شعار قسم ميدان

نهاية القدس.. هل اقترب مشروع التهويد من التحقق الكامل؟

midan - quds
أجاب اليساري الإسرائيلي "توم سيغف"[1] عن سؤال صحفية ألمانية يتعلق بخيارات السلام المتبقية فقال: "من الناحية التاريخية أعتقد أنَّ احتلال القدس الشرقية في عام 1967  خطأ كبير؛ وذلك لأنَّ الإسرائيليين قد قرَّروا من خلال ضمِّهم القدس الشرقية أنَّه لن يكون هناك في الواقع أي سلام. نحن لا يمكننا إعادة القدس الشرقية، والفلسطينيون لا يمكنهم أبدًا قبول ذلك". [2]

 

لا أحد في الشارع الإسرائيلي يتخيل اليوم دولة إسرائيلية دون مدينة القدس الموحدة، لقد مر قُرابة خمسين سنة على انسحاب الجيش الأردني من الضفة الغربية، وإزاحة الخط الأخضر عن مساره قرب باب الخليل إلى الشرق كثيراً، وهناك، عند الحائط الغربي للمسجد الأقصى التقى خيار الدولة السياسي في إسرائيل مع أقصى اليمين الديني.

 

جَرَفت آليات الجيش حي المغاربة العَتيق لإظهار حائط البراق كاملاً، وإقامة ساحة المبكى، وصارت مدينة القدس – بحكم الأمر الواقع- العاصمة الدينية والوطنية المُوَحَدَة لدولة إسرائيل. منذ ذلك الحين بدأت سياسات تهويد القدس ومضايقة أهلها ومُحَاوَلة عزلها عن الجانب العربي، وإحاطتها بحزام استيطاني يؤسس لما بات يُعرَفُ بمشروع القدس الكبرى، تَبِع ذلك مصادقة "الكنيست" بعد ثلاث عشرة سنة من حرب النكسة على قانونٍ يحظر تقسيم القدس، ويعتبرها عاصمةً موحدةً لدولة إسرائيل، اعتبر مجلس الأمن هذا القانون خرقاً للقانون الدولي، وتكريساً لاحتلال الأراضي الفلسطينية، وعرقلة عملية السلام. لكنّ صور آلاف اليهود بلباسهم الأسود عند الحائط الغربي للمدينة القديمة، وعمليات التهويد الممنهجة، تحاول أن تقول للعالم ولأجيال إسرائيل الناشئة إن (أورشليم/القدس) ليست أرضاً فلسطينية؛ وإنما هي قلب المملكة الإسرائيليّة التي قامت هناك قبل أزيد من ألفي عام.

 

يمثل الصراع على المدينة المقدسة اليوم حجر الزاوية في الصراع العربي الإسرائيلي، وطوال هذا الصراع، احتلت القدس مكانة رمزية عالية، جعلت منها الشرارة لأهم الانتفاضات الفلسطينية؛ نظرًا لما تمثله المدينة من دلالات وأبعاد دينية رمزية وتاريخية سياسية.
 

البُعدين الديني والتاريخي في الصراع على المدينة المقدسة
المصلى القبلي (بيكساباي)
المصلى القبلي (بيكساباي)

لا يختلطُ التاريخ المقدس بالتاريخ الدنيوي، كما يختلطُ في القدس، فالمدينة التي تعد الملتقى الروحي لأبناء الديانات الإبراهيمية الثلاث، لا يقتصر الصراع فيها على مجرد المساحات الجغرافية والهواء والماء؛ بل يتعلق -قبل ذلك كله- بمسألة الهوية، والتي تجد جذورها وأصولها في نصوص دينية، تروي قصة أو حكاية عن المدينة ساهمت في "تشكيل وعي شعوب كاملة عن التاريخ والقوى المتصارعة فيه، وعن الخير والشر، وعن مسار التاريخ؛ وصولا إلى القارئ نفسه، و حتى وإن  كانت هذه الشعوب بعيدة كل البعد عن المكان نفسه؛ فالمدينة حاضرة بشكل مركزي في فهم التاريخ كما نشأوا عليه"
[3].

