شعار قسم ميدان

استثناء الرفاه.. كيف تميزت اسكندنافيا عن بقية أوروبا؟

ميدان الدول الإسكندنافية
ما يزال الكثيرون حول العالم ينظرون إلى دول الرفاه الإسكندنافية نظرة حسد، ولذلك سبب وجيه. فحتى مع وجود مشروع نيوليبرالي يبلغ عمره عدة عقود من الزمان، يهدف إلى إصلاح هذه الدول، فإنها تتمتع بمساواة في الدخول مرتفعة نسبيا، وبرامج رعاية اجتماعية ضخمة تعتمد على الضرائب، واتحادات قوية، ونسب بطالة منخفضة نسبيا.

 

تخبرنا المراجع النيوليبرالية أن السبيل الوحيد إلى الازدهار المجتمعي هو الضرائب المنخفضة، والمشاريع الحرة، وأسواق العمل التنافسية. إلا أن الدول الإسكندنافية تواصل الازدهار بعناد، وتتربع بصورة دورية على قمم المؤشرات العالمية للسعادة ومستوى المعيشة، رغم مخالفتها المعايير الأنجلو-أمريكية للرأسمالية. لذلك علينا ألا نستغرب توجيه النيوليبراليون والمحافظون قدرا كبيرا من المجهود الفكري لنزع الشرعية عن "النموذج الشمالي".

 

النمساوي البريطاني فريدريش فون هايك (مواقع التواصل الإجتماعي)
النمساوي البريطاني فريدريش فون هايك (مواقع التواصل الإجتماعي)

في أوائل عام ٢٠١٥، خصص معهد الشؤون الاقتصادية – أحد مراكز الأبحاث الإنجليزية المقربة من صناع القرار – كتابا كاملا للطبيعة اللا استثنائية للتجربة الإسكندنافية. كان هذا الكتاب يهدف إلى تفسير قصة نجاح دول الرفاه في الشمال، عبر جدل هايكي كلاسيكي (نسبة إلى النمساوي البريطاني فريدريش فون هايك) يرجع نجاح دول الشمال إلى ما قبل عصر المصلحة العامة، وأن كل ما هو استثنائي وناجح في هذه التجربة قد زال مع بداية هذا العصر.

 

بالتزامن مع ذلك، نجد أن كيفين ويليامسون – محرر ناشيونال ريفيو البارز – قد تبنى وجهة النظر المعاكسة. فسلم بالاستثنائية المستمرة لتجربة الشمال، وأقر باستمرار التفوق النسبي لهذه الدول حتى وقت قريب. كان ذلك في الولايات المتحدة، حيث زرعت حملة بيرني ساندرز الانتخابية بذور الأفكار الديموقراطية الاجتماعية الشمالية في تربة التيار السياسي الرئيسي في البلاد.

 

لكن الغرابة تكمن في وجهة نظر ويليامسون العنصرية، فقد ربط بين نجاح السياسات الديموقراطية الاجتماعية وبياض بشرة دول الشمال وتجانس سكانها، بما يقلل من وزن هذه التجربة كمصدر إلهام للتقدميين الأمريكيين المناهضين للعنصرية.

 

الإجماع الشمالي
 كيفين ويليامسون (مواقع التواصل الإجتماعي)
 كيفين ويليامسون (مواقع التواصل الإجتماعي)

في مقالة نشرتها ناشيونال ريفيو في يوليو من نفس العام، وصف ويليامسون ساندرز بالاشتراكي القومي، واستنكر استخدامه خطاب "نحن وهم" غير الإسكندنافي. قال ويليامسون إن رغبة ساندرز في تسليط الضوء على نقاط تضارب المصالح هي "نقيض" لأسلوب ممارسة السياسة في الدول الإسكندنافية – حيث السياسة يقودها الإجماع – وأن ذلك "الامتثال" يشكل دعامة للاستقرار السياسي، مما يسمح بظهور تجانس مجتمعي رقيق ومعقد وواسع النطاق بشكل لافت للنظر، قادر على احتواء النزاع السياسي.

 

إن السياسة الإسكندنافية أقل تحزبا وأكثر ائتلافا مما عليه الحال في الولايات المتحدة، بتمثيل نسبي يحرم أي حزب من كسب أغلبية برلمانية مطلقة. لكن علينا ألا نخلط بين ظرف تاريخي من الكياسة السياسية النسبية المشروطة وجوهر فوق-تاريخي لثقافة دول الشمال السياسية.

