شعار قسم ميدان

متتالية التشظي.. أزمة شباب الثورة السورية

midan - syria 9
المشهد كالآتي: غرفة باردة كما يحدد هذا الوقت من العام: أبريل (نيسان) 2011، في زاوية مجهولة ومُهملة من مدينة "جبلة" الساحلية غرب سوريا، حيث شاب ملامحه مميزة محشور بين عشرات الأجساد الدبقة والمتعبة، سقطت من وعيه دفعة واحدة كل مبادئ الحقوق وتعريفات القانون وصيغ الدساتير التي امتلأ رأسه بها في جامعة حلب؛ ضمن أحد أكثر الأماكن وحشة في العالم: (فرع الأمن السياسي)، حيث بالكاد يمكنك أن تتذكر اسمك.

تغيرت الدنيا كثيرًا منذ انتقل "علي" من كرسي الدراسة إلى كرسي التحقيق، على كرسي الدراسة كان يحلم أن رياح التغيير العاصفة في تونس ستصل ولا بد عبر المتوسط إلى بلده سوريا، وعلى كرسي التحقيق كان يقرر أنه سينتقم. قبل الثورة لم يكن لدى "علي" أي مشروع واضح أو انتماء تنظيمي أو فكري أيديولوجي، لكنه شعر بعمق أن البلاد التي يعيش فيها ليست بلاده، مثله مثل كثيرين فقد "علي" انتماءه وحماسه لبلاد أخذ منه حاكمها كل شيء. في بلد فيه واحدة من أعلى معدلات الفساد، وأسوأ الأنظمة السياسية، وأقسى الأجهزة الأمنية وأكثرها تغولاً وسيطرة، وأطول قانون طوارئ، ومعدلات بطالة عالية، ومتوسط دخل منخفض، لم يكن المستقبل مجهولاً ومتلبداً بالنسبة لعلي، بل ربما لم يكن هناك مستقبل بالأساس، وأكبر أحلامه كانت ككثيرين مثله أن يهاجر بأي شكل.

لا يفهم "علي" مبرر كل تلك الأسئلة التي يلقيها عليه المحقق جامد الملامح: "لمن تتبع؟ مَنْ يُموِّلُك؟ أين تدربت؟"، ولم يكن يدرك قبل ذلك الحين أن المظاهرات المُطالِبة بالتغيير تُعتبر خيانة وطنية كبرى تحت بند "تنظيم يهدف لزعزعة نظام الحكم"، فجأة صار "علي" خائنًا وعميلًا، تهمٌ كان يمكن أن تضم اسمه في مكان متقدم بأحد أضخم سجلاّت الموت تحت التعذيب في العالم، لكن عائلته الغنية استطاعت رشوة ضابط المخابرات بمبلغ كبير كي يُفرِجَ عنه. خلال أيام كان "علي" في طريقه إلى تركيا المجاورة، في رحلة ستغيِّر حياته إلى الأبد.

على الجانب الآخر، كان "مالك العيسى" خرّيج الحقوق يستقلُّ سيارته عائدًا من "درعا" إلى "حلب". رائحة الدم تملأ رأسه، وتتراصّ الجثث في مخيِّلته جُثَّةً جُثَّة. نالت مدينته "درعا" نصيبها من الموت والدم، إذ كانت مهدًا للثورة، والسابقة في أوسع انتفاضة شعبية شهدتها بلاد الصمت الكبير. كانت قد تبلورت لديه فكرته الخاصة، وصار مقتنعًا بشكل يقيني أنه لا جدوى من مواجهة الدبابات المتوحشة بالصدور العارية، وبأن قذيفة الـT72 المدمرة يلزمها أكثر من مجرد صرخة عالية.