 

كان لهذه المرويات الدينية أثرها البالغ في تشكل جيل كامل من المؤرخين والأنثروبولوجيين الغربيين والمستشرقين، الذين تعاملوا مع النص التوراتي الديني بوصفه نصاً تاريخياً، فشرعوا باعتبارهم "علماء بالغين" بالبحث والحفر عن تلك العلامات والأماكن المقدسة التي تحدث عنها النص التوراتي[4].

 

المقاومة الحقيقية لهذا المشروع الاحتلالي الاستيطاني هي تلك الموجودة على الأرض، والتي تستخدم الرمز الديني الإسلامي بكافة تجلياته الشعبية، ومتخذةً القدس كرمز لهوية دينية نضالية تعبوية في مواجهة هذا العدو المحتل ومشروعه الاستيطاني الذي يهدد بتهويد المدينة المقدسة

وكما يشير المفكر عزمي بشارة فإن هذا العمل البحثي قد اتّسم منذ البداية بطابعٍ أيديولوجي؛ فهؤلاء الباحثون كانوا قد تناولوا الموجودات في المدينة المقدسة بوصفها مسميات لأسماء جاهزة في أذهانهم من جراء تربيتهم الدينية التوراتية. فجاء المنتوج هنا -كما يصفه بشارة- بأنه "أيديولوجي بشكل صارخ إلى حد الفظاظة، وهو سياسي حيث يهدف إلى خدمة سياسات وأجندات ترى سكان البلاد الحاليين في فلسطين سكانا طارئين عابرين على التاريخ الفعلي المقدس".

 

كانت هذه الإستراتيجية التي اتبعها قادة الكيان الصهيوني لتقرير أحقيتهم بالمدينة المقدسة والأراضي الفلسطينية من ورائها، وهي إستراتيجية تقوم على خديعة الاستعاضة بحق متخيل؛ يجري تسويقه بأنه حق ديني مقدس عن حقوق السكان الموجودين بصورة فعلية في البلاد منذ مئات السنين، ويرتبطون ارتباطاً عضوياً حقيقياً بكل ما تمثله الأرض من معاني ودلالات واقعية ومعاشة.

 

وإذا كان هذا التسويق للمزاعم بأحقية يهودية تاريخية ودينية بالمدينة المقدسة ومن ورائها الأراضي الفلسطينية قد ولّد رد فعل في داخل بعض أروقة الأكاديميات العربية والغربية، والتي حرصت على تفنيد هذه المزاعم؛ مستخدمة مناهج البحث والحفر الأركيولوجي والتاريخي، وهو مجهود لا خلاف حول أهميته وقيمته النظرية والاعتبارية، إلا أن رد الفعل الأهم والواجب الأعظم؛ هو ذلك الذي يأتي من قِبَل أصحاب الأرض المضطهدين والمقموعين؛ والذي يتمثل بصراعهم ومقاومتهم لهذا المشروع الاستيطاني الاحتلالي الصهيوني[5].

 

فمن الصحيح أن المشروع الاستيطاني الصهيوني قد قام في جانب من جوانبه النظرية على هذه السرديات الدينية؛ والتي أغرق بها العرب والعالم، وجرهم من خلالها إلى نقاش نظري طويل حول صدقيتها، ومدى اعتباريتها تاريخياً، إلا أنه -في واقع الأمر- لم يتمكن من تحقيق مزاعمه؛ دون استخدام العنف والقوة المسلحة والمشاريع الاستيطانية، بهدف الوصول إلى أهدافه الدنيوية التي يقدمها بديباجة دينية وتاريخ مقدس[6].

 

من هنا؛ فإن المقاومة الحقيقية لهذا المشروع الاحتلالي الاستيطاني هي تلك الموجودة على الأرض، والتي تستخدم الرمز الديني الإسلامي بكافة تجلياته الشعبية، ومتخذةً القدس كرمز لهوية دينية نضالية تعبوية في مواجهة هذا العدو المحتل ومشروعه الاستيطاني الذي يهدد بتهويد المدينة المقدسة؛ من خلال تغيير معالمها وعزلها عن الضفة الغربية عبر بناء حزام استيطاني حول المدينة، وإقامة مشروعه الذي يُعرف باسم "مشروع القدس الموحدة" بوصفها عاصمة لدولة إسرائيل.