 

فاليوم، نجد أن دولة الرفاه العالمية، والأسواق المنظمة بشكل عادل، تتمتع بشعبية عالية بين الناخبين، إلى درجة تجبر السياسيين الليبراليين أو المحافظين الراغبين في تفكيكها على التظاهر بالدفاع عن الصالح العام تجنبا للانتحار السياسي. إلا أن هذا الموقف لم يظهر من العدم، بل هو نتاج عقود من كفاح العمالة المنظمة وحركات شعبية أخرى على مدار القرن العشرين.

 

لكن دول الرفاه الديمقراطية الاشتراكية واجهت عقبات تاريخية قوية، سواء من اليسار، حيث الشيوعيون وحركات اليسار الجديد، أو من اليمين، حيث رابطة أصحاب العمل السويدية، وأشباه حزب الشاي من الحركات الرافضة للضرائب، التي ظهرت في السبعينيات بالنرويج والدنمارك. إننا نقولها بكل بساطة: لم يكن الإجماع في دول الشمال عاما بالدرجة التي يوحي بها حديث ويليامسون.

 

ماذا عن امتياز الديموقراطية الاشتراكية؟
كتب ويليامسون أن
كتب ويليامسون أن "أمم أوروبا الشمالية" كانت حتى وقت قصير "متجانسة عرقيا، ذات أغلبية ساحقة من أصحاب البشرة البيضاء، ومعادية للمهاجرين، وقومية، وعنصرية
 

بعد مقال "الاشتراكي القومي" بفترة قصيرة، نشر ويليامسون مقالة أخرى تحت عنوان "عن المزية الأكثر بياضا"، مارس فيها ما يشبه التحليل النفسي لليسار الأمريكي الذي يرى في دول الرفاه الإسكندنافية مصدرا للإلهام. ربما يقول التقدميون إنهم يريدون تبني نماذج الرفاه العالمية المؤسساتية ذات النمط الإسكندنافي، إلا أنهم يعنون بذلك – كما يخبرنا ويليامسون بجرعة مكثفة من هرمنوطيقا الشك – رفضهم التنوع العرقي: "إن قول "كنا لنسعد بجعل أمريكا أكثر شبها بالنرويج أو فنلندا" يعني – من ضمن ما يعني – "كنا لنسعد بجعل المجتمع الأمريكي أكثر بياضا"."

 

ومما يزيد هذا الاتهام غرابة، هو صدوره عن ويليامسون نفسه، الذي ذكرنا قبلها بيومين فقط أن المحافظين – لا التقدميين – هم من قضوا الوقت في محاولة لتقديم تنظير يجعل من التجانس العرقي والثقافي مفتاحا للنجاح الاقتصادي السياسي: "إن كون النجاح النسبي لدول رفاه غرب أوروبا، الإسكندنافية منها على جوه الخصوص، متجذر في التجانس الثقافي والعرقي، لهو من بين انتقادات المحافظين القديمة للمحاولات ذات النكهة البرنية (نسبة إلى بيرني ساندرز) الساعية إلى إعادة خلق النموذج الدنماركي في نيو جيرسي وتكساس، وميسيسيبي."

 

على كل حال، إن محاولة ويليامسون الملتوية لعنصرة قصة النجاح الإسكندنافي تعاني من بعض القسور. كتب ويليامسون أن "أمم أوروبا الشمالية" كانت حتى وقت قصير "متجانسة عرقيا، ذات أغلبية ساحقة من أصحاب البشرة البيضاء، ومعادية للمهاجرين، وقومية، وعنصرية بوضوح في أغلب سياساتها الداخلية."

 

لا شك في صحة أول ملاحظتين – التجانس والبياض – وإن كان لا يد لأحد فيهما. أما الملاحظات الأخرى فتضع ويلياماسون في موقف حرج. ولعله أدرك جزئيا أن وصفه لهدفه الفعلي – دول الشمال – بالعنصرية الشديدة، ومعاداة الأجانب، أو بالحس القومي، مقارنة بدول أخرى، في أوروبا أو أنحاء أخرى من العالم، سيكون كذبا مفضوحا، فعمد ويليامسون إلى وصف أكثر عمومية وغموضا، ألا وهو "أوروبا الشمالية".

