شعار قسم ميدان

"الإخوان المسلمون" من الدّاخل.. حوار مع حازم قنديل

MIDAN - الإخوان
يناقش قنديل في هذا الحوار الذي يتكون من جزأين أطروحات كتابه الذي نشره في 2015 تحت عنوان "داخل الإخوان المسلمين"، إضافة إلى التحليل الأيديولوجيّ لمكونات الجماعة ومواقفها السياسيّة، ويضطلع أستاذ السيسيولوجيا السياسيّة في كامبريدج بتحليل فكريّ للجماعة، مرتكزاً إلى غرامشي وفوكو وبورديو عن تشكّل "الذات الإخوانيّة".

 

يحاول قنديل أن يقترب من الجماعة من داخلها، ليبين كم هي متسقة من حيث الأيديولوجيا والغاية حتى وإن لبست أثواباً عدّة، وهو الأمر الذي يعدّه أعداؤها "حيلة"، بينما لا يقرؤه قنديل كذلك. كما أن هذا الحوار يقدّم رؤية قد تكون صادمة، وجديدة، للعلاقة بين الجيش والإخوان.

هل يمكنك أن تلقي نظرةً عامةً حول نشأة جماعة "الإخوان المسلمين" وتمدّدها، وأن تستفيضَ في مفهوم "الهيمنة المضادّة" (counter-hegemony) الذي تطبّقه على تاريخ الإخوان المسلمين؟
 

حازم قنديل: يرجعُ القسمُ التاريخيّ في كتابي إلى نهاية القرن التاسع عشر؛ لأنّ هذا القرن كان قد ميّزته أزمةٌ فكريّة لا يزال يتردّد صداها إلى يومنا هذا. وعلى الرّغم من أنّ "المسلمين" واجهوا لحظاتٍ من الضّعف بين الفينة والأخرى؛ فإنّهم لم يُسائلوا الأساسات الثقافيّة والشَّرعيّة التي تقفُ عليها جماعتُهم. إلّا أنّ تحوّلاً حدثَ على مدار القرن التاسع عشر في مصر بخاصّةٍ، منذ ثلاثينيّات القرن التاسع عشر فصاعداً. فعلى سبيل المثال، أخذَ طلابٌ يذهبون إلى أوروبّا أكثر فأكثر، لا سيّما إلى فرنسا، ويرجعون يخبرون مجتمعهم بالطّرق المختلفة للتفكير حول الثقافة والقانون والحياة اليوميّة وهلمّ جرا. وقد أدّى هذا إلى موقفٍ جديد، وهو الموقف الذي يُشير إليه ألبرت حوراني بأنّه "روحان في جسدٍ واحد".

حسن البنا (مواقع التواصل)
حسن البنا (مواقع التواصل)

ومع بداية القرن العشرين، عندما كان حسن البنّا معلّماً شابّاً متحيّراً في مدرسةٍ ابتدائيّة؛ فإنّه عاش في مجتمعٍ أصبحت قطاعاتٌ فيه أكثر تأوروباً (Europeanised)، وهذا يعني أنّ المصريين لا يزالون يعتبرون أنفسهم مسلمينَ؛ لكن أيضاً قد يتبنّون ما يعتبرونه الحداثةَ بإخلاصٍ وتفانٍ. ولأنّ الإسلامَ والحداثةَ كانا قيّميْن بالنسبة إليهم، فلا يمكن أن يكون ثمّة تعارضٌ بين نظاميْ المعنى هذين. ومن ناحية أخرى، كان هناك علماء الدين، والذين أصبحوا أكثر قلقاً وعناداً بسبب هذه التغيّرات، يهاجمون أيّ شيءٍ عن الحداثة الغربيّة. ولا يزالُ هذا الانقسام مستمرّاً إلى اليوم في مصر: فلدينا المسلمون الليبراليّون الذي يعتقدون أنّ الإسلامَ يتفق مع الليبراليّة تمام الاتّفاق، وهؤلاء الذين يعارضون بشدّة أيّة أيديولوجيا غربيّة.

 

لقد وُلِدَت جماعة الإخوان المسلمين في هذه اللحظة المحدّدة في التاريخ المصريّ وهي اللحظة التي تصبح عندها "الهيمنة المضادّة" ذات صلةٍ بالموضوع؛ حيث يعتقدُ "الإخوان" أنّ المعسكرين لم يكونا ماضيين إلى حلّ المسألة، كما أنّه أصبح من المستحيل بالنسبة إليهما أن يستمعا لبعضهما البعض. فمن ناحيةٍ، فاتَ الأوانُ على محاولة استرجاع الحداثة من خلال حججٍ دينيّة، لكن من الناحية الأخرى، لا يمكن لهما أن يتخلّيا عن العلمانيّة الحديثة. وعلى إثر ذلك، استقرّ الإخوان على تخلّل المجتمع، ببطءٍ لكن بثباتٍ، هادفينَ إلى استدراج النّاس بالعودة إلى الثقافة الإسلاميّة، ونمط الحياة الإسلاميّ، والأحكام الإسلاميّة، تباعاً، مُلهَمين بمثال سفينة نوح؛ بحيث يجلبون أكبر قدرٍ ممكن من الناجين.

 

والحال أنّ هذه الاستراتيجيّة تحملُ إيحاءاتٍ غرامشيّة: حيث أمّلَ الإخوانُ في مواجهة ما أضحى بسرعةٍ حِسّاً مشتركاً عن طريق تمديد مجتمعهم ببطءٍ. لقد كان أملُهم -الذي وصل إلى ذروته مع رابعة في ٢٠١٣- أنّه بعد خلق ما يسمّيه غرامشي "حرب المناورات"، أي كسب الشريحة الأكبر من المجتمع، فقد يحدث بعد ذلك "الهجوم المباشر". ولم يكن يُنظَر إلى ذلك بالضرورة على أنّه تصادم عنيف؛ بل بالأحرى بوصفه مواجهة بين جماعتين مختلفتين موازيتين، بحيث تبلغ ذروتها في انتصار الأكثر التزاماً. لقد قال حسن البنا بالتحديد، في المؤتمر السنويّ الخامس ١٩٣٩، لأتباعه من الإخوان: "إنّكم متعجّلون للغاية، وتريدون التحرك قبل الأوان؛ وفقط عندما سيكون لدينا أناسٌ ملتزمون كفايةً، فقد ننتقلُ إلى الهجوم المباشر". وهذا هو السبب في أنّ غرامشي، كما أظنّ، مفيدٌ في فهم "الإخوان المسلمين". وبالطّبع لم يكن "الإخوان" يفكّرون من حيث فكّر غرامشي، وإنّما من حيث تراث النبيّ؛ أي بدءاً بجماعةٍ صغيرةٍ وكسب النّاس تباعاً لسحق غير المؤمنين بنهاية المطاف.