 

الطريق الصهيوني إلى القدس الموحدة
 تم بناء إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى جعل اليهود المكون الذي يمثل الأغلبية في المدينة المقدسة، فعمدت سلطات الانتداب إلى منع البناء منعا باتا في المناطق المحيطة بالبلدة القديمة.
 تم بناء إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى جعل اليهود المكون الذي يمثل الأغلبية في المدينة المقدسة، فعمدت سلطات الانتداب إلى منع البناء منعا باتا في المناطق المحيطة بالبلدة القديمة.

بحسب المفكر العربي د. عزمي بشارة فإن الإستراتيجية الإسرائيلية لتهويد المدينة المقدسة كانت قد اعتمدت على عدة سياسات أهمها:

1- "اختراع مفهوم القدس غير القابلة للتفاوض بتحويل القداسة (يروشلايم، شل شمايم، القدس السماوية) إلى مفهوم سياسي".

2ـ اعتماد الرواية التاريخية التوراتية في إعادة تسمية الأماكن والشوارع والجبال، وكل ما يوجد في المدينة.

3ـ توسيع حدود المدينة؛ كي تشمل القداسة الإسرائيلية -المحتكرة وغير القابلة للتفاوض- أكبر مساحة ممكنة من الأرض.

4ـ مصادرة الأرض من العرب وبناء المستوطنات.

5ـ التضييق على السكان العرب، ومصادرة "بطاقات الهوية" من السكان العرب المقدسيين التي تخولهم الدخول إلى المدينة.

6ـ فصل المدينة عن بقية الضفة الغربية، وذلك من خلال إعادة إنتاج مكانة قانونية جديدة لها، وببناء حزام استيطاني حولها، ومؤخرا بواسطة الجدار العازل المحيط بالقدس والمسمى بالعبرية "غلاف القدس".

 

بدأت سياسات التهويد للمدينة المقدسة مع الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920 والذي هيأ الأرضية لقيام دولة إسرائيل؛ حيث يشير د. وليد المدلل أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الإسلامية بغزة، في دراسة له بعنوان: "الاستيطان اليهودي في القدس إبان الانتداب البريطاني"، يشير إلى أن سلطة الانتداب كانت قد قسمت المدينة إلى أربعة أقسام: "البلدة القديمة وأسوارها، المناطق المحيطة بالبلدة القديمة، القدس الشرقية، والقدس الغربية".

 

وبناء على هذا التقسيم؛ فقد تم بناء إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى جعل اليهود المُكوِّن الذي يمثل الأغلبية في المدينة المقدسة، فعمدت سلطات الانتداب إلى منع البناء منعا باتا في المناطق المحيطة بالبلدة القديمة، ووضعت قيوداً على البناء في "القدس الشرقية" أي أنها أعاقت النمو العمراني والسكاني للسكان العرب؛ بينما أعلنت عن "القدس الغربية" (وهي المنطقة التي يقطنها اليهود) كمنطقة بناء تطوير[7].

 

وإضافة لذلك عملت سلطات الانتداب البريطانية على تسهيل بناء مستوطنات يهودية خارج القدس، وضمها إلى المدينة بعد ذلك، في حين تركت قرى عربية متاخمة للبلدة القديمة في القدس خارج الخريطة الهيكلية للمدينة؛ كل هذا لكي يصبح لليهود مساحات  جغرافية أكبر في المدينة، وتعداداً  سكانياً أعلى من العرب، وقد بلغ عدد المستوطنات في نهاية حقبة الانتداب البريطاني عام 1948 ست عشرة مستعمرة وضاحية وحياً؛ بينما هناك من يذهب إلى أن تعدادها قد بلغ اثنتي عشرة مستوطنة فقط؛ وذلك وفقا لاختلاف المقاييس المتبعة في التصنيف؛ من حيث الحجم والأهمية[8].

