شعار قسم ميدان

"فاشيّو الشرق".. الوجه الآخر لليمين الأوروبي

اضغط للاستماع

في مطلع العام 2011، وبعد عشرين عامًا من سقوط الاتحاد السوفيتي وتحالفاته في شرق أوروبا، قرر معهد الذاكرة الوطنية في بولندا أن يعيد إلى ذاكرة البولنديين بعض أوجه الحياة تحت قبضة "حلف وارسو" بطريقة مبتكرة وغير متوقعة، حيث أطلق نُسخة من لعبة بنك الحظ مع قلْبِ فلسفتها الرأسمالية رأسًا على عقب لتُماثِلَ حياة رجل الشارع تحت ظلِّ النظام الشيوعي. وكانت مفارقةً مُضحكة أن تنقلب اللعبة من الرأسمالية إلى الشيوعية، ومن اللعب لحيازة الممتلكات إلى محاكاة طوابير الحصول على السلع الأساسية التي وقف فيها البولنديون لعقود طويلة، فاللاعب في "كوليكه"، وهو اسم اللعبة بالبولندية ويعني (الطابور)، يقوم باستخدام خمس وحدات تمثل أفراد أسرته لشراء الطعام والملابس والأثاث، والانتظار بينما تتوفر السلع في أي من المحال الموجودة باللعبة، أو يأتي عليه الدور في طابور أي منها.

تتضمن أيضًا اللعبة بطاقة تسمح لبعض المحظوظين بتجاوز المنتظرين في الطابور، في محاكاة دقيقة لما فعله أعضاء الحزب الشيوعي وأصحاب النفوذ في الماضي، وكذلك القدرة على مبادلة السلع ببعضها البعض في "السوق السوداء" مع لاعبين آخرين، كما فعل البولنديون بالفعل قبل ثلاثة عقود حين عجز بعضهم عن توفير سلعة ما لفترة طويلة واتجه لمبادلتها بالسلع المتاحة لديه، أما الفائز فهو من ينتهي أولًا من شراء قائمة السلع المطلوبة منه.

هي ليست ذكريات جيدة بطبيعة الحال، ويستعيد معها اللاعبون ذكريات الفقر من ناحية، والغضب والحنق على أصحاب النفوذ ممَّن توفرت لهم تلك السلع دون انتظار من ناحية أخرى، لكن الهدف منها بعد عقدين من سقوط الستار الحديدي السوفيتي، وفق ما يقول مبتكر اللعبة، هو بالضبط إحياء تلك الذكريات السلبية، لإحداث نوع من الحوار بين الجيل الجديد الذي لم يعاصر كل تلك المعاناة، والأجيال السابقة عليه.

لعلَّ اللعبة قد أتت في توقيت مناسب، فالكثيرون ممَّن فاتتهم تلك التجارب من الجيل الجديد يلتفّون هذه الأيام حول تيارات اليمين المتطرف المختلفة في بولندا وشتى بلدان شرق أوروبا، والتي يتسم خطابها بـ "نوستالجيا" واضحة تجاه النظم الشيوعية السابقة بمركزيتها وانعزالها النسبي، في مقابل فوضى السوق الحر التي قلما استفادت منها شعوب شرق أوروبا بالنظر للفساد المستشري فيها.

بيد أن اللعبة، وإن فتحت أذهان الكثيرين على مصاعب الحياة في الماضي، لن تنجح في الغالب في تقويض المشاعر المؤيدة لروسيا والمنحازة للحكم الشيوعي لدى الشباب في شرق أوروبا، لا سيما وأن انحيازاته تلك لا علاقة لها بالاقتصاد الأساسي اليومي والذي يعجُّ بالسلع القادمة من مختلف بلدان أوروبا اليوم ويصعب تخيّل عودته للخلف مع انفتاح روسيا نفسها على الغرب اقتصاديًا، بل هو مرتبط بالأساس بأيديولوجيا استفادت كثيرًا من الهيمنة السوفيتية رُغم تضادها الواضح نظريًا مع الشيوعية: القومية الفاشية.

