مجانا، كما كانت هذه الصفحات توفر خدمات الاستعلام ومتابعة الرحلات السابقة ومواعيد الرحلات التالية.

 

هناك طريقان رئيسيان للذهاب إلى أوروبا عبر البحر، الأول هو طريق جنوب المتوسط التقليدي من ليبيا وتونس والمغرب عبر البحر إلى سواحل إيطاليا واليونان، والثاني هو الطريق من تركيا إلى اليونان المار عبر شرق المتوسط وبحر إيجة.

خلال عامي 2014 و2015 فقد الطريق المار عبر ليبيا الكثير من جاذبيته باعتباره معبرا إلى أوربا لصالح طريق تركيا اليونان، خاصة بالنسبة إلى اللاجئين السوريين بسبب قصر زمن الرحلة التي تمتد لثلاث ساعات فقط مقارنة بيوم كامل أو أقل قليلا في حال ركوب المتوسط عبر ليبيا، وأيضا بسبب انخفاض التكلفة، وسهولة الولوج إلى الأراضي التركية بسبب التسهيلات التي تمنحها تركيا للاجئين السوريين.

تدفق المهاجرين إلى إيطاليا عبر ليبيا 
تدفق المهاجرين إلى إيطاليا عبر ليبيا 
 

وفي عام 2015 استخدم 64 ألف مهاجر طريق تركيا اليونان مقابل أربعين ألفا استخدموا الطريق من ليبيا إلى إيطاليا، ولكن أعداد المتدفقين عبر تركيا شهدت تراجعا ملحوظا في أعقاب توقيع اتفاقية اللاجئين بين تركيا والاتحاد الأوروبي في مارس/آذار 2016.

 

الصحف الألمانية تلمح إلى أن السلطات المصرية تدرك تنامي ظاهرة الهجرة غير القانونية، ولكنها تنتظر أن تقوم بروكسل بإرسال مندوبين لها للتفاوض ربما بهدف الحصول على بعض المال أسوة بأنقرة أو حتى ليبيا

ورغم تزايد أعداد المهاجرين عبر المتوسط من مصر في الأشهر الأخيرة لا تزال ليبيا الطريق المفضل لعابري البحر، ومن الصعب القول إن مصر يمكن أن تنافسها في وقت قريب، ورغم تراجع جاذبية ليبيا بالنسبة إلى العديد من المهاجرين لأسباب ذكرناها فإنها ما زالت تتفوق على مصر بشكل كبير من حيث عوامل الجغرافيا، فلا تتعدى المسافة بين شمال ليبيا وشواطئ إيطاليا الجنوبية ثلاثمئة كيلومتر في أسوأ الأحوال، وهي مسافة يمكن قطعها في ما بين عشر ساعات ويوم كامل على أقصى تقدير، بينما تستغرق الرحلة انطلاقا من مصر قرابة أسبوع إلى أسبوعين، وغالبا ما يترك المهربون المهاجرين بمفردهم في المياه التجارية بسفن متهالكة ينتظرون قيام إحدى السفن العابرة بإنقاذهم على بعد مئات الأميال من أقرب الشواطئ الإيطالية.
 

على الجانب الآخر، صارت مصر تمثل معبرا لتوريد اللاجئين إلى ليبيا أيضا عبر حدودها، وأثناء عهد الرئيس المعزول محمد مرسي استضافت مصر قرابة ثلاثمئة ألف لاجئ سوري، وسمح لهم بالبقاء في البلاد من خلال جوازات سفرهم فقط.

هؤلاء اللاجئون صاروا يواجهون المجهول بعد صعود عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، مما دفع العديد من السوريين للخروج من مصر إلى ليبيا عبر الحدود في عامي 2013 و2014 فرارا من التضييق الحكومي.

 

(4) "ابتزاز" الساسة وتجارة البشر
"تهريب البشر في مصر صناعة مكتملة ناجعة جدا وشديدة الفساد". (تيوسداي رايتانو أحد مسؤولي المبادرة العالمية ضد الجريمة المنظمة العابرة للحدود)

 

السيسي في مؤتمر عن الهجرة الغير شرعية إلى أوروبا
السيسي في مؤتمر عن الهجرة الغير شرعية إلى أوروبا
 

يقف رئيس جهاز الاستخبارات الداخلية الإيطالية إمريو بارينتي منتصبا يدلي بشهادته أمام لجنة الشؤون الداخلية للبرلمان الإيطالي، كان جزء من شهادته هذه المرة متعلقا بمصر التي لم تكن غائبة عن المناقشات الحامية في قصر مونتسيتوريو على مدار الأشهر الماضية.

في خلفية المشهد تهيمن توترات غير مسبوقة على العلاقات بين القاهرة وروما بسبب قضية مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، والتي لم تتكشف كامل ملابساتها رسميا حتى لحظة كتابة هذه السطور، ولكن شهادة المسؤول الإيطالي رفيع المستوى كانت بعيدة عن المعركة الطاحنة بين البلدين بسبب ريجيني، على الأقل في ظاهر الأمر.

 

بحكم عمله يشرف بارينتي على الشؤون المتعلقة بجحافل المهاجرين المتدفقين على شواطئ بلاده الجنوبية عبر المتوسط، جاءت الشهادة على ذكر أعداد المهاجرين الذين وصلوا إلى إيطاليا عبر السواحل المصرية فرصدت السلطات الإيطالية تضاعف هذه الأعداد أثناء النصف الأول من العام الماضي مقارنة بأعدادهم في عام 2015. 

