شعار قسم ميدان

شبح النازية والغزاة الفرنسيين.. هل يصعد اليمين المتطرف لزعامة أوروبا؟

ميدان - فرنسا وألمانيا
اضغط للاستماع
     

"أشعر أحيانًا بالإحباط، بل والغضب، لأنه لم يعُد بمقدورنا في ألمانيا اليوم أن نعبّر عن أنفسنا، وأن نسمّي الأشياء بأسمائها دون مواربة، وكأننا في وضع مشابه للبلدان الشمولية." – مواطن ألماني في رسالة للحزب الديمقراطي الاجتماعي احتجاجًا على النظر في فصل ثيلو سرازين.

 
في بث مباشر على مواقع التواصل، وعلى أنغام أغنية إبادة الإنسان "تخلّص من الكباب"، بدأت مذبحة المسجدين بنيوزيلندا التي نفذها اليميني المتطرف برينتون تارانت. إلا أن المشهد الذي بدا أشبه باستعراض لأحد أشرطة ألعاب الفيديو، حمل معه مضامين أنبأت عن جذور تتجاوز أي احتمال لاعتبار هذه الجريمة عشوائية، أو أنها انفعال ينبئ عن اضطراب عقلي لتارانت، لكنها حملت عبر ما يتجاوز ال70 صفحة قام بنشرها مستبقا عمليته، والتي تشبه "المانيفستو"، مضامين وإحالات دينية وتاريخية معبأة بالكراهية للمسلمين، ومستدعيا فيها الحروب الصليبية، وعددا من المحطات التاريخية التي تعد تأسيسية للخطاب اليميني المتطرف. التيار الذي لم تكن الجريمة الأخيرة سوى تعبيرا صارخا عن بزوغه من جديد بأبشع تجلياته، والتي سبقها تنامي وصعود لكثير من قادته في عدد من الأقطار الأوروبية، ليمثل صعودها تجسيدا واضحا لتيار يتسع من متبني الخطاب المعادي للمسلمين والأقليات، والذي يحمل في القلب منه مضامين هوياتية عرقية إقصائية.

الإرث النازي

في غُرفة زجاجية مُغلقة داخل متحف الشمع بالعاصمة الألمانية برلين، وعلى عكس كافة تماثيل الشخصيات الألمانية والعالمية الطليقة داخل المتحف، يقبع هتلر اليوم محبوسًا خلف الزجاج، حيث تنبه لافتة صغيرة أمام الغرفة الزجاجية الزوار إلى عدم التقاط الصور معه؛ لكيلا يجرحوا مشاعر البعض. يشعر الألمان بالحرج منه حتى في صورته الشمعية على ما يبدو، ويعاقبونه بالحبس حتى بعد انتحاره بعقود طويلة، وهو عقاب يناله جزاء جريمته البشعة: البحث عن المجد والإمبراطورية للشعب الألماني.

 

لم يسبق وأن جلدت مدينة ذاتها مثلما فعلت برلين، فمتاحف المدينة ليست مخصصة لاستعراض أمجاد الألمان كما هي عادة متاحف معظم البلدان، بل تنصب على عرض حياة ضحاياهم.
لم يسبق وأن جلدت مدينة ذاتها مثلما فعلت برلين، فمتاحف المدينة ليست مخصصة لاستعراض أمجاد الألمان كما هي عادة متاحف معظم البلدان، بل تنصب على عرض حياة ضحاياهم.
 

لم يسبق وأن جلدت مدينة ذاتها مثلما فعلت برلين، فمتاحف المدينة ليست مخصصة لاستعراض أمجاد الألمان كما هي عادة متاحف معظم البلدان، بل تنصب على عرض حياة ضحاياهم حين سعوا نحو المجد مثلهم مثل غيرهم من دول أوروبا، لا سيّما ضحايا هتلر والرايخ الأخير، فهنالك متحف مخصص لليهود بقاعة رمادية كئيبة وضخمة تماثل الأماكن التي احتُجِزوا فيها قبيل الهولوكوست، ومن ثم تحاكي نفس أحاسيسهم بين الزوار، ومتحف آخر لليهود المقتولين في الحرب العالمية الثانية فقط، بل ومتحف آخر مخصص لأنّا فرانك اليهودية ضحية الهولوكوست.