اليمين الشرقي والحنين للستار الحديدي

رومان دموفسكي – أحد الآباء المؤسسين للقومية البولندية (غيتي)

"الدولة البولندية هي دولة كاثوليكية.. ليس لأن أغلب سكانها كاثوليك.. بل لأن دولتنا هي دولة قومية، وشعبنا القومي هو شعب كاثوليكي."

(رومان دموفسكي، سياسي بولندي أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى)

جرت العادة دومًا في الكثير من الصحف والتحليلات الإشارة لظاهرة صعود اليمين في القارة الأوروبية باعتبارها ظاهرة واحدة، ذات جذور وأسباب متشابهة، وإن تباينت بشكل بسيط بين بلد وآخر، لكن إطالة النظر تكشف وجود ظاهرتين منفصلتين في الواقع؛ ظاهرة اليمين المتطرف في غرب أوروبا، واليمين الأقرب للفاشية والقومية بشكلها العرقي في شرق أوروبا، وهو انفصال يعود بصورة منطقية للانفصال الطويل بين الشرق والغرب طوال الحرب الباردة.

مارين لو بِن وخيرت ويلدرز

بينما تتحدث مارين لو بِن في العاصمة الفرنسية عن دفاعها عن الجمهورية والعلمانية بوجه المهاجرين في فرنسا، ويتحدث خيرت ويلدرز الهولندي عن عدم قدرة المسلمين على الانسجام مع الحضارة الحديثة، يروّج اليمينيون في الشرق لخطاب مغاير تمامًا لليمين الأوروبي الغربي بل وربما يتناقض معه، فاليمين يتحدث عن بولندا الكاثوليكية وحماية الكنيسة والأسرة في وجه السوق الحر، وعن رومانيا الأرثوذكسية التي تمتلك كنيستها حتى الآن دورًا سياسيًا ويمينيًا واضحًا، وسجلًا تاريخيًا طويلًا في التعاون مع اليمين الفاشي، أما "النوستالجيا" السوفيتية فترتكز للحنين لوجود دولة مركزية تحمي الوحدة القومية لهذه البلدان، و«تطحن» الديمقراطية والحريات المبالغ فيها إن تطلب الأمر كذلك.

لذلك لا غرابة في القلق الدائر في الإعلام الغربي حيال فوز حزب القانون والعدالة اليميني في بولندا بالانتخابات البرلمانية عام 2015، وما تلا ذلك من محاولاته الصريحة تدشين أساليب استبدادية في الحُكم والتحفُّظ على الانفتاح الزائد على أوروبا والميل سياسيًا ناحية روسيا، وهي رسائل تجد صدًى للراغبين في غلق الأبواب ولو قليلًا بوجه المنظومة الليبرالية وما جلبته من مفاسد كعلوِّ صوت الأقليات والشواذ جنسيًا، وإن لم يكونوا على استعداد للتخلي عن مزاياها الاقتصادية.

فيكتور أوربان – رئيس وزراء المجر ورئيس حزب فيدس اليميني (غيتي)
 قلقٌ مشابهٌ يوجِّهه المحللون في الغرب تجاه المجر ورئيس وزرائها فيكتور أوربان رئيس حزب فيدس اليميني، والذي أعلن صراحة عن فلسفته في تدشين «ديمقراطية غير ليبرالية»، ضاربًا المثل بالنموذجين الموجودين حاليًا في روسيا وتركيا، والرجل رغم خطابه «البوتيني» كما يسمّى لا يزال يحظى برضا أوروبا، فقط لأنه ناجح في احتواء موجة اليمين الفاشي في بلاده بضمّ جزء منها داخل حزبه، والتي تمثلها حركة "يوبيك" الصاعدة صاحبة الخطاب الأشد تطرفًا واستبدادًا.

لم يستفد اليمين الشرقي، مثل نظيره الغربي، من الانتخابات الديمقراطية والحريات التي أتاحت للأخير الظهور بعد الحرب العالمية الثانية رغم التشويه الكبير الذي لحق بالأفكار القومية، فاستمرار اليمين الشرقي على قيد الحياة بعد سقوط الفاشية في الحرب العالمية الثانية يرجع لسياسات النظم الشيوعية البراغماتية، والتي أدركت عدم قدرتها على اكتساب أرضية في مجتمعات الشرق المحافظة دون تعزيز الروايات القومية وتأسيس علاقات مع الحركات القومية على الأرض، في حين شكَّل دخول تلك البلدان للاتحاد الأوروبي بعد عام 1991 بداية الضغط الإعلامي الغربي على اليمين الشرقي وظهور دعايات الدفاع عن الأقليات والشواذ والتعددية وما إلى ذلك.