 

القول إن تهريب البشر في مصر صار صناعة ناجعة وشديدة الفساد لا بد أن يكون مقلقا بما يكفي، ورغم أن وصفا كهذا يبدو صادما بعد الشيء وربما يراه البعض مبالغا فيه بشكل ما فإن المؤكد أن رايتانو لا ينفرد وحده بهذا الرأي، ويمكن تلمس هذه النبرة بوضوح في حديث العديد من المسؤولين الأوروبيين مؤخرا.

في أغسطس/آب الماضي نقلت صحيفة زود دويتشه تسايتونغ تصريحا عن وزارة الخارجية الألمانية أكدت فيه أن "عمليات العبور التي انطلقت من السواحل المصرية قد ارتفعت بنسبة 11% لتصبح مصر ثاني أهم بلد للعبور بعد ليبيا".

 

لا يقتصر الأمر في ما يبدو على موجات الهجرة العشوائية أو تسهيل فرار اللاجئين السوريين من مصر من أجل ركوب البحر ليبيا، فأحد أبطال القصة الآخرين هو حليف السيسي الأقرب في ليبيا اللواء خليفة حفتر المتمتع بعلاقات وثيقة مع قبائل التبو المسيطرة على طرق نقل المهاجرين غير الشرعيين.

يقتفي حفتر خطى القذافي في ابتزاز دعم الغرب عن طريق الهجرة غير النظامية، فيما تشير مصادر إلى ضلوع محتمل للسلطات المصرية في عمليات التهريب على الحدود الشرقية عبر شبكات تهريب يشرف على بعضها ضباط الجيش المصري والمخابرات بالتعاون مع بعض القبائل الليبية، مشيرة إلى أن 30% من عمليات تهريب المهاجرين إلى داخل ليبيا تمر عبر الحدود المصرية.

 

ترحيل عدد من المهاجريين غير الشرعيين إلى مصر
ترحيل عدد من المهاجريين غير الشرعيين إلى مصر
 

تبلغ أنباء العلاقات بين المهربين والسلطات الحدودية المصرية حد التواتر، يحكي أبو حمادة -الذي ذكرنا قصته في البداية- أن أحد زبائنه من اللاجئين السوريين الذين ألقي القبض عليهم أكد له أحد الضباط أثناء احتجازه على وجود علاقة بين المهربين والسلطات، وأنهم يعلمون عن الرحلات من المهربين أنفسهم، حيث يقومون بتوقيف 80% منها وترك 20% منها تكتمل.
 

وجهة نظر أخرى يمكن تلمسها بوضوح في إيطاليا خصوصا، وهي أن مصر تتغاضى عمدا عن تدفقات اللاجئين إليها كشكل من أشكال الانتقام في ضوء التوتر الراهن في العلاقة بين البلدين على خلفية مقتل الباحث جوليو ريجيني

يقول أبو حمادة أيضا أنه يتم دفع مئة ألف جنيه مصري للمسؤولين من أجل تمرير رحلة واحدة، ولكن البعض يعتقد أن تواطؤ السلطات في عمليات التهريب يتجاوز تعاون السلطات المحلية بهدف الحصول على المال إلى تواطؤ منظم يهدف إلى تحقيق أهداف سياسية.

ولا تخفي بروكسل شعورها بالقلق من أن السلطات المصرية لا تفعل ما يكفي من أجل وقف تدفقات اللاجئين (أصدرت مصر في 8 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي قانون مكافحة الهجرة غير النظامية).

تلمح الصحف الألمانية إلى أن السلطات المصرية تدرك تنامي الظاهرة، ولكنها تنتظر أن تقوم بروكسل بإرسال مندوبين لها للتفاوض ربما بهدف الحصول على بعض المال أسوة بأنقرة أو حتى ليبيا.

ويتواصل الجدل في أوروبا بشأن رغبة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في اتفاقية للحد من الهجرة غير النظامية مع مصر وتونس، وهو ما يواجه اعتراضا كبيرا داخل المفوضية الأوروبية خوفا من أن تتحول هذه الاتفاقات إلى طريقة ناجحة لابتزاز بروكسل، ورهن إيقاف موجات اللاجئين بتدفق المساعدات الأوروبية.

 

هناك وجهة نظر أخرى يمكن تلمسها بوضوح في إيطاليا خصوصا، وهي أن مصر تتغاضى عمدا عن تدفقات اللاجئين إليها كشكل من أشكال الانتقام في ضوء التوترات الراهنة في العلاقات بين البلدين على خلفية مقتل الباحث جوليو ريجيني، وقرار البرلمان الإيطالي وقف تزويد مصر بقطع غيار طائرات حربية مطلع العام الماضي.

مقارنة بالقذافي لا يمكننا القول بعد إن الهجرة غير النظامية قد تحولت إلى بضاعة سياسية للسلطات المصرية، ولكن مع التنامي الملحوظ للظاهرة في الأشهر الأخيرة وبعد أن أثبت البشر فاعليتهم باعتبارهم أسلحة رخيصة الثمن لخدمة أهداف الساسة والطغاة فإن جميع الاحتمالات تبقى مفتوحة على مصراعيها.

المصدر : الجزيرة