 

ولا تزال لحظة تأسيس المجمتع هذه تتردّد معنا الآن، ومن المهمّ فهم أنّ "الإخوان المسلمين" على مدار تاريخهم، كانوا دائماً متّسقين مع هدفهم لإحداث تحوّلٍ ثقافيّ.

كان سيّد قطب، عشيّة الانضمام إلى
كان سيّد قطب، عشيّة الانضمام إلى "الإخوان المسلمين" مستشاراً ثقافيّاً لعبد النّاصر. ثمّ انقلبَ عبد الناصر عليهم. وحينما أخرجهم الساداتُ من السجن، فقد جعلوا من أنفسهم نصراء لديكتاتوريّة عادلة

لقد ظنّوا في الثلاثينيّات أنّ التحوّل قد يُنجَز من خلال تعزيز علاقاتٍ جيّدة مع الملك الإصلاحيّ الشابّ، وبالتالي أصبحوا أنصاراً أقوياء للملكيّة. ثمّ بعد أن انقلبَ الملكُ عليهم، شاركوا في انقلاب الضّباط الأحرار، ظانّين أنّهم قد يكونون -إذا ساعدوا على خلق جمهوريّةٍ- قادرين على تخلّل وسائل الإعلام المُنشأة لاحقاً، وعلى التسلّل إلى نظام التعليم العامّ. وبالفعل، كان سيّد قطب، عشيّة الانضمام إلى "الإخوان المسلمين" مستشاراً ثقافيّاً لعبد النّاصر. ثمّ انقلبَ عبد الناصر ضدّهم. وحينما أخرجهم الساداتُ من السجن، فقد جعلوا من أنفسهم نصراء لديكتاتوريّة عادلة، وشرعوا في تحولٍ ثقافيّ؛ بأنْ أصبحوا مستشاريه.

وبعد سنواتٍ من التعاون، انقلبَ الساداتُ عليهم. وعندما صعدَ مبارك إلى السلطة، فإنّه لم يردهم مستشارينَ له لكن سمحَ لهم بالعمل في مجال المجتمع المدنيّ. وههنا تبلورت النّسخة الأكثر معاصرةً من الجماعة. إنّ العملَ على مستوى المجتمع المدنيّ إنّما يعني، بالنسبة إلى "الإخوان المسلمين"، أن يترشّحوا للانتخابات في الجامعات والنقابات والبرلمان، وذلك بهدف استخدام الحملة نفسها كمنصّة ثقافيّة. وينطبقُ المنطق نفسه على عملهم الخيريّ في مساجد الأحياء، ودور الحضانة والمدارس… إلخ.

 

باختصار، لقد تغيّرت استراتيجيّات "الإخوان" مع الوقت، لكن لا يزال هدفهم بالتحوّل الثقافيّ هو نفسه. وبينما حاولَ حسن البنا أن يكسب تأييد النّاس بقيادة الإخوان المركزيّة؛ فإنّ "الإخوان" الحاليين يسعون إلى تخلّل المجتمع المدنيّ، دون أن يكون الناس على وعيٍ بأنّهم إخوان. وخلافاً للأدبيّات التي تصوّرهم عادةً على أنّهم انتهازيّون أو براغماتيّون، فإنّهم متّسقون تماماً من حيث الأهداف.

 

انتقالاً إلى التطوّرات المعاصرة، هل بإمكانك أن تفسّر بعامّةٍ الانتفاضة الشعبيّة التي أدّت إلى الإطاحة بنظام مبارك، بالإشارة إلى الدّور المحدّد الذي لعبه "الإخوان المسلمون" في هذه التعبئة والحشد، لا سيّما الجناح الشابّ في الجماعة؟
 

حازم قنديل: عملت جماعة "الإخوان" داخل المجتمع المدنيّ منذ السبعينيّات. لكن أصبح كثيرٌ من أعضاء الجماعة الشباب، بعد ثلاثين عاماً، مرنين جزئيّاً، وانخرطوا في أشكالٍ مباشرةٍ من الاحتجاج السياسيّ، مثل حركات الجبهة الموحّدة كحركة كفاية، وكصفحات الفيسبوك مثل صفحة "كلّنا خالد سعيد"، أو الحركات الشابّة مثل حركة ٦ أبريل. لقد شرعوا في استكشاف السبل المختلفة، والتي كانت أكثر تدميريّة ومواجهيّةً (confrontational).

 

ومع ذلك، عشيّة الثورة، كان معلوماً أنّ "الإخوان المسلمين" كانوا يرسلون رسائل واضحة لجمال مبارك، ابن مبارك وخليفته المرشَّح، بأنّهم لن يعارضوا تورّثه إذا سمحَ لهم بالمساحة والحريّة نفسها داخل المجتمع المدنيّ. وعليه، حينما حلّت الثورة، فوجئ "الإخوان المسلمين"، لأنّها كانت خارج مجال توقعاتهم واحتماليّاتهم. ومضى كثيرٌ من الشباب الذين خاب أملهم في "الإخوان" إلى تشكيل أحزاب صغيرة عديدة (وتافهة إلى الآن)، مثل التيّار المصريّ، ومصر القويّة، في حين قرّر الإخوان الانضمام إلى الثورة في ليلة الثامن والعشرين من يناير على نحو معلوم، حينما غدا من البيّن أنّ تغيّراً كبيراً كان يجري.

