شعار قسم ميدان

روح الاقتصاد العالمي.. كيف تهيمن أميركا على العالم بالدولار؟

midan - الدولار

بدت أشهر المباحثات الطويلة بين البنك الوطني الفرنسي "باريبا" وبين عدة جهات أميركية، تأتي وزارة العدل على رأسها، قابلة للتمدد. لم يكن الأمر هذه المرة متعلقا بصفقة متبادلة يختلف فيها الطرفان الفرنسي والأميركي حول شرط ما أو عدة شروط، بل تعدى ما حدث هذه المرحلة التقليدية لتصبح الأزمة القائمة في أيدي محكمة نيويورك نفسها، بينما يتدخل الرئيس الفرنسي حينها، فرانسوا هولاند، لمحاولة إنهائها، وهو ما حدث بالفعل باعتراف البنك الفرنسي بالتهم الجنائية الموجهة إليه، ورضا مسؤوليه بدفع غرامة بلغت 8.9 مليار دولار لواشنطن رأسا.

 

حدثت الضربة الأميركية -إن جاز القول- للفرنسيين في الثلاثين من (يونيو/حزيران) عام 2014، لكن جذور(1) تلك القصة تسبق ذلك التاريخ بحوالي ثماني سنوات، وبالتحديد في عام 2006، عندما أطلقت الإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش تحذيراتها للبنوك الأجنبية على أراضيها من التعامل بالدولار مع أي دولة تخضع لعقوبات الولايات المتحدة. يمكن بالطبع تخيل بعض أو غالبية أسماء الدول في هكذا قائمة، وإن كانت ثلاث منها على وجه الخصوص: إيران وكوبا والسودان، هي المعنية الرئيسة بالتحذير الأميركي الصارم، وهي بالتحديد من أعلن رئيس "باريبا" بالفعل عام 2007 إنهاء تعاملات البنك معها.

 

في 2014 عرف العالم أن ما أعلنه البنك لم يكن صحيحا، وأن التعاملات المالية مع هذه الدول قد ظلت على حالها، وإن اتخذت طابعا شديد السرية، لتصل بحلول عام 2012 إلى 190 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم مقارنة بما اُضطر البنك لدفعه بعد إقراره بمخالفته للتعليمات الأميركية، والتي تعلقت في جزء منها بالتعامل مع البنوك المحلية للدول المذكورة، والتي بدورها تساهم في دعم حكوماتها "الإرهابية" كما تراها واشنطن، لذا كانت العقوبة، التي اُعتُبرت ضخمة أيضا بالنسبة لحالات مماثلة، وسيلة(2) أميركية أصيلة لردع البنوك الأجنبية الأخرى العاملة على أراضي الولايات من الإتيان بفعل مماثل، يخالف السياسة الأميركية.

 

بنك باريبا الفرنسي (رويترز)
بنك باريبا الفرنسي (رويترز)

 
تكررت الحادثة السابقة مع بنوك أخرى أجنبية في الولايات، وإن اختلفت الأسباب الداعية لها، لكن هذه القضية تحديدا قد ارتبطت بدولة تُعد حليفا قويا لواشنطن: فرنسا، وبالبنك الأكبر فيها، ولم يبد أن أيًّا من هذا قد شكّل دافعا في أي مرحلة لمسؤولي الولايات المتحدة للتفكير مرتين عندما تعلق الأمر باتخاذ إجراءات نافذة وفعالة لضبط منظومة العقوبات المفروضة أميركيا على دول عدة، وعلى الرغم من اختلاف الوسائل التي تستخدمها واشنطن أيضا للضغط على الدول المعارضة لها من منظورها، فإن منظومة العقوبات الأميركية تبدو الأكثر قدرة عالميا على تحييد أعداء الولايات المتحدة، ودفعهم دفعا إما إلى الرضا بما تُمليه من شروط، وإما البقاء تحت ضغوط اقتصادية هائلة، يزيد من قوتها حصار يُمليه مبدأ واشنطن الأثير: "إن لم تكن في صفوف حلفائنا، فأنت من أعدائنا".