حسم أمره، وفي طريقه إلى "حلب" قرر أن يتسلح، سيلتقي بصديقيه الأخوين "أيهم" طالب الترجمة و"ملهم" طالب العمارة ليحدِّثهُما عما شاهده بعينيه في "درعا"، إذ أن "حلب" لم تكن قد عاشت بعد ما عاشته مدينته، واتَّفقَ الثلاثة على أن ينضموا إلى المعارضة المسلحة، وعمل "أيهم" من بينهم على تنفيذ عمليات اغتيال ضد النظام داخل المدينة، قبل أن ينتقل الثلاثة إلى ريفها الذي تحرر بمواجهات عسكرية واسعة، ومع لقائهما بالأخوين المنشقّين عن الجيش "مالك وحسَّان" كانت كتيبة (أبو أيوب الأنصاري) قد تشكَّلت، وانضمَّ إليهم "حسّان عكيدي" المنشق أيضاً عن الجيش، وإن كان انشقاقه مختلفًا إذ أنه كان جماعيًا وبسلاحٍ مهم جعل كتيبتهم الصغيرة متفردة.
 

القسّام يعود إلى مسقط رأسه
 
تدريبات الجيش الحر (رويترز)
تدريبات الجيش الحر (رويترز)

في مدينة "أنطاكيا" التركية كان "علي" يعقد لقاءات مكثفة ليبلور فكرته عن الثورة المسلحة مع "خالد" طالب الإدارة الذي كان معتقلاً أيضاً لأنه تظاهر، و"كريم" طالب الطب الذي كان معتقلاً كذلك، و"حسَّان" المندفع للفكرة، و"معاذ" العائد من بريطانيا التي كان يدرس فيها لينضم للثورة، لتتشكل كتيبة "عزِّ الدين القسام" في نسختها السورية، بينما لم يكن الاسم صدفة، فالمُقاوِم الشهير الراحل «عزِّ الدين» ابنٌ لجبلة المنتمي إليها شباب الكتيبة.

في وقت قصير كان اسما الكتيبتين وفعلهما قد صار حديث المقاتلين، سواءً في "حلب" التي تُقاتل بها كتيبة (أبو أيوب)، أو في ريف "اللاذقية" الذي تقاتل فيه كتيبة (عزِّ الدين)، وتوسَّعتا الكتيبتان مع الوقت حتى صار في كل واحدةٍ منهما 80 مقاتلًا؛ شكَّل الشباب الجامعيون من بينهم نسبة عالية، وكان أغلبهم لم يبلغ بعد الخامسة والعشرين من العمر، وعددٌ منهم كان في السابعة عشر من عمره، منهم رفيقي المدرسة "حمزة وأسعد".

في كتيبة (أبو أيّوب) كان مؤسس الكتيبة "أيهم" قد قُتل أثناء مقاومته محاولة تقدم الجيش النظامي داخل "حلب"، بينما انضمَّ للكتيبة "عبدالله الموسى" القادم من كليّة العمارة ومن مؤسسة العمارة التي شكَّلها لحفظ تراث "حلب"، إثر تراكمات فَزَعٍ أصابه من وجوه الأطفال المذبوحين في مدينة "بانياس" بمجزرة ارتكبتها مليشيات طائفية محلية، وصار مقتنعًا أيضًا أنه لا جدوى إلا بالبندقية. اعتمدت الكتيبتان في البداية على تمويل شخصي من شبابهما وأصدقائهم، فأنشأ طلابٌ من جامعة "حلب" صندوقًا لدعم كتيبة (أبو أيوب)، أما (عزّ الدين) فقد استفادت من أبناء المدينة المغتربين الذين كان لديهم دخلٌ مرتفعٌ نسبيًا ويمكنهم المساعدة، وفيما بعد استندت الكتيبتان على الغنائم المكتسبة من المعارك.