لذا، يحنُّ اليمين المتطرف الشرقي اليوم إلى ستار الأمس الحديدي كتجربة تاريخية خاصة به دونًا عن الغرب، وهو يحنُّ للستار فقط ليس إلا؛ لدولةٍ أوتوقراطيةٍ تحميه من الانفتاح المُطلق على العالم وتحمي تجانسه العرقي والثقافي في الداخل، دون أن يشمل ذلك بالضرورة العداء الشيوعي مع المؤسسات الدينية المحورية والباقية، خاصة في بولندا ورومانيا اللتين عانت فيهما الكنيسة من قمع السوفييت، ودون أن يشمل ذلك بالطبع خوض صعوبات البحث عن الاحتياجات الأساسية.

أي يمين؟ وأي أوروبا؟

"ليس للروما سوى قدور الماء المغلي، وليس للأتراك سوى السكّين"

(أحد هتافات اليمين المتطرف في بلغاريا)

مظاهرة في العاصمة الألمانية برلين للمطالبة بحقوق أقلية الروما التي تتعرض لجرائم كراهية واضحة.
مظاهرة في العاصمة الألمانية برلين للمطالبة بحقوق أقلية الروما التي تتعرض لجرائم كراهية واضحة.

على النقيض من غرب أوروبا، حيث تتركز الكراهية والعنصرية بوجه المهاجرين عمومًا والمسلمين خصوصًا، ترتكز دعايات اليمين الشرقي ضد تلك المنظومة وحرياتها الاجتماعية، ففي بولندا مثلًا تنصب جرائم الكراهية على الشواذ أولًا، ثم الخصوم السياسيين لليمين المتطرف -في إشارة واضحة على غياب الثقافة الديمقراطية عكس الحال في بلدان غرب أوروبا-، ثم الأقليات الدينية غير الكاثوليكية عمومًا واليهود بشكل خاص، في إشارة مرَّةً أخرى على التباين بين اليمين الفاشي الكلاسيكي في الشرق، بما يشمله ذلك من معاداة السامية، واليمين المتطرف الحديث في الغرب القريب جدًا من اليهود وإسرائيل.

يلفت النظر أيضًا التصوّر المختلف عن المسلمين وأسباب العداء معهم بين الشرق والغرب، فاليمين في غرب أوروبا يعاني بالأساس من المسلمين كونهم وافدا جديدا في صورة مهاجرين بأعدادٍ كبيرة، وعنصرا يتنافر مع المنظومة العلمانية اجتماعيًا وسياسيًا، أما في الشرق فليست ثمَّة مسألة مهاجرين على الإطلاق، فالإسلام هنا ليس وافدًا جديدًا أبدًا، ولكنه "خطرٌ ذو ماضٍ طويل"، تُركيٌّ في الغالب، بل إن المسلمين كان يُشار لهم بالأتراك في تلك المنطقة من العالم حتى نهايات القرن التاسع عشر نتيجة لتاريخ الخلافة العثمانية الطويل في شرق أوروبا.

يظهر كذلك ملف أقلية الروما العرقية (ويُشار لهم بالغجر) بوصفه مسألة ثقافية خاصة بتاريخ شرق أوروبا دونًا عن الغرب، فهم يتعرضون لجرائم كراهية واضحة، أبرزها في المجر حيث تستهدفهم حركة "يوبيك" باعتبارهم مجموعة من المجرمين غير منتمين للنسيج القومي، ومن ثم فمسألة الأقليات في الشرق لا تزال حبيسة الخطابات القومية الفاشية لما قبل العام 1945 نظرًا لكون تلك الأقليات أوروبية وجزءًا أصيلًا من النسيج الثقافي، وليست مجموعة من الهنود أو العرب الوافدين خلال العقود الأخيرة.