 

استوعب مسؤولو بنك باريبا الفرنسي الرسالة المليارية، خاصة مع بند إنهاء عمل 13 فردا من مسؤولي البنك، وفرض خصومات وتخفيض العلاوات لبعض من صغار الموظفين، لذا بادر البنك بإنشاء قسم "الأمن المالي العالمي" في نيويورك، لمراقبة التعاملات المالية التي تقوم بها أفرعه مع الدول والعملاء، وكذا لضمان الامتثال للقواعد والقوانين الأميركية. ولكن، وإن سارت الأمور بسلاسة نسبيا مع أحد البنوك الذي اعتُبر من القلة القليلة الناجية من الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008، والذي تُعد تلك الغرامة المليارية مجرد خسائر جانبية ضئيلة بالنسبة له، فلا يمكن القول إن الأمور سارت بنفس السلاسة مع الدول التي تضررت أولا من العقوبات الأميركية، ثم من الحصار المتقن الذي مارسته واشنطن عليها من بعد فرض عقوباتها، وتحديدا مع شعوب تلك الدول، لا يعيشون بالسيف، لكنهم بالتأكيد يموتون به.

 

القبضة الخضراء

لا تُعد العقوبات الاقتصادية شأنا أميركيا خالصا، وإن اعتُبرت(3) الولايات المتحدة أكثر الدول استخداما لها عالميا، لكنها تُعد الوسيلة الأكثر أمانا -إن جاز التعبير- لمحاولة تغيير القرارات الإستراتيجية للجهات الحكومية أو غير الحكومية، والتي تُهدد بطريقة ما المصالح العالمية "الأمن والسلم العالميين" أو تنتهك قواعد السلوك الدولية، وفي هذا تأتي الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي على رأس القائمة، ففي الوقت الذي تتوقف عنده الحلول الدبلوماسية عن العمل، مع عدم القدرة على التدخل العسكري لإنهاء صراع قائم، تفرض العقوبات الاقتصادية نفسها كوسيلة وسط لإجبار الأطراف المعنية على الجلوس إلى مائدة التفاوض، وإنهاء الأزمة القائمة. في الوقت ذاته، تمتلك(4) الولايات المتحدة، من بين دول وجهات عالمية عدة، تاريخا طويلا مع العقوبات الاقتصادية، والذي يمتد إلى عام 1812 حينما فرضت الخزانة الأميركية عقوبات اقتصادية على بريطانيا العظمى لمضايقة بحارة أميركيين. 

  

أوفاك: مكتب مراقبة الأصول الأجنبية تابع لوزارة الخزانة الأميركية (رويترز)
أوفاك: مكتب مراقبة الأصول الأجنبية تابع لوزارة الخزانة الأميركية (رويترز)

 
أنشأت الولايات المتحدة مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، المعروف بـ "أوفاك"، مع بدايات الحرب العالمية الثانية، بهدف حظر الأصول المالية والمعاملات التجارية لدول المحور، وهو دور لعبه أوفاك بجدارة منذ إنشائه بشكل رسمي عام 1950، وحتى الآن. فالمكتب التابع لوزارة الخزانة الأميركية سيتولى، وفقا للسياسات الخارجية والأمن القومي الأميركي، مهمة(5) إدارة وتنفيذ العقوبات الاقتصادية والتجارية ضد الدول والأفراد والمنظمات التي تهدد المصالح الأميركية، سواء على الأراضي الأميركية أو خارجها، بالتعاون مع الحكومات الصديقة والمتحالفة مع واشنطن.

 

ما بدأ كوسيلة لمحاربة النازية الألمانية خلال الحرب العالمية تطور فيما بعد ليُصبح "الأداة المُفضلة(6)" للولايات المتحدة كما سماها "جاك ليو" وزير الخزانة الأميركية الأسبق، بداية من السعي لوضع حد لكارتلات المخدرات والهجمات الإلكترونية عالميا، ووصولا إلى محاربة "التنظيمات الإرهابية"، وتصنفها واشنطن كما تشاء، ووقف تمويل الجماعات الجهادية حول العالم. كانت العقوبات الاقتصادية الوسيلة الأنسب، وأسهمت بشكل فعلي في وضع "القوائم السوداء" للخارجية الأميركية من منظمات وأفراد وشركات "خارج النظام المالي العالمي" كما وصف ليو.

 

لا ينفي ما سبق اعتبار العقوبات عامة والاقتصادية خاصة وسائل تدخل في الشؤون الدولية لبعض الدول، وإن كانت "أكثر ملائمة" كما يعتبرها صانعو السياسات حول العالم، وكذا أقل تكلفة وخطرا من التدخل العسكري، ما يجعلها مناسبة لسياسات الدول الغربية الحالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، الهادفة لوضع حد للتهديدات المحتملة لمصالحها، من خلال حظر العلاقات التجارية والاقتصادية مع الدول المعنية، إما بشكل كامل كما حدث مع "كوبا" بعد ثورة 1959، حيث أعلنت الولايات المتحدة حظرا تجاريا شاملا على الدولة الشيوعية الناشئة حينها، وإما بحظر التعامل التجاري مع أفراد أو منظمات أو شركات بعينها داخل الدولة، وهو ما حدث مؤخرا(7) مع روسيا بحظر اقتصادي أشعل أزمة في أوروبا، إذ طال(8) شركات ومشاريع روسية بطول القارة العجوز وعرضها.