 

بعد رحيل الانتداب البريطاني الذي ترافق مع إعلان دولة "إسرائيل" في أيار 1948 (النكبة) ومابعدها، استولت العصابات الصهيونية على أكثر من 78% من الأراضي الفلسطينية كان من بينها القدس الغربية؛ لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ فلسطين والقدس، بما حملته تلك المرحلة من تغييرات عميقة في الخارطة السياسية. ألقت بظلالها الثقيلة على الصراع العربي الإسرائيلي بصورة عامة، ومدينة القدس بصورة خاصة حتى يومنا هذا.
 

 أقرت الحكومة الإسرائيلية في العام 2005 مخطط مدينة القدس حتى العام 2020 ويشمل بناء أحياء استيطانية جديدة، ومرافق وسكك حديد، وبتوسيع قدره 40% كمساحة إضافية.
 أقرت الحكومة الإسرائيلية في العام 2005 مخطط مدينة القدس حتى العام 2020 ويشمل بناء أحياء استيطانية جديدة، ومرافق وسكك حديد، وبتوسيع قدره 40% كمساحة إضافية.

 
تسارعت وتيرة التهويد منذ ذلك الحين بصورة فائقة، فبعد أشهر قليلة من سيطرة العصابات الصهيونية على القدس الغربية أعلن "ديفيد بن غوريون" (أول رئيس وزراء لدولة إسرائيل) في السادس والعشرين من شهر ديسمبر 1949، عن اعتبار القدس الغربية عاصمة لدولة إسرائيل. ومنذ ذلك الحين اعتمدت إسرائيل على سياسة مصادرة الأراضي التي تعود ملكيتها للعرب بصورة فجة، متذرعة بالقانون الذي تخلقه بنفسها كوسيلة لمصادرة الأراضي، ففي العام 1965، أصدر الكيان الصهيوني قانوناً "يعدُّ كل من غادر المناطق التي تحتلها (إسرائيل) إلى خارج فلسطين مهاجراً وغائباً عن أرضه؛ ولذلك فإن ملكيتها تعود للدولة"، وبذلك سيطرت على أراضي شاسعة تعود ملكيتها للسكان العرب[9].

 

بعد نكسة عام 1967، التي احتلت بها إسرائيل القسم المتبقي من المدينة المقدسة وهو القسم الشرقي، وأصبحت بذلك القدس مدينة موحدة تخضع للاحتلال الإسرائيلي، وهنا بدأ الحديث -بشكل صريح- عن القدس الموحدة كعاصمة للدولة الإسرائيلية، وذلك برغم التنديد الدولي الذي جاء من مجلس الأمن على هذه الخطوة.

 

منذ ذلك الحين اعتمدت الحكومة الإسرائيلية على سياسة الأمر الواقع للوصول إلى القدس الموحدة كعاصمة للدولة الإسرائيلية، فمن خلال التغيير الديموغرافي الهائل الذي تقوم به السلطات الإسرائيلية في المدينة، وسياسات التهجير، ومصادرة الأراضي، والتضييق على السكان المقدسيين، وسحب بطاقات الهوية المقدسية منهم وذلك تحت أي ذريعة كانت، بالتوازي مع بناء حزام استيطاني يعزل القدس عن الضفة الغربية والمناطق الفلسطينية، ثم أخيراً المسار القانوني الذي تنتجه الدولة الإسرائيلية، والذي تشرعن به عمليات النهب والسلب التي تقوم بها، كل هذا يراد به خلق واقع للمدينة يؤسس لمشروع القدس الموحدة بوصفها عاصمة للدولة الإسرائيلية[10].