 

لا تقتصر المتاحف على ضحايا الألمان في الماضي، في نوع من أنواع استدعاء تأنيب الضمير، وتوبيخ أي ألماني تسوّل له نفسه البحث عن أمجاد الماضي المستَنَكرة على نطاق واسع، بل وتشمل أيضًا إبداء التقدير لمن احتل ألمانيا وحاربها ليوقف عجلات توسّعها أثناء الحرب العالمية الثانية، سواء من احتلها من الغرب كالأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين، ولهم متحف مخصص يستعرض مساهماتهم لألمانيا الغربية وتعزيز الحريات فيها، أو الروس ممن احتلوها قادمين من الشرق، ولهم متحف أيضًا مخصص للعلاقات الألمانية الروسية.

 

يعيش الألمان باستمرار وفوقهم سحابة إرث نازي ثقيل تنبهّهم دومًا إلى عدم السقوط في مستنقع الأيديولوجيا القومية، بل وتُجبرهم على احترام مُحتلّيهم ممن يدينون لهم بوقف زحف أسلافهم الألمان أنفسهم، وعلى غرار انضباطهم المعروف عنهم في الأعمال والمصانع وغيرها، هنالك انضباط مشابه في مجال الخطاب السياسي يحرُم معه بأي شكل استدعاء ذكرى هتلر أو الإشارات العنصرية لأي شعب -واليهود بشكل خاص- أو تمجيد العرق الألماني لأي سبب كان، ولعل المناسبة الوحيدة التي كسرت ذلك الحاجز النفسي بين الألمان وإطلاق العنان لبعض مشاعر الانتماء الوطني كانت فوزهم بكأس العالم عام 2014.

 

لم يكن مفاجئًا رد الفعل الذي قوبل به ثيلو سرازين عام 2010، حين نشر كتاب "ألمانيا تدير ظهرها لنفسها" متهمًا النُخَب السياسية بدفن رؤوسها في الرمال والتغاضي عن الواقع؛ واقع غزو الأتراك لألمانيا عن طريق معدلات مواليدهم المرتفعة، وعدم قدرة المسلمين بشكل عام على الاندماج، وعدم وجود جدوى اقتصادية منهم نظرًا لكسلهم مقارنة بالألمان، بل واحتمالية امتلاكهم لجينات ذكاء أقل من نظرائهم الألمان ومن ثم هيمنة عنصر أقل كفاءة وذكاءً وانضباطًا على ألمانيا بحلول العام 2100، ناهيك عن نشرهم لمدارسهم القرآنية ومساجدهم على حساب كنائس ألمانيا وثقافتها.

 (رويترز)
 (رويترز)

واجه ثيلو سرازين، وزير المالية السابق لمدينة برلين والعضو بمجلس إدارة دويتشه بنك، الفصل أولًا من منصبه في البنك الألماني العريق، ثم النظر في فصله من جانب حزبه الديمقراطي الاجتماعي، والذي اضطر للتراجع تحت ضغوط الآلاف من أعضائه ممن أرسلوا الخطابات والرسائل الإلكترونية المنددة بديكتاتورية الحزب في فصل عضو لمجرد تعبيره عن رأيه، لتكشف ظاهرة سرازين وكتابه تعاطفًا وقبولًا واسعًا غير مسبوق بين الألمان، ومبيعات لكتابه تجاوزت المليون ونصف المليون نُسخة خلال عامين.

يدافع سرازين دون مواربة عن العرق الألماني في لحظة غير مسبوقة داخل ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكنه يحظى -ولا عجب في ذلك- بدعم الشريحة الألمانية التي توشك على الانقراض ديمغرافيًا؛ رجال ونساء الطبقة الوسطى في منتصف أعمارهم أو الكبار في السن، وهي شريحة يروقها أخيرًا أن يتكلم أحدهم بما يجول بخاطرها دون حرج كما في السابق، ويجذبها أيضًا حزب يميني صاعد مؤخرًا هو "بديل لأجل ألمانيا" AfD.

 

برلين.. لليمين كثيرًا
قرارات يمينية يتبناها حزب ميركل بعد أن حمل راية الانفتاح على اللاجئين لبعض الوقت متطلعًا لجني ثمارها.
قرارات يمينية يتبناها حزب ميركل بعد أن حمل راية الانفتاح على اللاجئين لبعض الوقت متطلعًا لجني ثمارها.