معركة الجمل (مواقع التواصل الإجتماعي)
معركة الجمل (مواقع التواصل الإجتماعي)

بيد أنّه من المهمّ أن نعرف أنّ "الإخوانَ" في الأوّل من فبراير، أرسلوا محمد مرسي، الذي أصبحَ رئيساً فيما بعد، وسعد الكتاتني، الذي غدا المتحدّث الأوّل في البرلمان، للتفاوض مع عمر سليمان، ضابط الاستخبارات لدى مبارك. ومن خلال هذه التسوية، فإنّهم سيحاولون أن يشرحوا للمتظاهرين في التحرير أن الأشياء قد تُحلّ عبر التفاوضات، وأنّ "الإخوان" في المقابل سيُقدَّم لهم حزب سياسيّ ومساحة أكبر. لكن في الثاني من فبراير؛ أي بعد الاجتماع بيومٍ، حدثت المعركة التي تُسمَّى معركة الجمل، ممّا غير الموقف.

 

وفور انتهاء الثورة، عاد "الإخوان" للتساؤل عن كيفيّة إحداثهم لتحوّل ثقافيّ. ونظروا حولهم لرؤية من بإمكانهم أن يعملوا معه. من جهةٍ، كان هناك النّشطاء المدنيّون، وهم أولئك المجموعة الرئيسة من الرّجال والنّساء المسئولة عن الثورة، من ليبراليين في الغالب، ويسارٍ، والذين لديهم أجندة علمانيّة قويّة جدّاً. والحال أنّ هؤلاء بمقدورهم أن يعملوا مع الإخوان؛ لاجتثاث النّظام القديم؛ لكنّهم لا يريدون أن يروا البلد وقد تمّت أسلمتها. ومن الناحية الأخرى، كانت هناك المؤسّسات القويّة: الجيش والأمن، وهي المؤسّسات التي كانت عدّوة للإخوان لبعض الوقت، لكنّها لم تكن تروّج لأيّة أجندة ثقافيّة.

 

 

ما بدأ كجيشٍ استولى على السلطة في الخمسينيّات تحوّل ببطءٍ إلى دولةٍ بوليسيّة، مع الأمن الذي أصبحَ المؤسّسة الأكثر أهميّة عشيّة ثورة ٢٠١١

وهكذا، فكّر "الإخوان" في إقناع هذه المؤسّسات بأن يحلّوا هم محلّ الحزب القديم الحاكم (الذي انحلّ وسُجنت قياداته)، وبالتالي يمكن للمؤسّسات أن تتخذَ "الإخوان" كحليفٍ سياسيّ جديدٍ لهم. واعتقدَ الإخوان أنّه لن يكون هناك صدامٌ؛ لأنّ مؤسّسات الأمن والجيش لن يهتمّوا بما يعتني به الإخوان في الغالب: أي الثقافة. ويجدر بالذكر في هذا الصّدد أنّ المناصب الثلاثة في أول حكومة للإخوان المسلمين في ظلّ حكم مرسي التي تعنّدوا بشأنها فعلاً كانت: وزارة الثقافة، ووزارة الإعلام، ووزارة التربية. وفي المقابل، بمقدور الإخوان أن يساعدوا الأمنَ والجيش على استقرار الحالة السياسيّة وحمايتهم من المساءلة.    

 

لقد أشرت بإيجازٍ إلى مثّلث السلطة بين السياسيّ والعسكريّ والأمنيّ، وهو المثلث الذي تصفه مزيداً في واحدٍ من كتبك. فهل يمكنك أن تطوّر هذه الحجّة وتشرح كيف تكيّف نظام مرسي داخل بنية المثلث هذه؟
 

حازم قنديل: أحاولُ أن أنظر، في أعمالي، إلى ما أشيرُ إليه بوصفه "مثّلث السلطة"، أي المؤسّسات السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة التي تشكّل نواة أيّ كتلة حاكمة. وأدرسُ تغيّر النظام من خلال فحص تفاعلات هذه المؤسّسات الثلاث، والتي تُموضَع بالطّبع في سياق ثقافيّ وسوسيو-اقتصاديّ وجيوسياسيّ محدّد.

عندما صعد مرسي إلى السلطة، قال على الفور إنّ كلّ شيء غُفر ونُسي؛ لأنّ الأمن قد أصلح نفسه، وحتى قبل أن يُطاح به أعلنَ أنّ الأمن كان شريكاً في الثورة
عندما صعد مرسي إلى السلطة، قال على الفور إنّ كلّ شيء غُفر ونُسي؛ لأنّ الأمن قد أصلح نفسه، وحتى قبل أن يُطاح به أعلنَ أنّ الأمن كان شريكاً في الثورة
 

ويرمي تحليلي إلى أنّ ما بدأ كجيشٍ استولى على السلطة في الخمسينيّات تحوّل ببطءٍ إلى دولةٍ بوليسيّة، مع الأمن الذي أصبحَ المؤسّسة الأكثر أهميّة عشيّة ثورة ٢٠١١ والجيش الذي لا يزال شريكاً هامّاً، لكن أقلّ امتيازاً. وعلى إثر ذلك، نظر الجيش إلى ثورة ٢٠١١ كفرصة جيّدة للالتفاف على شركائه الحاكمين ولتغيير تكوين السّلطة. لقد تخلّصوا أولاً من الحزب الحاكم القديم وأتوا مع الأمن وجهاً لوجه. ومن ثمّ رمت خطّتهم إلى خلق شريكٍ سياسيّ جديد من شأنه ألّا يكون مزعجاً ويذعن للجيش. لقد فكّر الجيش أوّل الأمر في النّشطاء الثوريين، بما يثير الانتباه، في الحكومات الأولى التي تشكّلت بعد الثورة بما فيها الشخصيّات التي ترتبط بالمعارضة؛ بيد أنّ الجيش أدركَ، في نهاية المطاف، أنّ الشباب الثوريّ كان مزعزعاً جدّاً لاستقرار الدّولة وكان رأيهم التالي هو "الإخوان المسلمين" الذين قدّموا أنفسهم كشريك جيّد: "نحن نعرفُ كيف نذعنُ للمؤسّسات القويّة، فلسنا متهوّرين ومستهترين كما هؤلاء الشباب، إنّنا منظّمون ولن نسبّب لكم أيّ إزعاج، فمجال اهتمامنا الذي هو الثقافة ليس هو مجال مصلحتكم، إلخ". وبدوا مناسبين للغاية.