 

 فور انتهاء معارك حرب (يونيو/حزيران) 1967 أعلن رئيس الحكومة "ليفي أشكول" توحيد شطري القدس تحت سيطرة السلطات الإسرائيلية؛ لكن هذه الخطوة لم تكن لتحظى بالإجماع آنذاك، نظراً للخشية الإسرائيلية من الرفض الدولي، والغضب العربي والإٍسلامي الذي قد ينجم عن هذه الخطوة، فاضطرت إلى تخفيف صياغتها في إعلانها عن ضم القدس الشرقية لسلطاتها؛ حيث جاء النص قائلا: "إن تلك المساحة من أرض إسرائيل التي سيتم توصيفها في الملحق سوف تعتبر مناطق تطبق فيها أحكام القوانين والقضاء والإدارة النافذة المعمول بها في الدولة"، ومن الملاحظ هنا أن النص لم يورد القدس الشرقية بصورة صريحة في ثناياه[11].

 undefined

سيحتاج الأمر إلى 13 عاما لتعلن إسرائيل عن طموحها هذا صراحةً، وذلك حين اجتمع الكنيست الإسرائيلي عام 1980 وأقر بموافقة أعضائه ما بات يعرف بـ"قانون الأساس" حول القدس، والذي نص على اعتبار مدينة القدس الموحدة عاصمةً لدولة إسرائيل، وتكون فيها مقرات الرئاسة والحكومة والكنيست والمحكمة العليا. اعتُبرَ هذا القانون بمثابة مبدأ دستوري إسرائيلي، واستدعى ذلك صدور قرار رقم 487 من مجلس الأمن الدولي الذي اعتبر قانون الأساس هذا خرقاً للقوانين الدولية، لكن القرار هذا – كغيره- لم يكن كافياً لردع السياسات الإسرائيلية تجاه القدس[12]عمدت -منذ ذلك الحين- السلطات الإسرائيلية إلى بناء حزم استيطانية لمحاصرة القدس من جميع الجهات، وسدّ منافذ تواصلها -جغرافياً وسكانياً- مع الضفة الغربية لعزلها، ووضع الفلسطينيين داخلها وخارجها تحت الأمر الواقع.

 

وباستطلاعٍ سريع لقائمة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، يُلاحظ وجود أكبر الكتل الاستيطانية قرب القدس؛ إذ أقامت إسرائيل ستا وعشرين مستوطنة هناك؛ منذ بدء النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية حتى عام 2012، تعتبر اثنتان منها مدينتين كاملتين في التقسيم الإداري الإسرائيلي، "معاليه أدوميم" شرق مدينة القدس هي المستوطنة الأكبر في الضفة الغربية بثلاثين ميلاً مربعاً، يسكنها أربعون ألف مستوطن.[13]

 

وقد أقرَّت الحكومة الإسرائيلية في العام 2005 مخطط مدينة القدس حتى العام 2020 ويشمل بناء أحياء استيطانية جديدة، ومرافق وسكك حديد، وبتوسيع قدره 40% كمساحة إضافية. وفي هذه الأثناء تحولت القدس الشرقية إلى مجموعة أحياء عربية تفصلها عن بعضٍ مستوطنات، ويحيط بها ما يقارب عشر مستوطنات، ما يجعل مسلسل التهويد مستمرًا على قدم وساق؛ لتغيير معالم المدينة إلى الأبد.[14]

 

إلا أن هذه السياسات الاستيطانية، وهذا التاريخ الطويل للوصول إلى تهويد القدس، وُوجه باستمرار وعناد بنضال فلسطيني طويل، كانت القدس فيه شرارة لعدد من الانتفاضات والثورات برغم المتروكية التي يعاني منها المقدسيون العرب، وقلة أدواتهم ومواردهم أمام المحتل الاسرائيلي.

 

القدس شرارة الانتفاضات الفلسطينية
 صورة من الانتفاضة الفلسطينية الأولى (وكالة الأنباء الفلسطينية)
 صورة من الانتفاضة الفلسطينية الأولى (وكالة الأنباء الفلسطينية)


فضلاً عن قيمتها الدينية والرمزية في التصور الإسلامي، حيث تعد القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد احتاج الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال إلى "القدس أيضا كرمز تعبوي ونضالي؛ فأصبح الحرم القدسي الشريف مركز حياة وهوية للمقدسيين بشكل خاص"، وشرارة لاندلاع العديد من الانتفاضات والثورات الفلسطينية
.