على عكس بلدان أوروبية عدة تحركت فيها أحزاب اليمين القومي حول أطراف الطيف السياسي بحرية، مثل فرنسا وبريطانيا، ظلت ألمانيا بمنأى عن تلك الظاهرة تحت وطأة الشعور بالذنب بعد الحرب العالمية الثانية، بيد أنها انضمت للقائمة أخيرًا منذ أربعة أعوام، حين تأسس حزب البديل احتجاجًا على فكرة العُملة الأوروبية الموحّدة، معتقدًا بأنها تفتح أبواب اقتصادات الجنوب على منافسة غير متكافئة مع ألمانيا تدفعها للإفلاس، ومن ثم تُجبر ألمانيا على تولي عبء مساعدتها، في حين الأجدى -في نظر الحزب- العودة لعُملة المارك الألمانية.

 

تلقى حزب البديل دفعة قوية مع سياسة فتح الباب للاجئين التي تحفّظ عليها كثير من المحافظين حتى داخل الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم، الأمر الذي مال به نحو اليمين أكثر بانتخاب السياسية القومية والمعادية للمهاجرين والمسلمين بشكل صريح فراوكِه بتري، حيث شهد حزب البديل تحت قيادتها انتصارات انتخابية كبيرة خلال العامين الماضيين نبّهت قيادات الحزب الحاكم لضرورة الاتجاه يمينًا للحفاظ على قواعد ناخبيه، وإما الاستسلام لتآكل رصيده واتجاهه لبرنامج الحزب اليميني.

 

بشكل غير مباشر إذن، حصل الناخبون اليمينيون على ما أرادوا دون انتخاب حزب يميني، فقد صرحت مركل بأن قرارها فتح الباب لكم هائل من اللاجئين كان خطأ كرد فعل لانتقادات قوية جاءتها من داخل الحزب، علاوة على مطالبة وزير داخليتها بفرض حظر على النقاب في عدد من الأماكن العامة -وهو مطلب رفعه من قبل حزب البديل-، وأخيرًا اقتراح الحكومة لقانون يمنح الدولة سلطة اختيار الأشخاص المناسبين للعيش في ألمانيا وضرورة تعلمهم اللغة والتاريخ والثقافة الألمانية.
 

قرارات يمينية يتبناها حزب مركل إذن بعد أن حمل راية الانفتاح على اللاجئين لبعض الوقت متطلعًا لجني ثمارها، لكنها راية أسقطها رد الفعل الشعبي الواضح من انتخابات محلية مختلفة برفض قبول أعداد ضخمة من خارج أوروبا في ليلة وضحاها بهذا الشكل، ومشاعر يتم التعبير عنها بشكل متزايد حيال المسلمين والأتراك بشكل خاص، وتهديد صعود حزب البديل اليميني لموقعه في الساحة السياسية الألمانية واستيعاب موجة اليمين.

 

بيد أن البعض يرى أن ما جرى يُعد انتصارًا لموجة اليمين على الحزب وليس العكس، ومنهم كرستين كوديتز عضو حزب "دي لينكه" اليساري، "إذا استمر الحزب المسيحي الديمقراطي بصورته المعتدلة سيخلق فجوة إلى يمينه يمكن لحزب البديل أن يملأها بسهولة، أما إن أجبر حزب البديل نظيره المسيحي على الاتجاه يمينًا، فسيبدأ الأخير بفقدان أصوات الوسط مقابل الحصول على أصوات أكثر من ناخبي حزب البديل، وبمرور الوقت سيزيد احتمال مشاركة حزب البديل في الحكومة كلما ازداد الاقتراب بينهما؛ هي فقط مسألة وقت."

 

ثم تكون باريس
 "ما يقوله الناس لبعضهم في الخفاء، أقوله أنا بأعلى صوتي." – مارين لو بِن
ميشيل ويلبِك، الذي صرّح سابقًا في حوار مع إحدى المجلات الأدبية بالفرنسية بأنه يرى الإسلام أغبى الأديان التوحيدية كلها، هكذا ببساطة دون تفنيد ودراسات.
ميشيل ويلبِك، الذي صرّح سابقًا في حوار مع إحدى المجلات الأدبية بالفرنسية بأنه يرى الإسلام أغبى الأديان التوحيدية كلها، هكذا ببساطة دون تفنيد ودراسات.

على الضفة الثقافية المقابلة لبرلين تقع باريس، المدينة المغرمة بمجدها على عكس عاصمة الألمان، والتي يمنعها كبرياؤها من الإقرار بأي حقوق لضحايا استعمارها وصفحاته المليئة بالوحشية، حتى أنها لا تزال تناقش حتى الآن إمكانية إعادة جماجم بعض المقاومين الجزائريين ممن قتلوا على أيدي الفرنسيين، والقابعة في متحف التاريخ الطبيعي بالعاصمة الفرنسية، إلى الجزائر بلدهم الأصلي ليُدفنوا هناك.