  

 
يصنع النموذجان السابقان خطا عريضا للتطورات الحادثة في سياسة العقوبات الأميركية، ما بين العقوبات الشاملة إلى ما عُرف بعد ذلك "بالعقوبات الذكية"، والتي تُفرض على أشخاص بعينهم أو شركات، وهي سياسة تستخدمها الولايات المتحدة حاليا لتجنب تكرار الأزمة الكوبية، والتي عانى فيها الشعب الكوبي أثر العقوبات الشاملة على النظام الحاكم، وهي أزمة تكررت أيضا في العراق مطلع التسعينيات، عندما فرض مجلس الأمن بمباركة الولايات المتحدة حظرا تجاريا شاملا على العراق، تسبب(9) في وصول التضخم الاقتصادي إلى معدل 24000% بحلول 1994، هذا بالإضافة إلى الآلاف من حالات الوفيات بين صفوف المدنيين نتيجة نقص الغذاء والدواء وعدم قدرة الحكومة على الحصول عليهم بسبب الحظر، وهو خطأ حاولت الأمم المتحدة إصلاحه ببرنامج "النفط مقابل الغذاء"، وكان يتم فيه بيع النفط العراقي، بمعرفة الأمم المتحدة، واستبدال أمواله بالغذاء والدواء والمتطلبات الأساسية لحاجة الشعب العراقي.

 

أنتجت العقوبات الاقتصادية والتجارية الشاملة أزمة للشعوب المعنية، كما في النموذجين السابقين، لكن هذا لم يعن بالتبعية أن النموذج البديل "العقوبات الذكية" كان حلا مثاليا، بافتراض أنه للولايات المتحدة الحق في فرض أي عقوبات على الدول المعارضة لسياساتها، وهو ما لم يكن حقيقيا أغلب الأمر، إذ انقسمت الدول ما بين نموذج أكثر شعبية، اتخذت فيه حكومات عدة من العقوبات الأميركية وسيلة لبناء حاضنة شعبية تتخذ من شيطنة واشنطن وسيلة مثلى، وعلى رأس هذا النموذج كانت إيران بتاريخ طويل ومتصل من العقوبات الأميركية المفروضة عليها، بينما في نموذج آخر مالت بعض الدول أو الجماعات داخلها إلى المعسكر الأميركي لإيجاد مخرج من أثر العقوبات المفروضة عليها، وكانت أعمال العنف القريبة في فنزويلا خير مثال على ذلك.

 

"كاراكاس" وأمور أخرى

يقف ضابط التحقيقات أوسكار بيريز بزيه العسكري أمام عدسة الكاميرا، مُحاطا بمجموعة من الضباط الملثمين، ومُعلنا للشعب الفنزويلي عن تشكيل "ائتلاف قوى الأمن" المعارض لحكم الرئيس الفنزويلي الحالي نيكولاس مادورو. ائتلاف أعلن بداية معارضته باختطاف هليكوبتر تابعة للشرطة، والهجوم بها على مبنى المحكمة العليا في العاصمة الفنزويلية، كاراكاس، في الثامن والعشرين من (أغسطس/آب) الماضي، وفي الوقت ذاته الذي كان فيه الرئيس مادورو يُلقي خطابا بالقصر الرئاسي، ليُعلن(10) أن الهجوم الذي نفذه "إرهابيون" سيلقى ردًّا من قوات الجيش البوليفاري، نسبة إلى سيمون بوليفار.

 

 

لا تتوقف أخبار(11) العنف عن القدوم من فنزويلا منذ (أبريل/نيسان) الماضي، وإن كان الصراع الفعلي بين المعارضة اليمينية والحكومة اليسارية بزعامة مادورو قد بدأ منذ انتخابات 2015، حينما حصلت المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية على ثلثي مقاعد البرلمان، وبدأت معها حملة مضادة لسياسات مادورو التي تراها سببا في الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصف بفنزويلا متسببة في غلاء الأسعار واختفاء الدواء والحاجات الأساسية من الأسواق، ما اعتُبر مفارقة لا تتسق مع واقع الدولة الغنية بالنفط الخام، أما اتجاه المعارضة إلى العنف، فقد اتخذ مساره منذ أن حاولت المحكمة العليا الفنزويلية إصدار قرارات تحد من سلطة البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، ما اعتبرته -المعارضة- انقلابا على الحكم الديمقراطي بالبلاد، لتتجه إلى الشارع مُطالبة بتنحي مادورو عن الحكم، وإجراء انتخابات مبكرة.