 

ليست الدول الإسكندنافية باستثناء من المعايير الأوروبية فيما يتعلق بالعنصرية والقومية، ويمكن للمرء العثور على أمثلة من العنف الموجه ضد المهاجرين، والقومية الشوفينية، والسياسات العنصرية في سجلات دول الشمال. فعلى سبيل المثال، كانت درجة معاداة السامية في هذه البلاد مرتفعة قبيل الحرب العالمية الثانية، كحال معظم بلدان أوروبا، واكتسحت الحمى القومية جميع دول الشمال في القرن التاسع عشر، كحال بقية العالم.

 

 كذلك، نجد أن تاريخ دول الشمال الاستعماري، يقابله تاريخ من العنصرية الأوروبية المؤسساتية (بلجيكا، المانيا، أسبانيا، البرتغال، بريطانيا، هولندا، فرنسا، إلخ.) الذي استمر جزئيا حتى الفترات المعاصرة. وما المعاملة القذرة التي انتهجتها السلطات الدنماركية مع سكان جرينلاند الأصليين إلا مثال واحد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن ويليامسون فشل في إثبات نقطتين، أولها امتلاك دول الشمال – سواء على مستوى سياسات الدولة أو الحس الشعبي – تاريخا يفوق البلدان الأخرى (بما فيها الولايات المتحدة) سوءا. والأخرى هي لعب العنصرية لأي دور تأسيسي لدول الرفاه الشمالية العالمية في القرن العشرين.

 

إن محاولة ويليامسون لاعتبار كراهية الأجانب صفة جوهرية بالنسبة لدول الشمال يفتقر إلى الدلائل التاريخية، عدا بعض الوقائع في التاريخ السويدي المرتبطة بالهجرة، وهي أبشع الوقائع التي يستطيع ويليامسون العثور عليها. لكن مع مزيد من التدقيق، نجد أن جميع هذه الوقائع مستمدة من مقالة وحيدة كتبها الإناسي تشارلز وستين، ولا تصلح أي منها دعامة لما يزعمه ويليامسون من عنصرية سويدية مؤسساتية.

 

هناك ثلاثة معلومات رئيسية أمامنا. أولها أن أغلب العمالة المهاجرة التي وصلت السويد على مدى أعوام كثيرة، جاءت من بلاد إسكندنافية أخرى، وذلك بسبب قلق اتحاد نقابات العمال من "العمالة الأجنبية الرخيصة". وكان تعامل ويليامسون مع هذه النقطة فاضحا لتحيزاته الفكرية، فقد اعتبر أي رفض لتنظيم الدخول إلى سوق العمل الوطني فعلا "بوكاناني" (نسبة إلى السياسي الأمريكي باتريك جوزيف بوكانان)، مهما كانت دوافعه.

 undefined

ومع ذلك، نجد أن كراهية الأجانب لم تكن هي المحرك وراء قرار اتحاد نقابات العمال السويدي. بل كان الهدف تأمين الظروف المعيشية لأي عامل في السويد، بغض النظر عن جنسه، وعرقه، وجنسيته. فكتب وستين عن هذا الشأن (وهو ما نسي ويليامسون إضافته): "وافق اتحاد نقابات العمال على منع استقدام العمالة الرخيصة، ومنح العمال الأجانب نفس مستوى الأجور والحقوق التي يتمتع بها أي سويدي، بما فيها الحق في إعانات البطالة".

 

أما عن المعلومة الثانية، وهي رفض إيواء كثير من اليهود الذين لاذوا بالسويد في الثلاثينيات والأربعينيات بسبب تفشي معاداة السامية. فهناك ما لم يخبرنا به ويليامسون، وأعني بذلك تغير الموقف بشكل كبير خلال الحرب نفسها، حيث فرت أعداد كبيرة من يهود النرويج والدنمارك (مع أعضاء حركات مقاومة الاحتلال الألماني) إلى السويد. وعن ذلك أيضا يقول وستين: "كان هناك بعض التردد في قبول هؤلاء الأجانب أول الأمر، لكن سرعان ما تم قبولهم بل والترحيب بهم".

 

أخيرا، يقول ويليامسون "إن كلمة ‘المهاجرين’ في اللغة السويدية الحديثة لا تعني ‘شخص ولد خارج السويد’، بل ‘شخص من خارج دول الشمال في السويد’. وهي ملاحظة هامة، لكن ويليامسون كعادته لم يخبرنا بالقصة كلها. فهناك محاولات نشطة تجريها السويد لمكافحة هذا النمط من التفكير. وهاك ما كتبه وستين: "يتجنب المسئولون اليوم استخدام كلمة "مهاجر" في الخطاب الرسمي، فيستبدلونها ب"شخص من أصل أجنبي". كذلك وضعت سياسة لإدارة التنوع قبل سنوات، لمكافحة نزعات الاقصاء الاجتماعي والقوالب النمطية. إضافة إلى التعزيزات التي أضيفت إلى قوانين مكافحة التمييز العرقي المهترئة.