 

إلّا أنّ ما لم يشكّ فيه "الإخوان المسلمين" -في محاولة التكيّف داخل مثلث السلطة- هو أنّ الاحترام المبذول للجيش والأمن لن يكون كافياً. وكما هو معلوم، فلم تؤيّد جماعة "الإخوان المسلمين" المجلس العسكريّ في معظم قراراته فقط؛ بل تطابقت أيضاً مع كلّ المواقف الأمنيّة تقريباً: أهميّة الحفاظ على النّظام، الحديث حول المؤامرات الخارجيّة، إلقاء اللوم على الثوار لتحدّيهم الشرطة، إلخ. وعندما صعد مرسي إلى السلطة، قال على الفور إنّ كلّ شيء غُفر ونُسي؛ لأنّ الأمن قد أصلح نفسه، وحتى قبل أن يُطاح به أعلنَ أنّ الأمن كان شريكاً في الثورة.

 

وبالمناسبة، لقد قال وزير الداخليّة الحالي إنّه ليس لدى المصريين مشكلة مع الأمن، مثلما اتّضح ذلك من حقيقة أنّ الثورة حدثت في يوم عيد الشرطة احتراماً لها؛ بينما العكسُ هو الصحيح كما هو واضح. واكتشفَ الناس لاحقاً أنّ هذا النّمط من التفكير كان هو فكرة مرسي: إذ قال مرسي في إحدى خطبه إنّ الإرادة الإلهيّة شاءت أن يتزامن يوم الثورة مع يوم عيد الشرطة.

اعتقدَ
اعتقدَ "الإخوان" أنّ تقديم الاحترام للأمن والجيش من شأنه أن يكون كافياً

ولذلك، اعتقدَ "الإخوان" أنّ تقديم الاحترام للأمن والجيش من شأنه أن يكون كافياً. والمشكلة هي أنّهم لم يعتبروا لحقيقة أنّ الوظيفتين السياسيتين اللتين اعتزموا الحلّ محلّها قد توحّد الناس ضدّهم فعلاً. وقد شعر النّشطاء الثوريّون بالخيانة بسبب محاولة "الإخوان المسلمين" لاختطاف الثورة، في حين أنّ شبكات النّظام القديم رفضت أن تشارك السلطة عندما أمكنهم أن يستعيدوها كلّها مرّة ثانية. ولذلك حصلَ التحالف التكتيكيّ الذي لا يُصدَّق بين النّظام القديم والنّشطاء الثوريين في صيف ٢٠١٣، وذلك من أجل إسقاط الإخوان.

 

وسيكون من الخطأ الاعتقاد بأنّ انتفاضة صيف ٢٠١٣ كانت ملفَّقة بالكليّة. لقد باركَها الجيش والأمن؛ لكن كان هناك أيضاً ملايين من النّاس في الشوارع. ونجحَ النّشطاء الثوريون في التحريض ضدّ "الإخوان" على مواقعهم وعلى التلفزيون ومنحوا الشرعيّة للانتفاضة، بينما استخدمَ النّظامُ القديمُ ماله وشبكاته وبيروقراطيّته لكسب النّاس. ولذلك، فإنّ "الإخوان" الآن هم خارج المشهد، والمؤسّسة السياسيّة لمصر لا تزال في حالة تغيّر مستمرّ.

 

يشير النّاس إلى أنّ الجيش يسيطر على النّظام، إلّا أنّ السيسي، بتحليلي، عندما يصعد إلى الحكم ويترك الجيش، فإنّه لم يعد الضابط الذي يمثّل الجيش. إذ ينبغي أن تؤخذ مواقفه وإرثه بعين الاعتبار؛ كيف سيدوّن في كتب التاريخ. إنّنا لدينا نظامٌ ذو رأسين مع الجيش والأمن كما مع المؤسّسات القويّة، ولا يزال من غير الواضح مَن الذي سيهيمن. كما لدينا سيولة في الحقل السياسيّ.

 

حيث يحاول السيسي أن يبني معسكره حول الرئاسة، وهو فصيل يُصنع من التقنوقراطيين والمستشارين، وهم ليسوا سياسيين بأيّ شكلٍ من الأشكال؛ لكنّهم يعملون بطريقة إداريّة لتحقيق رؤيته. يحاول السيسي، شبيهاً إلى حدّ كبير بعبد النّاصر، أن يحوّل السياسة إلى إدارة. غير أنّه قَلِقٌ؛ لأنّ النظام القديمَ يحاول العودة إلى السّلطة، وذلك عن طريق البرلمان بالمقام الأول. فأحمد عزّ، الذي كان مستشار جمال مبارك ذات مرّة، حاول أن يترشّح للبرلمان وبالطبع منعه القضاء "المستقلّ" من الترشح. لكن حتى إذا لم يكن بمقدوره دخول البرلمان، فلا يزال بإمكانه أن يكون قائد التكتّل السياسيّ من الخارج.

undefined

ويخطّط عملاء النّظام القديم ورجال أعماله للترشّح كمستقلّين ويسيطرون على البرلمان. ولذلك أجّل القضاء المستقلّ مرّة ثانية الانتخابات، وذلك قبلها بأيام، قائلاً إنّ القانونَ الانتخابيّ ليس دستوريّاً رغم القضاة الدستوريين الذين شاركوا في صياغته. وبالتالي، يحاول السيسي أن يكسب الوقت لترسيخ معسكره، والبعض الآخر حريص حقّاً على الوصل للبرلمان لترسيخ شبكاتهم أيضاً. وقد يتحدون معاً تحت مظلّة حزب واحد، أو تحت مظلّة عدد من الأحزاب. والحال أنّ شخصيّة النظام لم تتضح بعدُ. فالجيش والأمن يتطلّعان على بعضهما البعض بفارغ الصبر، والكرسي السياسيّ عليه نزاع، ولهذا من الصعب أن نتنبأ إلى أين تمضي الدولة.

 

إنّ التحليل الذي أقدّمه ههنا هو أكثر تعقيداً وتشّعباً من التحليلات السائدة، والتي تقول إنّ "الإخوان المسلمين" حاولوا أن يكونوا جزءاً من الثورة لكن أُطيح بهم بثورة مضادّة في نهاية الأمر.
 