 

تُدرك الحكومة في فنزويلا أن انتخابات رئاسية مبكرة لن تكون في صالح الحكومة أو مادورو، خاصة مع تردي الأوضاع المعيشية والميل الشعبي إلى صفوف المعارضة، وهو ما ظهر أثره بالفعل في انتخابات 2015، ودفع هذا بمادورو إلى الوقوف بقوة أمام المظاهرات شبه اليومية التي تنظمها المعارضة في أنحاء فنزويلا كافة، لكنّ وجها آخر للأزمة قد تجلى تحديدا مع وقوف الولايات المتحدة إلى صف المعارضة، ثم فرضها عقوبات اقتصادية(12) على الحكومة، ما أدى إلى تفاقم الأزمة من كافة الاتجاهات.

 

من ناحية، زادت العقوبات الموجهة لحظر التعامل مع شركات النفط أو شراء سندات الخزينة التي تصدرها الحكومة الفنزويلية من أزمة اقتصادية عنيفة يعيشها المدنيون بالفعل نتيجة لاعتماد الاقتصاد بشكل شبه كلي على النفط، والتي تُشكّل واشنطن فيه أحد أكبر عملاء فنزويلا، على الأقل حتى قبل الأزمة الأخيرة، ومن ناحية أخرى، فالمعارضة الشعبية للولايات المتحدة داخليا ستزداد(13)، خاصة مع الدعاية الحكومية التي تجعلها في واجهة الأزمة الاقتصادية، وسببا لها، ما سيزيد من حدة الأزمة السياسية المتفاقمة بالفعل بالداخل الفنزويلي.

  

 
لم تُشكّل أوضاع المدنيين في فنزويلا فارقا في قرار الولايات المتحدة بفرض عقوباتها الاقتصادية على الحكومة، وهي أوضاع تزداد سوءا بدعمها لأعمال العنف التي تتشارك المعارضة والحكومة مسؤولية إشعالها منذ شهور عدة وحتى الآن دون بادرة لحل قد يضع حدًّا للأزمة الحالية، لكنّ جانبا آخر من الأزمة جعل من فنزويلا نموذجا لما قد تذهب إليه الولايات المتحدة لإحكام سيطرتها على دولة ما، وتشترك فيه الولايات المتحدة هذه المرة مع الإعلام بجانب منظمات حقوق الإنسان العالمية، وعلى رأسها منظمتا أمنيستي وهيومن رايتس ووتش، ففي حين كانت تخوفات من كليهما تنصب حول أعمال العنف الموجهة من الحكومة إلى المعارضة، لم يُبد أيهما قلقا بشأن أعمال العنف التي تتزعمها المعارضة ضد منشآت ومقار الحكومة، وعلى رأسها هجوم المحكمة العامة في (أغسطس/آب) السابق.
  
وقد أعلنت(14) تامارا برونر، المتخصصة في شؤون الأميركتين بمنظمة هيومن رايتس ووتش، أنه "على أميركا اللاتينية أن تُظهر للعالم أنها لن تتسامح مع ديكتاتورية متكاملة، وقادرة على ارتكاب انتهاكات واسعة النطاق ضد شعبها"، فيما أدانت(15) إريكا جيفارا، مديرة منظمة أمنيستي، "انحياز الحكومة في فنزويلا ضد المعارضة"، معلنة أن الحكومة "تعيش في عالم موازٍ لا تستمع فيه لمطالب من يُخالفها". لم يتوقف الحصار الأميركي للحكومة الفنزويلية عند هذا الحد، ففي حين يتولى الإعلام الأميركي مهمة الترويج(16) لـ "ديكتاتورية مادورو"، يقف الاتحاد الأوروبي بجانب الولايات المتحدة في دعمه للمعارضة، بدعم فرنسي(17) مفرد من جانب، وأوروبي من جانب آخر، ومنح(18) الاتحاد الأوروبي نهاية (أكتوبر/تشرين الأول) الماضي المعارضة "الديمقراطية" الفنزويلية كما أسماها جائزة "سخاروف" لحرية الفكر، وهي جائزة تُقدر قيمتها بخمسين ألف يورو.