 

باختصار، نقول إن ضعف الحجة هو أكثر الأوصاف تهذبا لمحاولة ويليامسون وصم النموذج الشمالي بالعنصرية. لا جدال في أن دول الشمال تعاني اليوم من صعود قوي للحركات اليمينية الشعبوية التي تهيمن عليها كراهية الأجانب، إلا أن ذلك هو الحال في كثير من البلاد الأوروبية الأخرى. في الواقع، إذا كانت دولة الرفاه في الشمال متوافقة مع الفكر العنصري ومنتجة له، كيف يمكن للمرء إذا تفسير النمو المماثل لكراهية الأجانب اليمينية الشعبوية في فرنسا، وسويسرا، والمملكة المتحدة، وجميع الدول ذات الأنظمة الاجتماعية المختلفة؟

 

صحيح أننا لم نشهد بعد بزوغ حركات قوية مناهضة للتمييز في الدول الإسكندنافية، على غرار حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، لكن من ناحية أخرى، لن يستطيع المرء إيجاد أمثلة في تاريخ دول الشمال الحديث تقابل الحركات العنصرية المنظمة مثل الكلو كلوكس كلان أو عنصرية جيم كرو المؤسسية.

 

حركة الحقوق المدنية بالولايات المتحدة. (مواقع التواصل الإجتماعي)
حركة الحقوق المدنية بالولايات المتحدة. (مواقع التواصل الإجتماعي)

نحن لا نقول إن شعوب دول الشمال أقل عنصرية بطبيعتها عن الأمم الأخرى، بل كل ما نقصد إليه هو إبراز فشل ويليامسون في إثبات الطبيعة العنصرية أو القومية كجوهر في التجربة الشمالية. ولا جعلت دول الرفاه الشمالية في القرن العشرين من الإقصاء العرقي مبدأ عمل أساسي؛ على العكس، لقد استندت إلى مبادئ عالمية للاستحقاق من خلال المواطنة، لا مبادئ إقصائية على أساس العرق أو الثقافة.

 

الاستثناء الإسكندنافي
undefined

 إذا لم يكن "التجانس الأبيض" عاملا رئيسيا في الاستثناء الإسكندنافي، كيف لنا أن نفسر هذا الاستثناء؟ إن أول خطوة هي إدراك أن كثير من نواحي تقدم دول الرفاه الإسكندنافية ليست بهذه الدرجة من الاستثنائية، بل هي تنويعات على التجربة الأوروبية الغربية العامة.

 

كانت دول الشمال الحديثة محظوظة بوقوعها في مساحة جغرافية قريبة من بلدان النظام الرأسمالي العالمي الرائدة، مع الحفاظ على استقلالها السياسي في الوقت نفسه. كانت من تنائج هذا الظرف التاريخي أن استفادت دول الشمال – سواء بشكل مباشر أو غير مباشر – من التدفقات التجارية التي لازمت الرأسمالية التجارية المبكرة، كما استفادت لاحقا من الثورة الصناعية والحقبة الكولونيالية.

 

في البداية، اعتمدت هذه البلاد في تطورها على تجارة البضائع الرئيسية المربحة – سلع زراعية معالجة في الدنمارك، وخشب ومعادن خام في السويد – لكن بداية من أواخر القرن التاسع عشر فصاعدا بدأ الاتجاه إلى التصنيع. نتيجة لذلك، ازدادت دول الشمال – مثل سائر بلاد شمال غرب أوروبا – ثراء نسبيا، وتنظيما.

 

كذلك لم تكن الدول الإسكندنافية وحدها التي تسعى إلى تطوير نظم شاملة للرعاية الاجتماعية في القرن العشرين. فقد ظهرت في جميع أنحاء أوروبا الغربية نواة التسوية الاجتماعية المرتبطة ببناء مؤسسات رفاه عالمية في أوائل القرن العشرين بالتزامن مع صعود الحركات العمالية المنظمة.