 

فمنذ انتفاضة موسم النبي موسى 1920، والتي تعد أولى الانتفاضات الفلسطينية وقد قامت في المراحل المبكرة من الانتداب البريطاني، وذلك على إثر توافد جموع من القرى الفلسطينية إلى القدس للاحتفال بهذه المناسبة الشعبية، وهناك خطب فيهم القائد الحاج أمين الحسيني خطبة ألهبت حماسة المحتشدين، ما أدى إلى اندلاع انتفاضة شعبية ضد الانتداب البريطاني والوجود اليهودي في المدينة، وقد أسفرت هذه الانتفاضة عن مقتل وإصابة أكثر من 200 جندي بريطاني ومستوطن[15].

 

ثم جاءت ثورة البُراق عام 1929، والبُراق هو جزء من الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف، وهذا الحائط يمثل -بالنسبة لليهود- آخر ما تبقى من هيكل سليمان، وبالنسبة للمسلمين فهو المكان الذي ركن إليه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) البراق المجنح الذي حمله في رحلة الإسراء والمعراج، وقد كان ادعاء اليهود بملكيته، ومحاولتهم الاحتفال بعيد الغفران عنده عام 1929، سبباً في التوتر الذي نجمت عنه اضطرابات بين العرب واليهود في القدس، وفي أنحاء عديدة من فلسطين وهي الأحداث التي عرفت بثورة البراق 1929 [16].

 

ثم جاءت ثورة فلسطين الكبرى عام 1936 والتي استمرت ثلاثة أعوام، وقد اندلعت هذه الثورة في القدس، ومنها تمددت إلى كافة المناطق الفلسطينية مطالبة سلطة الاحتلال البريطاني بإيقاف الهجرة الصهيونية فوراً، وحظر نقل ملكية الأراضي العربية إلى اليهود.

  undefined

 

لم تتوقف الانتفاضات والثورات التي مثلت فيها القدس النواة الصلبة، فطيلة سنوات الاحتلال الإسرائيلي لم تخل المدينة من مصادمات واشتباكات بين سكانها الفلسطينيين والمستوطنين اليهود، وقد جاءت هبّة النفق عام 1996 على إثر إقدام السلطات الإسرائيلية على فتح نفق أسفل المسجد الأقصى المبارك، فانصهرت جميع فئات الشعب الفلسطيني في المواجهة والتصدي لقوات الاحتلال، هبة جاءت لتؤكد على القيمة الرمزية للمدينة المقدسة[17].

 

لكن الحدث الأهم والأضخم جاء مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي اندلعت على إثر اقتحام زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك "أرييل شارون" يوم 28 (سبتمبر/أيلول) 2000 باحات المسجد الأقصى، فوقعت مواجهات بين المصلين وقوات الاحتلال، قبل أن تتحول إلى ثورة فلسطينية عارمة في وجه الاحتلال الإسرائيلي شملت جميع الأراضي الفلسطينية[18].

بعد هذا الاستعراض السريع لأبرز الانتفاضات الفلسطينية، نجد أن القدس كانت دائماً المحرك الأهم للانتفاضات والهبات الشعبية الفلسطينية، فعلى الرغم من المتروكية التي يعانيها المقدسيين في مواجهة سلطات الاحتلال؛ إلا أنهم احتفظوا بقيمة رمزية جعلت منهم رأس الحربة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. ومن هنا يشير د. عزمي بشارة إلى ضرورة أن "تصبح القدس كلها هي حرم شريف، وفلسطين كلها هي قدس، وكي تكون القدس وفلسطين قضيتي الأمة بأكملها؛ لا قضيتي الفلسطينيين وحدهم. في هذه الحالة يصــبح المنزل المعرض للهدم قضية المقدسيين جميعهم، إذا كانت القــدس قضية الفلسطينيين، وقضية فلسطين هي قضية العرب".

المصدر : الجزيرة