لقد ابتدأنا بمناقشة تاريخ جماعة "الإخوان المسلمين" والسياق المصريّ المعاصر في الجزء الأول. وفيما يتعلق بأبحاثكَ خصّيصاً، فإنّك قد أقمتها على مجموعة مثيرة للإعجاب من البيانات، سنوات من الملاحظة في مسجد "الإخوان المسلمين" في كاليفورنيا، وساعات من المادّة المسموعة والمرئيّة، وانغماس طويل الأمد داخل مجموعات "الإخوان" في القاهرة، ولقاءات واسعة. فإلى أيّ حدّ تملأ هذه المنهجيّة المبتكرة فراغاً في الأدبيّات "المكتوبة عن الإخوان"؟
 

حازم قنديل: في أثناء دراستي للإخوان بطرقٍ مختلفة منذ عام ٢٠٠٠، أدركتُ عن طريق قراءة المادّة المكتوبة حول الجماعة أو من خلال المادّة التي كتبها الإخوان أنفسهم (كتب، كتيّبات، إلخ) أو حتى عن طريق اللقاء بالإخوان، أقول أدركتُ أنّنا لا نتحصّل على تبصّر ثاقبٍ للتنظيم نفسه. وهذا يمكن أن تفسّره الحقيقة القاضية بأنّ الإخوان على وعي بأنفسهم جدّاً، وأنّ رسالتهم نسقيّة ومتناسقة للغاية. وبغض النّظر عن مدى صعوبة محاولتنا للزجّ بهم بعيداً عن مواضيع نقاشاتهم؛ فإنّهم يعودون إليها. ولأنّني لم أكن أحرز أيّ تقدمٍ، فقد قرّرت أن أتخلّى عن المشروع لبعض الوقت، وذلك للخروج من حالة الإحباط.

ثمّ حصلَ شيءٌ غير متوقّع. فمن خلال بحثي السابق معهم، ذكّرني بعضٌ من "الإخوان" أنّني كنتُ مهتمّاً بالأيديولوجيّات، وكان ذلك في عام ٢٠٠٨ حينما كانوا يحاولون أن يبنوا عدّة جبهات وحدة وطنيّة داخل المعارضة المصريّة، وأرادوا أن يتعلّموا المزيد عن أيديولوجيّات الأحزاب الأخرى: الليبراليّة والشيوعيّة والقوميّة، وتاريخ هذه الأيديولوجيّات في العالم الإسلاميّ. لقد كان لديهم فهمٌ بدائيّ جدّاً لهذه المسائل، وأرادوا أن يكونوا قادرين على التحدّث عنها بذكاء وألمعيّة. وعليه، شرعتُ في إعطاء محاضرات في بيت أحد "الإخوان".

كانت لحظة مؤلمة للغاية، وذلك مع وزارة الداخلية التي تهاجم المتظاهرين بوحشيّة؛ باستخدام غاز الأعصاب و
كانت لحظة مؤلمة للغاية، وذلك مع وزارة الداخلية التي تهاجم المتظاهرين بوحشيّة؛ باستخدام غاز الأعصاب و"الإخوان" يأمرون أعضاءهم بأن يغضّوا الطرفَ للحفاظ على فرصة المشاركة في الانتخابات البرلمانيّة المقبلة
 

وبعد فترةٍ من الوقت خطرت لي فكرة الإثنوغرافيا هذه. وعندما شرحتُ لهم أنّ الإثنوغرافيا تستلزم إمضاء الوقت معهم وأخذ الملاحظات، وقد أنشرها ذات يوم؛ فإنّهم رفضوا الفكرة تماماً! لكنّني كنتُ مصرّاً، هذه المرّة، على كسب شيء للخروج من هذه العلاقة، وفكّرت في التأقلم مع المنهج الإثنوغرافيّ المُعتاد: أي سأمضي الوقت معهم، لكن لن تُنشر أيّ ملاحظة من ملاحظاتي. وكلّما فكّرتُ في إنهاء المشروع، وودتُ العودة إلى إجراء مقابلاتٍ وحواراتٍ، مثل أيّ شخصٍ يقوم بذلك، وما يُقال في المقابلات هو الذي سيُنشَر فقط.

 

والحال أنّ هذا التدبير كان جيّداً لكلّ منّا. فمن ناحية، بدون الإثنوغرافيا لن يكون بمقدوري معرفة ما سأسألُ ومَن أسأل. إذ بإمكاني الآن أن أسألَ المُقابَل: "أتذكر قبل سنتين، في منزل هذا الشخص، عندما قال هذا الشخص ذلك الأمر، ماذا يعني برأيك؟". وفي الوقت نفسه، جعلهم التعهّد بعدم نشر أيّ ملاحظة أكثر ارتياحاً. لقد شرعتُ في ٢٠٠٨ بالاختلاط مع الإخوان ببطءٍ، واللقاء بأصدقائهم وأسرهم، والذهاب إلى مراكز التسوق، والسينما، ولعب كرة القدم، وقضاء ليالٍ طويلة في نقاشاتٍ ساخنة… لكنّهم كانوا لا يزالون في الأغلب يفكّرون في كسبي لقضيتهم. ثمّ وقعت ثورة ٢٠١١، واختبرنا معاً هذا الحدث التحويليّ الذي كسر الجليد. بالطبع، لا يزال بعضهم منغلقاً على نفسه، إلّا أنّ الكثير منهم أصبحوا أكثر انفتاحاً؛ لسببين رئيسيين.
 

إذ أصبحت إحدى المجموعيتن منتشية بالنّصر، وأحسّوا -بسبب انتصارهم- أنّه ليس لديهم شيء يخفونه، ويجب أن يشاركوا مناهجهم وقصص نجاحهم. وعلى النّقيض من ذلك، أصبحت المجموعة الأخرى مصابين بخيبة أمل أكثر في قيادة "الإخوان"؛ بسبب الطريقة التي تصّرفت بها القيادة أثناء الثورة، لا سيّما في معارك الشوارع المميتة في شارع محمد محمود (في نوفمبر ٢٠١١). لقد كانت لحظة مؤلمة للغاية، وذلك مع وزارة الداخلية التي تهاجم المتظاهرين بوحشيّة؛ باستخدام غاز الأعصاب و"الإخوان" يأمرون أعضاءهم بأن يغضّوا الطرفَ للحفاظ على فرصة المشاركة في الانتخابات البرلمانيّة المقبلة. لذا؛ من المهمّ أن نؤكّد على أنّ ابتكاري المنهاجيّ الإثنوغرافيّ قد عملَ عمله فقط في سياقٍ تاريخيّ محدّد جدّاً، في ظلّ مجموعة معيّنة من الظروف.
 