على غرار فاشيّي ما قبل 1945 أيضًا، تمتلك معظم حركات اليمين الشرقي رغبة في مراجعة الحدود التي فرضتها دول الغرب الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية و/أو بعد الحرب الباردة، وهي رغبة يتشاركون فيها مع روسيا التي يُضرب بها المثل في الاستحواذ على شبه جزيرة القرم عام 2014، على العكس من اليمين الغربي الذي لا يناقش أبدًا المسائل الحدودية لا سيما وأن حدوده تعكس بدقة لا بأس بها الواقع الثقافي على الأرض.

اليمين في غرب أوروبا يعاني من المسلمين كوافدٍ جديدٍ في صورة مهاجرين بأعدادٍ كبيرة (غيتي إيميجز)
يعاني اليمين في غرب أوروبا من المسلمين كونهم وافدا جديدا في صورة مهاجرين بأعدادٍ كبيرة، وعنصرا يتنافر مع المنظومة العلمانية اجتماعيًا وسياسيًا (غيتي)

 على سبيل المثال، تطالب حركة "يوبيك" الفاشية المجرية بمراجعة حدود المجر لضم الولايات المجاورة لها كافة ذات الأغلبية المجرية، وتدشين ولاية حكم ذاتي للمجريين في أوكرانيا، في حين يركز حزب رومانيا الكُبرى في خطابه على ضم الرومانيين كافة تحت لواء الدولة الرومانية والحفاظ على نقائها في آنٍ واحد، بما في ذلك دولة مولدوفا الصغيرة المجاورة لرومانيا باعتبارها امتدادًا تاريخيًا للثقافة الرومانية، ويستهدف بدوره الأقلية المجرية الموجودة بالبلاد بوصفها عنصرا دخيلا عليها، علاوة على عدائه التاريخي لليهود.

يمكن القول إن ظاهرة تحليل اليمين الأوروبي نفسها لم تسلم من التمركز حول الغرب، فالخصائص الفريدة والمسار التاريخي الخاص لليمين الفاشي في شرق أوروبا ما بعد السوفييت، بارتكازه للأسرة المحافظة اجتماعيًا وللكنيسة وللتعريفات الدينية الصريحة للانتماء الوطني في مقابل تعريفات الوطن الأكثر حداثة وعلمانية الواقعة إلى غربه، يتم تجاهلها أو التقليل من شأنها بينما تُدمج حركات اليمين الشرقية تحت قوائم اليمين الأوروبي، ومن ثم يوضع هؤلاء في قائمة واحدة مع مارين لو بِن وخيرت ويلدرز وغيرهما.

بيد أنه ثمة مسافة شاسعة تفصل بين حركة يوبيك في المجر ونشاطات الكنيسة الأرثوذكسية الرومانية وتوجهات اليمين البولندي الدينية وغيرها، وبين الاعتزاز بالحضارة والحداثة والتنوير الأوروبي بوجه المهاجرين وبيروقراطية الاتحاد الأوروبي المنتشرة في خطابات اليمين الغربي، وهي مسافة كبيرة لا تقل عن المسافة بين مارين لو بِن ودونالد ترامب، أو بين ويلدرز ونارندرا مودي رئيس وزراء الهند القومي الهندوسي.

يمين شرق أوروبا إذن جدير بما يكفي ليشكل ظاهرة منفصلة إلى جانب اليمين الأميركي والأوروبي الغربي والهندي بالنظر لسماته القومية الدينية، وطبيعته الأقرب للفاشيّة الكلاسيكية المضادة لأية أقلية مغايرة عرقيًا، ورغبته بإعادة رسم الحدود والتوسع جغرافيًا، وتحفّظه على المسلمين نتيجة لإرثه العثماني الخاص، وتطلعه لدولة مركزية فريدة لم يعرفها أقرانه في الغرب أثناء الحقبة السوفيتية، وفي الأخير -للمفارقة- لغياب أي تركيز في خطابه على معاداة عضوية الاتحاد الأوروبي على عكس اليمين الغربي، فالحنين للستار الحديدي لا يشمل الرغبة بالعودة لطوابير الخبز واللبن في نهاية المطاف.

المصدر : الجزيرة