حتى بداية عام 2013 كانت القضية بالنسبة لشباب الكتيبتين واضحةً للغاية والمواجهة سهلة، منخرطون في قتالٍ لا تبدو نهايته قريبة بحثًا عن الحرية، وصارت الحرب روتينهم اليومي وحياتهم العادية، حينها كانت المناطق المحررة من سيطرة النظام قد اتَّسعت واتَّصلت، والضغط العسكري قد انخفضت وتيرته نسبيًا، أما التنظيمات "الجهادية" فقد تمدَّدت في فراغ المناطق المُحرَّرة، وتمددت في أوقات الشباب الفارغة أيضًا، حيث وصلت دعاية التنظيمات إليهم تهزُّ يقينهم وتلقي عليهم سيلًا من أسئلة الهوية، بينما شكَّلت فعالية "الجهاديين" القتالية وخبراتهم السابقة ومنهجهم الواضح وقدراتهم التمويلية مناخًا جاذبًا لأولئك الشباب..

ومع ضغط النظام المستمر ومجازره صار الشباب أكثر نزوعاً نحو التمترس خلف العقيدة، ولذا وجدنا أكبر تشكيلات الثورة العسكرية قد بدأت تستبدل راياتها "الثورية" برايات "إسلامية"، وضَمُرَ خطابها "الثوري" لصالح خطاب "جهادي" ليس بينهما على ما يبدو أي تشابه.
 

التشظّي بالتتابع
نشأة تنظيم الدولة فجَّرت مواجهاتٍ رمزية وعسكرية بين التنظيم وجبهة النصرة المنشقة عنه، وجدَّد صراع الهُويَّة لدى الشباب السوري المُقاتل.
نشأة تنظيم الدولة فجَّرت مواجهاتٍ رمزية وعسكرية بين التنظيم وجبهة النصرة المنشقة عنه، وجدَّد صراع الهُويَّة لدى الشباب السوري المُقاتل.
 

كان "ملهم" حذرًا من أن يتسلَّل "الجهاديون وأفكارهم إلى مقاتليه" في كتيبة (أبي أيوب)، ورفض أن يستقبل أي شخص منهم جاء بهدف إلقاء الكلمات والدعوة، وعلى النقيض من ذلك كان شباب كتيبة (عزّ الدين) يذهبون بأنفسهم إلى مقرَّات "الجهاديين" في ريف "اللاذقية" ليسمعوا منهم، ومن بين كل جبهات القتال السورية كان الشمال الأكثر استقطابًا للمقاتلين الأجانب الذين جاءت بهم "الأفكار والأهداف الكبرى" إلى المعركة..

ومن بين الشمال كان ريف "اللاذقية" تحديدًا مكانًا لتمركزهم وانتشارهم، باعتباره يضمُّ مناطقَ قتالٍ شَرِسٍ تُعيدُ جِبالَهُ الصلبة لقدامى المقاتلين منهم ذكريات جبال "الهندوكوش" ومعاركهم فيها ضد السوفييت. تعرَّف شباب كتيبة (عزّ الدين) على قائدٍ له سيرةٌ جهاديةٌ طويلة، قاتل في أفغانستان وسُجن في "غوانتانامو" ثم في المغرب، كان يُعرف بـ "أبو أحمد المغربي"، مؤسس وقائد (شام الإسلام) تشكيل انضمت إليه الكتيبة بعد وقت قصير.

مع الوقت تغيَّر شكل المعركة؛ إذ تحوَّلت لحربٍ مفتوحة بمواجهةٍ شبه نظامية، ولم يعد يمكن لكتيبةٍ صغيرة أن تستمرَّ وحدها في القتال، وصار الاتجاه أن تنضمَّ الكتائب الصغيرة إلى ألوية أكبر منها لتنضم الألوية بدورها إلى تجمعات أكبر. في ريف "اللاذقية" كان المناخ مهيئًا لـ (عزّ الدين القسَّام) لتنضمَّ لـ "شام الإسلام" الذين تعرَّف شبابها عليهم وأحبّوهم، أما في "حلب" فاختار شباب كتيبة (أبي أيوب) لواءً محليًا في المدينة هو (حلب الشهباء)، وعلى العكس من (شام الإسلام) لم يكن اللواء «جهاديًا».