بأخذ هذا الانتقال الإثنوغرافيّ بعين الاعتبار، هل يمكنك أن توجز لنا نتائجكَ الأساسيّة، فيما يخصّ أنماط التنشئة الاجتماعيّة على سبيل المثال؟

حازم قنديل: تتطرّق نتائجي إلى لُبّ أيديولوجيا جماعة "الإخوان المسلمين"، ما أطلق عليها "الحتميّة الدينيّة"، وإلى كيفيّة غرس هذه الأيديولوجيا في أفراد الجماعة. إنّ "بورديو" و"فوكو" مفيدان ههنا لإدراك السيرورة التي من العسير تتبّعها من خلال لقاءاتٍ وحوارات منتظمة، ألا وهي سيرورة إنتاج نوع معيّن من الذّات الاجتماعيّة. يتحدّث "فوكو" عن إنتاج الذاتيّات وبَنْينة مجال أفعالها. أمّا بالنسبة إلى "بورديو"، فإنّه يُناقش "الهابيتوس"، أي غرس تصرّفات ومزاجات معرفيّة محدّدة، وماديّة حتّى. وتحدث هذه السيرورات من خلال ما اصطلحَ عليه فوكو بـ "التقانات الانضباطيّة" (disciplining technologies) وما وصّفه بورديو باعتباره "التنشئة الاجتماعيّة للحقل" (field socialisation). إنّها مسألة الطّرق الدنيويّة لتأويل العالم والاشتباك معه في الحياة اليوميّة؛ بدلاً من التلقين الأيديولوجيّ الصريح حيث يتمّ إخبارك "أنّك لكي تكون رفيقاً جيّداً، فيجب عليك أن تفعل كذا وكذا". فهي أكثر دقّة من ذلك بكثير، وتحدث بشكلٍ لا واعٍ إلى حدّ كبير في اجتماعات العائلة، وفي الأحاديث العاديّة والتفاعلات مع الأصدقاء أثناء مباراة كرة القدم، والرّحلات، وهلمّ جرا.

 

لكن مثل أيّ سيرورة اجتماعيّة، فإنّ السياق الاجتماعيّ والسّمات الماديّة للحقل مؤثّرة للغاية. وهذا هو سبب منهجي الإثنوغرافيّ الذي كان قد تَمَّمته دراسة تاريخيّة متعمّقة لتطوّر جماعة الإخوان كتنظيم. يحدّثنا "فوكو" عن الجينالوجيا ويشدّد "بورديو" على الأصل: إذ إنّ فهم تاريخ الحركة والأدبيّات التي أنتجتها هو أمر جوهريّ. ولا يمكن فهم كتابات حسن البنّا وسيّد قطب وعشرات من القادة والمنتسبين للجماعة إلّا في ضوء ما كان يجري بالفعل داخل الحركة نفسها.
 

فيما يخصّ المفهوم الأساسيّ لكتابك؛ أي مفهوم الحتميّة الدينيّة (religious determinism)، هل يمكنك أن تشرح لنا إلى أيّ مدى يُسلّط الضوء على أيديولوجيا الجماعة وإستراتيجيّتها؟

حازم قنديل: يدفعني هذا إلى عنصرٍ آخر من عناصر المشروع. فالباحثون الذين يدرسون الحركات الإسلامويّة ليسوا متضلّعين بالضرورة باللاهوت والفقه الإسلاميّيْن، وهو أمرٌ لا يتوقّعون معرفته كسوسيولوجيين وأنثربولوجيين أو كعلماء سياسة. ومع ذلك، لأنّني تعرّضتُ إلى حدّ ما للعلوم الدينيّة الإسلاميّة، فقد أدهشتني أيديولوجيا "الإخوان" باعتبارها مختلفة اختلافاً جذريّاً عن اللاهوت والفقه الإسلاميين السنيين السائدين. وبالطبع، أدرك آخرون عناصر جديدة من قبل. فمثلاً، حلّل آصف بيات وسامي زبيدة كيف أنّ "الإخوان" طوّروا أفكاراً مبتكرة للتعامل مع الدّولة الحديثة، والمجتمع المدنيّ، والاقتصاد القوميّ، إلخ. بيد أنّني رأيتُ شيئاً آخر أكثر اختلافاً جذريّاً.

 الإسلامويّة كأيديولوجيا صاغها
 الإسلامويّة كأيديولوجيا صاغها "الإخوان المسلمون"، أوّل الأمر في ١٩٢٨ قد قلبت بالفعل اللاهوت والفقه الإسلامييْن السُّنييْن رأساً على عقب
 
 

وكأبعد ما تكون عن أنّها مجرّد انعكاس للفقه السنيّ السائد، فإنّ الإسلامويّة كأيديولوجيا صاغها "الإخوان المسلمين" أوّل الأمر في ١٩٢٨ قد قلبت بالفعل اللاهوت والفقه الإسلامييْن السُّنييْن رأساً على عقب؛ حيث عكست الفهم التقليديّ للعلاقة بين الدين والحياة العامّة. إذ وفقاً للفكر الإسلاميّ التقليديّ، فإنّ المسلمين من أجل أن يكونوا ناجحين في هذا العالم فعليهم أن يستعملوا الوسائل الماديّة نفسها كأيّ شخص آخر. على سبيل المثال، إذا أردتَ أن تكون ثريّاً، فإنّك تحتاج أن تصبح رجل أعمال ناحجاً، أو تاجراً، إلخ. وإذا أردتَ أن تكسبَ حرباً ما، فإنّك بحاجةٍ إلى تربية جيش قويّ. وإذا كنت معنيّاً بخلاصك وخلود روحك، بالإضافة إلى هذا النّجاح الأرضيّ، فإذن تتحمّل عبئاً إضافيّاً بالتمسّك بالأحكام والأخلاقيّة الدينيّة. والحال أنّ التمسّك بهذه التقاطعات الدينيّة يجعل من الصعب قليلاً أن تصبح ناجحاً في هذا العالم، وذلك بسبب هذه الصعوبة التي ستُكافأ عليها في الآخرة. إلّا أنّ "الإخوان المسلمين" قلبوا هذا المنطق بقولهم: إذا كنتَ أخلاقيّاً وملتزماً بالأحكام الدينيّة، فستكون إذن ناجحاً في العالم. بمعنى آخر، تصبحُ باتّباعك للأخلاقيّة الإسلاميّة والشريعة قويّاً سياسيّاً وغير مقهورٍ عسكريّاً وناجحاً اقتصاديّاً، إلخ.