 

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كانت النخب الأوروبية قلقة من القوى العاملة المتطرفة، وصعود الشيوعية السوفيتية، ووجدت هذه النخب أن التوصل الى حل وسط مع العمال أمر ضروري للحفاظ على النظام الرأسمالي. مما أدى إلى ارتفاع سريع في الأجور الحقيقية وبناء مؤسسات الرعاية الاجتماعية في كل بلاد أوروبا الغربية التي تحركها الولايات المتحدة، وساعد على ذلك مساعدات مشروع مارشال، والانفتاح المثمر على السوق الأمريكية.

 

مرة أخرى، نلاحظ مواكبة الدول الإسكندنافية لركب أوروبا الغربية بشكل عام. لكن هذا النموذج الجديد من الرأسمالية الاجتماعية اتخذ شكلا أكثر تطرفا هناك منه في أي مكان آخر. لتصل معدلات توزيع الدخل القومي وقوانين الضمان الاجتماعي في مجالات مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والنقل، والإسكان، إلى مستوى غير معهود في أي مكان آخر في أوروبا، جرى ذلك كله تحت هيمنة الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية القوية.

 

كان هذا إلى حد كبير ثمرة جهد حركات عمالية قوية فريدة، ممكنة سياسيا من قبل تحالفات قوية مع الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية. فتمكنت الحركات العمالية من تحقيق هيمنتها السياسية من خلال إقامة تحالفات مع الحركات الشعبية الأخرى التي تدعم المساواة والديمقراطية، أبرزها الحركة النقابية القائمة على الفلاحين والحركة النسائية بعد حقبة السبعينيات.

 

لعل دولة الرفاه الإسكندنافية بلغت ذروتها في السبعينيات والثمانينيات، حين كان التمييز في أقل مستوياته المسجلة في الاقتصاديات الرأسمالية. إضافة إلى ذلك، شهدت الدنمارك والسويد دعم اتحادي واسع النطاق لبرامج الديمقراطية الاقتصادية، التي ستستحوذ تدريجيا على ملكية وسائل الإنتاج، عبر التمويل المقدم من الأجراء. مع ذلك، كانت هذه نفس الفترة الذي ظهرت فيها أول الشقوق في تربة التجربة الواعدة.

 

لكن المشروع الديمقراطي الاشتراكي لم ينجح أبدا في محاولته لتحدي قوة رأس المال المملوك للقطاع الخاص. وحينما قلصت ضغوط المنافسة الدولية والتكامل الاقتصادي الأوروبي من مساحة السياسات الوطنية، وغيرت معالم الساحة السياسية بشكل حاسم لصالح المشاريع، بدأ انهيار التسوية الاجتماعية التي يقوم عليها "نموذج الرفاه الشمالي".

 

في هذا الظرف، أثبت النموذج الشمالي هشاشته، فلم تسلم الدول الإسكندنافية من موجة النيوليبرالية التي اجتاحت العالم بعد سقوط جدار برلين. وبداية من التسعينيات، اضطرت أحزاب الشمال – حتى الاشتراكية الديمقراطية منها – إلى التكيف بدرجة كبيرة مع إجماع سياسي جديد على الخصخصة وإلغاء القيود، والحد من الحقوق والمنافع الاجتماعية. ونتيجة لذلك، تقترب النظم الاجتماعية للدول الإسكندنافية تدريجيا من التيار العام الأوروبي.
 

صعود اليمين
تجمع شعبي في أوسلو قبيل انتخابات ١٩٣٦. حزب العمال النرويجي/فليكر (مواقع التواصل الإجتماعي)
تجمع شعبي في أوسلو قبيل انتخابات ١٩٣٦. حزب العمال النرويجي/فليكر (مواقع التواصل الإجتماعي)

لا يستطيع المرء فهم الهيئة التي اتخذتها الشعبوية اليمينية في الدول الإسكندنافية، إلا في سياق تدهور دولة الرفاه. كان ويليامسون مصيبا في إشارته إلى "شيفونية الرفاه" كسحابة سوداء معاصرة في المناخ السياسي الشمالي، لكنه فشل في فهم أسباب هذه الظاهرة. إن صعود حزب الفنلنديون الحقيقيون، وحزب التقدم النرويجي، وحزب الشعب الدنماركي، والديموقراطيون السويديون،جاءت جميعها نتيجة للخصوصية القومية. لكن ما يجمع بين هذه المجموعات هو الدعم الحيوي الذي يصلها من الطبقة العاملة، تلك الطبقة التي حرمت – بداية من الثمانينيات – من حياتها الآمنة نسبيا نتيجة لتراجع الصناعة وتخفيض نفقات برامج الرعاية الاجتماعية.