 

هنا مدينة اللامبالاة لا الضمير الألماني، والكبرياء لا جلد الذات، وهي روح تسري على الأدب والفلسفة مثلما تسري على السياسة، فاليمين المتطرف يحظى بدعم كبير منذ عقود طويلة وصلت بجيان لو بِن، زعيم حزب الجبهة القومية سابقًا، لجولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية عام 2002، السياسي اليميني الذي أطلق العنان لأحاديثه الصريحة المعادية لليهود والمقللة من شأن الهولوكوست غير مبالٍ بحُرُمات السياسة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية.


لا يثير الجدل هنا رجال مثل ثيلو سارازين، الاقتصادي والإداري المالي الثقيل وصاحب الخطاب السياسي الموزون في نهاية المطاف، بل يثيره أدباء خارجون عن الصف، بل ونصف مجانين كما يرى البعض، مثل ميشيل ويلبِك، الذي
صرّح سابقًا في حوار مع إحدى المجلات الأدبية بالفرنسية بأنه يرى الإسلام أغبى الأديان التوحيدية كلها هكذا ببساطة دون تفنيد ودراسات مثل سرازين، قبل أن يتراجع عن تصريحه بعد "قراءة جديدة للقرآن" كما سمّاها.

 

يثير الجدل أيضًا ما يكتبه إريك زيمّور، الكاتب والمعلق التلفزيوني، فقد كتب الرجل كتابًا "انتحار فرنسا" انتحار يأتي بالتزامن مع تسليمها مقاليد السلطة لبيروقراطية الاتحاد الأوروبي والرأسمالية المدعومة أمريكيًا كما يقول زيمّور، الذي لا يمل هو الآخر من مواجهة تُهم "بث الكراهية العنصرية" باتهاماته للعرب والسود بتفشي الجريمة بينهم، وأحقية أصحاب الشركات في انتقاء من يوظفونه (في إشارة عنصرية لحقهم في انتقاء الفرنسيين).

 

الاستسلام وليس الانتحار هو ما يراه ويلبِك، إذ نُشرت آخر رواياته Soumission (وهي تعني استسلام وتشابه الترجمة الحرفية لكلمة الإسلام) قبل حوالي عامين، ويتخيّل فيها سيناريو انتخابات العام 2022، حين تقف مارين لو بِن زعيمة حزب الجبهة القومية اليميني حاليًا في مواجهة مرشح مسلم تقرر الأحزاب التقليدية دعمه خوفًا على المنظومة السياسية الفرنسية من لو بِن، ومن ثم يبدأ "استسلام" فرنسا رويدًا للشريعة والثقافة الإسلامية في سيناريو يسيء الكثير من الفرنسيين منذ وقت طويل، وأبرزهم بالطبع لو بِن.

 

لعل سيناريو ويلبِك يتحقق جزئيًا قبل موعده عام 2017، مع توقعات وصول لو بِن للإعادة في الانتخابات الرئاسية المقبلة هذا العام، إذ يشكل صعودها في الريف موجة يمينية مشابهة لنظيرتها الألمانية نفد صبرها منذ وقت طويل حيال استيعاب مهاجري الجزائر وتونس والمغرب وبقية بلدان أفريقيا المستعمرة سابقًا، ناهيك عن موجة اللاجئين الأخيرة، بيد أن لو بِن لم تترك فرصة لحزب اليمين التقليدي بالاتجاه يمينًا على غرار ما جرى بألمانيا ليأكل من قواعدها الانتخابية، بل اتجهت هي باكرًا نحو الوسط بالتخفيف من حدة خطاب الحزب العنصري، وهي خطوة آتت أُكلها بالفعل.

 

لطالما جسد حزب الجبهة القومية الحركة المعادية للانسحاب من مستعمرات فرنسا، ولرأسمالية ما بعد الحرب العالمية الثانية، والاتحاد الأوروبي بشكل خاص، علاوة على معاداة قيم الجمهورية الحديثة في نوع من أنواع التمسك بالمسيحية الكاثوليكية وتحدي منظومة ما بعد الثورة الفرنسية في آن، لكن الحزب تحوّل جذريًا مع انتخاب مارين، التي قررت العدول عن عنصرية والدها الفجة وتبني مهمة الدفاع عن قيم الجمهورية، لا سيما العلمانية، بوجه الثقافة الإسلامية غير المواكبة لها.