 

يكمن ههنا شيء حتميّ جدّاً، بطريقةٍ تذكّرنا بـ"ماركس" و"هيغل". فقد اقترح ماركس أنّه في حال تمّ استيفاء شروط ماديّة تاريخيّة بعينها، فيمكن للطبقات المستغلَّة أن تثور تلقائيّاً تقريباً. أمّا بالنسبة إلى هيغل، فإنّ التاريخ يتكشّف أيضاً ديالكتيكيّاً، لكن عن طريق أفكار وأفعال الشخصيّات التاريخيّة في العالَم. ويؤيّد الإسلامويّون نموذجاً حتميّاً مشابهاً: بمجرّد استيفاء شروط دينيّة محدّدة، فإنّك تستجلبُ إذن التدخّل الإلهيّ نيابة عنكَ في النّطاق الدنيويّ. وبالتالي، ما يُتطلَّب منهم القيام به هو إنتاج مجتمع تقيّ، ومن ثمّ سيتبعه التغيير الدنيويّ حتماً.

 

يساعدنا مفهوم الحتميّة الدينيّة على النّظر إلى خطابات الجماعة وأفعالها في ضوء جديد. على سبيل المثال، لا يزال يتساءل النّاس: "ما هي مواقفكم حيال المرأة؟" و"هل ستجبروهنّ على ارتداء الحجاب؟". وسيقول "الإخوان" لكل صحافيّ ولكلّ باحثٍ: "لن نفعل ذلك مطلقاً". ومع ذلك، فإنّهم أثناء الاجتماعات الخاصّة يتصوّرون مجتمعاً حيث ترتدي فيه كلّ امرأة الحجاب، وتبدو هذه التصريحات منافقة. ولكنّ الحال ليس كذلك. إنّهم يؤمنون فعلاً بأنّهم مجرّد ما إن يخلقوا مجتمعاً تَقيّاً، بفضل الله، فإنّ كلّ أحد سيرى النّور ساطعاً وسترتدي النّساء الحجابَ طوعاً. وينطبق المنطقُ نفسه على السياسة الخارجيّة: فقد اندهش الناس من ودّ الرئيس مرسي تجاه الإسرائيليين، ومن خطابه سيّئ الذكر لشمعون بيريز، حيث خاطبه كصديق عزيز.
 

كيف تفسّر الحتميّة الدينيّة ما حدث في رابعة؟ 

حازم قنديل: أولاً، تساعدنا الحتميّة الدينيّة على فهم ما حدثَ قبل رابعة، لماذا لم يكن لدى "الإخوان المسلمين" أيّة حلول ملموسة لمشاكل البلد، ولا حتى استراتيجيّة واضحة حول كيفيّة البقاء في السلطة. لقد ظنّوا أنّ الشيء الوحيد الذي احتجاوا أن يقوموا به هو العمل على المجتمع، وأنّهم صعدوا إلى السلطة غير مستعدّين تماماً. والحقل الاقتصاديّ هو المثال الصّارخ على ذلك؛ وهو الحقل الذي يهمّ الناس في مصر حقّاً. أثناء محاورتي مع شخصٍ إخوانيّ، كنت أسأله حول برنامجهم الاقتصاديّ وظلّ يشير إلى كلام عامّ: "سنحارب الفساد"، "سنصبح أكثر فعالية"، "سنخلق الثروة". وعندما حاولتُ أن أحصره، قال في الأخير: "ماذا كان البرنامج الاقتصاديّ لآل سعود؟ لقد أرجعوا الناس إلى الدين واستيقظوا ذات يوم وإذا بهم يسبحون في النفط". وهذه بالضبط هي الحتميّة الدينيّة، وهذا بالضبط مشروعهم الاقتصاديّ. إذ احتاجَ المصريون فقط أن ينتظروا حتى ينجز "الإخوان" تحوّلهم الثقافيّ المأمول، أو ربما ما قد نسميه بإعادة إعادة الهندسة الاجتماعية (social re-reengineering).

لا يمكن فهم ما حدثَ في رابعة إلّا من منظور الحتميّة الدينيّة؛ حيث آمن الإخوان أنّه بعد عملهم على المجتمع لفترة طويلة، فإنّ الله قد قرّر أن يكافئهم بالنهاية، وأن يتوّج نضالهم الذي استمرّ لثمانية عقود ونصف

وقد ارتكبوا خطأ ثانياً بمجرّد صعودهم إلى السلطة؛ حيث قرّروا -يحدوهم هاجس البقاء في السلطة لأطول مدّة لتحويل المجتمع وإحداث تحوّل ثقافيّ جذريّ- أن الطريق الوحيد لكسب الوقت يتمثّل في التحايل على المؤسسات المصريّة الأكثر قوّة، أي الجيش والأمن، ظانّين أنّهم: "إذا قبلوا بنا على الطاولة، كشريك صغير، وإذا تعهدنا بأن لا نفسدها وأن لا نسائل امتيازاتها وقمعها، فسيسمحون لنا بتحويل المجتمع والثقافة". وعلى إثر ذلك، أصرّ "الإخوان" على السيطرة على وزارة الثقافة، ووزارة التعليم، ووزارة الإعلام. وقد كان نبذ النّشطاء المدنيين الذين تمخّضوا عن الثورة الشعبيّة في ٢٠١١ هو المفتاح لذلك. فقد أصبحَ هؤلاء النّشطاء مصدر إزعاج للجميع. وأغضب إزعاجهم المتواصل الجيشَ والأمن. وكانت علمانيّتهم العنيدة لعنةً على الإخوان.