علاوة على ذلك، أدى إضعاف الحركة العمالية في حقبة الليبرالية الجديدة إلى ردود فعل ساخطة قطعت الروابط المتينة – البنية التحتية للمجتمع المدني – التي كانت تربط بين الحركة العمالية، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، وعموم الطبقة العاملة، كما أدت إلى تقويض القيم التضامنية.

 

في كتابه عن صعود حزب التقدم، يشرح المؤلف والباحث النرويجي ماجنوس مارسدال كيف أن المصوتين من الطبقة العاملة التي جرت العادة على مساندتها للديمقراطية الاجتماعية لم تعد قادرة على إيجاد مساحة مشتركة تجمع بينها وبين الحزب الديمقراطي الاشتراكي الذي سيطر عليه الخبراء الأكاديميون، لينفصل تماما عن هموم الناخبين العاديين من العمال. ومع انتهاج الأحزاب المهيمنة نفس نوع السياسات الاقتصادية، اتجه الناخبون بدلا من ذلك إلى قضية الهجرة كمعيار يوجه تحيزاتهم السياسية.

 

واليوم، نجد أن الشعبوية اليمينية الكارهة للأجانب التي تجتاح دول الشمال وسائر دول شمال أوروبا، تأتي ملازمة لمحاولة يائسة للدفاع عن دولة الرفاه المتداعية. ومع تراجع الأمن الاجتماعي، يخلط بعض الناس بين اثنين من آثار العولمة وإعادة هيكلة رأس المال – الهجرة الجماعية وتدهور الخدمات الاجتماعية – فيحسبون أن بينهما علاقة سببية.

 

بل إن هناك مشكلتين متميزتين من الناحية التحليلية، يتلازمان في حقل سياسات دول الشمال المعاصرة، ظهرتا بسبب الطبيعة العالمية لدول الرفاه، غير الإقصائية عرقيا: أولاهما المحافظة على دولة الرفاه في ظل ضغوط العولمة النيوليبرالية؛ والأخرى إدارة عملية التحول من مجتمع أحادي العرق إلى مجتمع متعدد الأعراق.

 

كذلك نجد أن التزاوج بين شكلين من الحنين إلى الماضي المشجع على الأمن – الثقافي العرقي والمادي – لهو شوفينية الرفاه في صورة موجزة. لكن هذه الشوفينية ليست امتدادا منطقي لدولة الرفاه الشمالية. بل هو انحراف خبيث عن طريقها، أنتجه يأس شعبي بعد أكثر من ثلاثة عقود من الإصلاحات النيوليبرالية.

 

دروس من تجربة دول الشمال

لا ينفي ما سبق إمكانية استفادة التجارب التقدمية الأجنبية من النظام الاجتماعي الإسكندنافي. فهناك كثير من البرامج لم تزل من بين الأكثر تقدما حول العالم، بداية من التعليم المجاني الممول من أموال الضرائب، إلى برامج رعاية الأطفال المدعومة وإعانات البطالة السخية.

 

لكن علينا – ونحن نستلهم من هذه السياسات – الانتباه إلى أن الاستثناء الإسكندنافي لا يقوم على مجموعة معينة من المؤسسات والسياسات الجاهزة للتطبيق من قبل خبراء مستنيرين. فقد كانت الحركة العمالية القوية هي التي أنتجت خطط التنمية المؤسساتية لدول الشمال، بالتعاون مع قوى شعبية أخرى. وحينما بدأ هذا الأساس في التآكل، تبعته مؤسسات الررفاه هي الأخرى، كما هو الحال في الدول الإسكندنافية بداية من الثمانينيات وحتى اليوم.

 

إن الطريقة الوحيدة للحصول على "المستويات الإسكندنافية" من إعادة توزيع الثروة والضمان الاجتماعي، هي الشروع في خلق حركات شعبية قوية قادرة على دفع هذه الأجندة.

 

فإن تحرك أمريكي ناجح لتشييد دولة رفاه شاملة في بلد متعدد الأعراق، لن يعتبر رد فعل رائع على الحتمية الثقافية الصريحة منها والضمنية فحسب، بل سيغدو أيضا مصدر إلهام رئيسي للتقدميين الأوروبيين الباحثين عن أدوات فعالة لمكافحة شوفينية الرفاه.

المصدر : الجزيرة