في أبريل (نيسان) من عام 2013 أعلن أبو بكر البغدادي عن نشأة تنظيمٍ يُدعى (الدولة الإسلامية)، ما يُعرِّفه العالم من حينها للآن باسمه الشهير «داعش»؛ إعلانٌ فجَّر مواجهاتٍ رمزية وعسكرية بين تنظيم الدولة وجبهة النصرة المنشقة عنه، وجدَّد صراع الهُويَّة لدى الشباب السوري المقاتل.

بدأ التنظيم بالتمدُّد في أماكن تمركز وسيطرة "الفصائل الثورية"، في "حلب" وضمن خُطَّتِهِ للتمدد حاول التنظيم السيطرة على (كراج جسر الحج) الذي يعدُّ في منطقة نفوذ كتيبة (أبي أيوب)، وبعد مشادات لفظية كادت تتحول إلى اشتباك بين مقاتلي التنظيم و"ملهم" ومقاتلي الكتيبة تراجع التنظيم عن المحاولة. بعد ذلك انتشرت في "حلب" حوادث خطف الناشطين المدنيين، وكانت الأدلة والقرائن تشير بوضوح إلى مسؤولية التنظيم، وأعلنت كتيبة أبي أيوب استقبالها الناشطين وحمايتهم بالقوة العسكرية.
 

قتالٌ بلا نهاية

undefined

بداية عام 2014 صار الصراع عسكريًا مع تنظيم الدولة بعد محاولة تمدُّده في ريف "حلب" الغربي، واتفاق فصائل في "حلب" على «مواجهته وطرده»، وتوسَّعت المواجهات وانخرط شباب (أبي أيوب) في معارك مع التنظيم داخل "حلب" حتى أخرجوه منها، أما شباب كتيبة (عزّ الدين القسَّام) فلم يتدخلوا في أيِّ اشتباكات، وبقيادة  (أبو أيمن العراقي) خرج تنظيم الدولة من ريف "اللاذقية" إلى أماكن سيطرته في "الرقّة" شرق سوريا، انحسب التنظيم عسكريًا لكن أفكاره ودعايته ومؤيديه لم ينسحبوا تمامًا من المناطق المحررة.

بينما كان النظام يخوض معركته الشرسة في حلب "دبيب النمل" بهدف حصار المدينة، كان "الثوار" في ريف "اللاذقية" قد استطاعوا السيطرة على (كَسَبْ) الحدودية وقمَّة الـ45 الاستراتيجية شمال "اللاذقية"، وصاروا على ضِفافِ "المتوسِّط" لأول مرة. هذا التقدم المفاجئ خلق مساحات اشتباكٍ واسعةً للغاية، ولأنَّهُ تقدُّمٌ في المنطقة الحمراء بالنسبة للجميع والتي قد تحسم المعركة فيما لو استمر نحو معاقل النظام الأساسية ومخازنه البشرية في مدن الساحل السوري؛ فقد بدت معارك صعبة ومنهكة.

دفعت قوات النظام بمليشياتها المحلية والأجنبية، وفرضت الطبيعة الجغرافية للمنطقة شكلًا صعبًا للمعركة، وأضحت السيطرة على قمم الجبال هي المهمة، حيث يمكن لكل ممر جبلي أن يصير ممر تسلل، مما أنهك الفصائل الثورية والجهادية التي ظلت تحاول الحفاظ على أماكن سيطرتها الجديدة والمهمة، أدى هذا التسلسل في النهاية لنتائج شبه "كارثية" لفصائل المعارضة، فهناك من فنى منها عن آخره، ومن تضرَّر بشدَّة مثل  (شام الإسلام) التي قُتل قائدها "أبا أحمد المغربي" في المعركة، وخسرت قُوَّتها الأساسية الفاعلة، واُستنزفت ماديًا وبشريًا، ومن بين من أصابه هذا الاستنزاف كتيبة (عزّ الدين القسَّام). أما في "حلب" فانخرطت كتيبة (أبي أيوب الأنصاري) في استنزاف "المؤازرات"، وبدأت محاولات النظام للتقدم شرق المدينة من محورين في نفس الوقت، وكانت ترسل الكتيبة ثلاث مؤازرات كل يوم إلى معارك شبه كاملة.