 

لعبت الحكومة الأميركية بأوراق عدة في الأزمة الفنزويلية الحالية، بداية من الحملات الإعلامية المؤيدة لها، والمدعومة بتقارير منظمات حقوقية ذات ثقل عالمي، ومرورا بجمع الدعم الدولي في التصدي للحكومة وحصارها، وما يشمله هذا من تقديم الدعم الأميركي والدولي للمعارضة، وانتهاء بالعقوبات الاقتصادية، وفي حين أن السياسات الأميركية في هذه الأزمة تحديدا لم تؤتِ أُكلها إلى الآن، لكن الضغوط السياسية والاقتصادية التي سترضخ من تحتها الحكومة الفنزويلية على الأغلب لن تزيد سوى من معاناة المدنيين العاديين دونا عن الحكومة التي ترغب الولايات المتحدة في تقويض سياساتها المعارضة لها.

  

تحت طائلة واشنطن

undefined
 
يعكس
(19) مايكل تشوسودوفسكي الأمر كاملا، فبدلا من التخوف من مزيد من العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة حول العالم، ماذا لو حدث وقررت دولة ما فرض العقوبات على الولايات المتحدة؟ وماذا لو كانت هذه الدولة هي الصين؟

 

تسعى الولايات المتحدة فيما تسعى لإزاحة التهديد العسكري الذي تمثله كوريا الشمالية جانبا، لذا تبرز الأزمة هنا، وهي أن 90% من حجم التبادل التجاري الكوري الشمالي يقع مع جمهورية الصين الشعبية، أما الجانب الآخر فيكمن في أن بكين هي الشريك التجاري الأكبر للولايات المتحدة، أي إن بكين، وباختصار، لا يمكن المساس بها على الأرجح. لذا يقود ما سبق من جديد إلى التساؤل حول ما إذا كانت منظومة العقوبات الأميركية تسعى بالفعل نحو تقويم سلوك الدول أو المنظمات التي "تنتهك القواعد الدولية" -إن جاز القول-، أم أنها تسعى لتحقيق المصالح الأميركية حول العالم؟

 

يُجيب عن هذا التساؤل ريتشارد هاس منذ سنوات طويلة، في مقاله(20) على موقع بروكينجز عام 1998، معتقدا بأن العقوبات الأميركية "أصبحت أقرب إلى التعبير عن التفضيلات السياسية لواشنطن منها إلى تعديل سلوك ما، وهو ما لا يتوقف أثره عن الإضرار باقتصاديات الدول المعنية فقط، ولكن أيضا باقتصاد الولايات المتحدة ذاته". إلى جانب ذلك، فإن استخدام العقوبات الأميركية على نطاق واسع صار يمثّل إحدى مفارقات السياسة الأميركية المعاصرة، وفقا لهاس، فهي قد تحولت، فيما بعد الحرب الباردة، إلى أداة سياسية بحتة في أيدي واشنطن.

 

أعلن الرئيس الفنزويلي مادورو، في الأسابيع القليلة المنصرمة، عزم حكومته بيع النفط والغاز والمنتجات الفنزويلية بعملات أخرى غير الدولار الأميركي، سواء بالين الياباني أو الروبل الروسي أو غيرها من العملات، قبل أن يعلن منذ أيام قليلة عن عملة جديدة مشفرة للتغلب على الحصار الأميركي، وفي حين بدا القرار الأول هزليا بعض الشيء -إن جاز القول-، في محاولة من رئيس الدولة اللاتينية لعمل ثورة في الاقتصاد العالمي القائم على الدولار الأميركي، فإن التساؤل يفرض نفسه حول مدى القوة التي أصبحت تُمثّلها العقوبات الأميركية مقابل ما قد تبذله، أو بذلته بالفعل، الدول أو المجموعات أو الأفراد للتهرب من عواقبها، بل إن النتائج غير الإيجابية لبرامج العقوبات الأميركية، منذ نشأتها وحتى الآن، في دول كإيران والسودان وكوبا والعراق وغيرهم، تدعو للتساؤل حول الهدف الحقيقي الذي تسعى من أجله الولايات المتحدة في فرض عقوباتها عالميا، وفي حين يبدو نجاح تنظيم بحجم تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" من الهرب من منظومة العقوبات الأميركية لإقامة كيان شبه مستقل بذاته منتصف المنطقة، مع حرب تشنها الدول الكبرى بقيادة واشنطن دون أن تُفلح في تقويض أركانه، يجعل من الصعب التصديق أن تفعل منظومة العقوبات الأميركية ما عجزت عن فعله طوال عقود طويلة ماضية.

المصدر : الجزيرة