 

نزع الشيطنة
 (رويترز)
 (رويترز)


من مكتبها بمقر حزبها، تدير لو بِن ما أسماه بعض المحللين حملة لـ"نزع الشيطنة" عن حزبها، الذي طالما عانى من تصنيفه ضمن حركات العنصرية المتطرفة والخارجين عن المنظومة، وليس أدل على ذلك من قرارها مؤخرًا الانفتاح على ملف اليهود، أو استغلاله إن جاز القول، بالحديث بشكل إيجابي عن ضرورة احترام ذكرى الهولوكوست -على عكس والدها- بل واحتفاظها
بلوحة لفنان إسرائيلي على جدران مكتبها في العاصمة الفرنسية.

 

لا يمكن الجزم بما إن كان كل ذلك نابعًا من إيمانها بضرورة تغيير فلسفة الحزب، أم من اتجاه براغماتي لتوسيع قواعد ناخبيها، بيد أن النتيجة في كل الأحوال كانت توسع تلك القواعد بالفعل ممن راقها الانتقاد اللاذع للاتحاد الأوروبي والدفاع عن الجمهورية والعلمانية بوجه المهاجرين أصحاب الثقافات المغايرة، خاصة مع دعم المسلمين للحزب الاشتراكي الحاكم ورئيسه فرانسوا أولاند بشكل محوري ساعده على حسم نتائج الانتخابات الرئاسية الماضية، دون بديل يميني في الأفق بعد رحيل ساركوزي لمواجهة ذلك التمكين السياسي للمسلمين، علاوة على تزايد نسب البطالة بين الشباب الفرنسي ممن يطالب بمنحه أولوية التوظيف على حساب المهاجرين ويرى إضرار العُملة الأوروبية باقتصاد فرنسا.
 

فجوة في اليمين السياسي الفرنسي ملأتها لو بِن بذكاء، لكنها تطرح أمامنا الإشكالية السابقة نفسها في ألمانيا؛ هل ثمة موجة يمينية صرفة خرجت من تحت الأرض وحملت لو بِن لموقعها السياسي المتصاعد؟ أم أنها استغلت فقط ليس إلا لحظة تبلور مشاعر يمينية لدى أقلية، ثم جذبت بها شرائح اليمين التقليدي المستنفرة من ملف اللاجئين؟ هل استحوذ اليمين المتطرف بقيادة لو بِن على موقع القوة السياسية الثانية ليشكل تهديدًا للمنظومة، أم استحوذ اليمين التقليدي بموقعه الشاغر عليها وخفف من حدة خطابها وجعلها في الحقيقة إحدى أحدث مكتسبات منظومة ما بعد الحرب العالمية الثانية؟

 

تبدو الإجابة الثانية أقرب للحقيقة، فظهور وخفوت القوى السياسية في الدول الديمقراطية مرتبط بتحولات أرضية توجهات الناخبين تحت أقدامهم، وهو أمر يستوجب في الغالب رد فعل يستوعب تلك التحولات ويحفظ رصيدهم الانتخابي، كما فعل حزب مركل بالتوجه يمينًا لمواكبة الموجة الجديدة وتوسيع قاعدة ناخبيه، واتجاه أحزاب اليمين أو اليسار المتطرف من جانبها للوسط السياسي لمنافسة الأحزاب التقليدية، ما يُعطي انطباعًا مبالغًا فيه بوجود موجة متطرفة موجودة بالفعل ولكن لا تشكل تهديدًا جذريًا للمنظومة كما يظهر لأول وهلة، علاوة على أن صعود الأحزاب المتطرفة سابقًا يسري أصلًا بالتوازي مع تخفيف خطابها واعتداله نسبيًا لكسب ناخبين جدد.

 

يُقال دومًا بأن إجماع ألمانيا وفرنسا على ملف ما في السياسة الخارجية كفيل بترجيح كفته داخل الاتحاد الأوروبي كله، وبالنظر لنزوح الطيف السياسي نحو اليمين في البلدين، وتضاؤل مساحة القوى السياسية الاشتراكية أو الديمقراطية الاجتماعية، يبدو راجحًا ظهور مواقف يمينية أكثر للبلدين يحاولان بها استيعاب موجة اليمين على مستوى الاتحاد الأوروبي كله، ولا ندري هل تكون المحصّلة ابتلاع أوروبا لليمين أم ابتلاع اليمين ضمنيًا لها أم كليهما في آن. قد تكمُن إجابة هذا السؤال على المستوى الأوروبي، ليس في مدى التفاعل بين ألمانيا وفرنسا ولكن في التفاعل بين الاختلافات الشاسعة بين موجات اليمين في شرق القارة وغربها.

المصدر : الجزيرة