كان تنظيم الدولة يجسِّد لـ
كان تنظيم الدولة يجسِّد لـ"حسَّان" الفكرة التي يؤمن بها تمامًا: "قِتالٌ بلا نهاية، ومناطق سيطرةٍ صلبة، وخطاب ديني والتزام، وخريطة علاقات واضحة"
 

في أبريل (نيسان) لعام 2014 كانت الفكرة قد صارت أكثر وضوحًا لدى "حَسَّان"؛ قائد كتيبة (عزّ الدين القسَّام) حينها، كان قد عاد لتوِّهِ مِنْ زيارةٍ سِرِّيَة للرقّة -عاصمة تنظيم الدولة-، وعادةً يعتقل التنظيم أي شخصٍ له علاقةٌ بـ «الثوار» مدنيًا كان أم مسلحًا، إلاَّ أنَّ "حَسَّان" الشهير في الأوساط القتالية لم يعتقل، فقد كان لدى صديقه القديم والمسؤول في تنظيم الدولة هدف آخر.

تجوَّل "حَسَّان" لأيام في مناطق سيطرة التنظيم، كان التنظيم يجسِّد بالنسبة له الفكرة التي يؤمن بها تمامًا: "قِتالٌ بلا نهاية، ومناطق سيطرةٍ صلبة، وخطاب ديني والتزام، وخريطة علاقات واضحة"، كان ذلك ما يفتقده بالضبط في ريف "اللاذقية" متعدّد الفصائل والأمراء والأفكار والصراعات، وقليل المعارك الهجومية لطبيعته الجغرافية الصعبة. في الشهر التالي كان "حَسَّان" قد أكمل استعداداته للرحيل، والمعلن أنه ذاهب لاستطلاع خطوط اشتباك في محافظة "حماة" استعدادًا لمعركة جديدة، فجمع ما استطاع من سلاح كتيبته والفصائل الأخرى، و"حَسَّان" وحده من كان يمكنه أن يطلب أي سلاح من أي فصيل بدون أن يُرفض طلبه ثقةً فيه، ورافقهُ شباب كتيبة (القسَّام) المتلهِّفون للقتال بدون أن يعرفوا نواياه الحقيقية، وكان من بينهم "حمزة"، فتىً في الثامنة عشر بالكاد يؤدي فروضه الدينية اليومية.

بعد ساعات وبوصول القافلة إلى تخوم مناطق التنظيم أخبرهم "حَسَّان" بنيِّته ومقصده، وترك لهم خيار الإكمال أو العودة. لكن الفتية الواثقين بقائدهم العسكري حتى النهاية قرروا جميعًا أن يكملوا. وصل الخبر المفاجئ إلى "علي" وفصائل الجبل، وكانت بالنسبة لهم "لحظة صادمة"، ولم يتوقع "علي" أن رفيقه يمكن أن يتركه، وفي اليوم الثالث من الرحلة كان "حَسَّان" ومجموعته قد بايعوا التنظيم كـ "جنود للخلافة"، وعلى عكس غيرهم عُوملوا بتقدير من قبل التنظيم، وبدأت المجموعة اتصالاتها برفاق السلاح القدامى الذين صاروا أعداءً في تلك اللحظة، يحثّونهم على اللحاق بهم والانضمام أو "ليس لكم إلا القتل وجهنَّم".

في الشهر الرابع من الرحلة انتشر إصدار مرئي لتنظيم الدولة عنوانه "وصيَّة أبي قتادة الجبلاوي"، ويظهر فيه فتى ملثم وسط سيارة عسكرية أمريكية محشوة بالألغام والمتفجرات، وردَّد الفتى جُمَلًا بدا وكأنه «يحفظها بلا استيعاب»، معانٍ كبرى عن "تحرير بلاد الإسلام ومقاتلة الكفار والمرتدين"، ورسالة لأهله أن يصبروا على فراقه.

مستعجلًا من غير أن يلتفت هجم "أبو قتادة الجبلاوي" بسيارته على تجمع لقوات "البشمركة" في "كركوك" شمال العراق ليتحول إلى كرة من اللهب، هذا الانتحاري لم يكن سوى "حمزة" فتى في الثانية عشر من العمر، وقُتل أغلب شباب المجموعة في معارك مختلفة لتنظيم الدولة، ولم يتبق منهم إلا اثنان فقط ما زالا أحياءً حتى اللحظة عالقين في مناطق التنظيم.
 

قشّة حلب التي قصمت ظهر الثورة

undefined

في ديسمبر (كانون الأول) للعام الماضي 2016 وصل الوضع الميداني في مدينة "حلب" إلى نقطة حرجة بالنسبة لـ "ثُوَّارِها"، وحوصرت المدينة بعد سنوات من القتال، وصارت مُهدَّدةً بالسقوط في أي لحظة وهو ما حدث بالفعل فيما بعد.

بقي من كتيبة (أبي أيوب الأنصاري) 20 مقاتلًا فقط قاتلوا حينها في الجبهات الصعبة شمال المدينة، ومع انهيار الأحياء حيًّا بعد آخر انهارت آمالهم بأي انتصار، إلى أن خرجوا مع عشرات الآلاف من المدنيين وآلاف المقاتلين من المدينة بوساطة تركية – روسية، وبينما ظنُّوا أن ذلك "أسوأ ما يمكن أن يحدث" كان بانتظارهم الأسوأ، ففي منتصف يناير (كانون الثاني) لعامنا الحالي 2017 بدأت (فتح الشام – جبهة النصرة)  ما سُمِّيَ بـ  "حملة استئصال ضد فصائل الجيش الحر" بدعوى أنها وقَّعت في "أستانا" على قتالها وأنها سلَّمت "حلب"، ونُصبت الحواجز في أرياف "حلب" و"إدلب" المُحرَّرة، وهوجمت المقرات وصودرت مخازن الأسلحة، وكانت الحالة مهددة في أي لحظة باشتعال مواجهات شاملة، تعيد لشباب (أبي أيوب) ذكرى معركتهم مع تنظيم الدولة.

كتبَ انضمام "حَسَّان" ومجموعته إلى تنظيم الدولة نهاية كتيبة (عزّ الدين القسَّام)، تاركًا إياها دون أي سلاح أو موارد، وتفرَّق شمل شباب الكتيبة بين الذين ذهبوا إلى تنظيم الدولة، وبين القليلين الذين بقوا في ريف "اللاذقية"، والأغلبية الذين صاروا في تركيا أو هاجروا إلى أوروبا. ولم يختلف الحال كثيرًا في كتيبة (أبي أيوب) بطبيعة الحال.

في غرفة باردة كما يحدد هذا الوقت من العام: يناير (كانون الثاني) لعام 2017، وفي زاوية مجهولة ومهملة من مدينة "أنطاكيا" التركية، كان الشاب مميز الملامح يسرد ذكريات كتيبته التي أنشأها بيديه قبل أن يخسرها ويخسر مقاتليها واحدًا بعد واحد، وكان يفكِّر: هل كان يمكن أن نمضي حقًا بدون كل ذلك التشظِّي؟، ما بدا وكأنه سؤال عَلِقَ في السماء بلا أي إجابة، على الإطلاق.

المصدر : الجزيرة