 

والحال أنّ هذين الخطأين (عدم وجود شيء ملموس يقدمونه للنّاس، والسعي لإرضاء الجيش والأمن بالتضحية بالثّوار) أثبتا هلاكهما عندما قرّر النظام القديم إخراجهم من السّلطة؛ لأنّ النظام القديم وجد حلفاء بين الثّوار والنّاس خائبة آمالهم من عدم وجود برنامج لدى الإخوان. وهذا أعطى الثورة المضادّة بعض الشرعيّة.

ولا يمكن فهم ما حدثَ في رابعة إلّا من منظور الحتميّة الدينيّة؛ حيث آمن الإخوان أنّه بعد عملهم على المجتمع لفترة طويلة، فإنّ الله قد قرّر أن يكافئهم بالنهاية، وأن يتوّج نضالهم الذي استمرّ لثمانية عقود ونصف. لقد اعتقدوا أنّ الله صنع الثورة لأجلهم (حيث قال المرشد العامّ للإخوان إن "الله صنع هذه الثورة") وما قضاه الله لا يمكن لبشر أن يحلّه؛ وأقلهم جنرال صغير على شاكلة السيسي. ورأوا محاولة إزالة مرسي كاختبار أخير من الله. فـ"من الواضح أننا لن يطاح بنا من السلطة، لكن ذوونا الذين يستسلمون بسبب اختطاف رئيسنا، سنثبت لهم أنّهم لا يؤمنون بنعمة الله، أمّا هؤلاء الذين هم مشفقون علينا لتفوقهم عدداً وتسليحاً علينا سنثبت لهم أنّهم لا يزالون يحسبون الأشياء من بعد ماديّ لا روحيّ".

في صدفةٍ تاريخيّة لا تُصدَّق، تزامن الاعتصام في رابعة مع شهر رمضان المبارك، وهو الشهر الذي شهد معظم الانتصارات الحربيّة المبكّرة للمسلمين
في صدفةٍ تاريخيّة لا تُصدَّق، تزامن الاعتصام في رابعة مع شهر رمضان المبارك، وهو الشهر الذي شهد معظم الانتصارات الحربيّة المبكّرة للمسلمين
 

بالنسبة إلى الإخوان، كان هذا اختباراً إيمانياً. ورغم أنّ عدداً من الإخوان الذين تحدّثتُ إليهم في رابعة قد قالوا "ألا ترى الكتائب والدبابات؟"، إلّا أنّ الناس رفضوا تحذيراتهم، مصرّين على أنّ هؤلاء الذين بقوا أوفياء للقضيّة ويؤمنون بأفئدتهم أنّ معجزة إلهيّة كانت على وشك الحدوث هم الأناس المصطفَون، وهم الذين سيسودون على المجتمع الإسلامويّ النامي حديثاً. وهناك موضوع متواتر في نقاشات رابعة، غير مقرَّر في الصحافة الغربيّة؛ لأنّني أفترض أنّه ظهر شاذّاً للغاية، ألا وهو قولهم "مثلنا مثل اليهود مع موسى على شواطئ البحر المطوّق بفرعون وجنوده -أي السيسي ورجاله- ويشكّون في نصرنا رغم أنّ موسى وعدَ بأنّ هؤلاء الذين يحفظون إيمانهم بالله سيُنقلون وسيعبرون إلى الأرض الموعودة؛ أي مصر الإسلاميّة التي كانوا يحلمون بها آنذاك".

وفي صدفةٍ تاريخيّة لا تُصدَّق، تزامن الاعتصام في رابعة مع شهر رمضان المبارك، وهو الشهر الذي شهد معظم الانتصارات الحربيّة المبكّرة للمسلمين، كما أنه الشهر الذي حدثت خلاله معجزة (أي نزول القرآن -م). لذلك يمكننا تخيّل فقط ما يجري في هذه العقليّة لأربعين يوماً؛ حيث اليقظة المستمرّة، وصيام كلّ الأيام، والصلاة طوال الليل، والإنصات لكلّ هذه البشائر والرؤى المباركة التي تُبثّ من المنصّة المركزيّة، ومن ثمّ مشاهدة التصفية الوحشيّة لرابعة في منتصف أغسطس بعجزٍ.


كي نختم بمنظور أكثر معاصرة، ما الذي يجري حالياً داخل جماعة "الإخوان المسلمين"؟ 

حازم قنديل: ممّا يثير الانتباه أنّ الحتميّة الدينيّة لم تخضع للمساءلة. وبالعودة إلى فوكو وبورديو، فإنّها لا يمكن مساءلتها في طباعهم وذاتيّاتهم؛ إذ ليست الحتميّة الدينيّة بالنسبة إليهم أيديولوجيا، إنّها طبيعة الأشياء، والطريقة التي يكون بها العالم. لذلك كيف يشرحون ما حدث؟ قرّرت مجموعة صغيرة منهم أنّ المعركة لا تزال مستمرّة، وأنّهم لا يزالون ممتحنين لكنّ الاختبار ليس لأربعين يوماً، وإنّما قد يطول إلى ثلاث أو أربع أو خمس سنوات. وإذا زرتَ القاهرة الآن، سترى كتاباتٍ عديدة على الجدران تقول "إنّ نصر الله قريب". فهي معركة مستمرّة بالنسبة إليهم: فالله يريدهم أن يواصلوا الإيمان بأنّه سيذلّل هذه الصعاب الماديّة نيابةً عنهم إذا استمرّوا في المقاومة.

إلّا أنّ قطاعاً كبيراً من الإخوان عاد إلى النمط القديم في فهم الحتميّة الدينيّة: "من الواضح أنّنا لسنا مستعدين، لقد أمسكنا بالسّلطة قبل الأوان؛ ولأنّ الله لن يخذل جنوده، حتى وإنْ بدا أنّه قد تخلّى عنا، فهذا يعني أننا لا نستحق نعمته وأننا بحاجة للعمل مزيداً على التربية". والحال أنّ كلتا المجموعتين تلقي باللوم على القادة: المجموعة الأولى بسبب عدم استمرارهم في القتال، والثانية لدفعهم في السياسة قبل الأوان. وهذا هو السبب في أن المجموعة الثانية لا تزال تخبر الناس: "انسوا ما سمعتموه في رابعة. فهؤلاء أناس راديكاليّون ولا يمثّلوننا، ونحن الناس الذين تعرفونهم منذ خمس وثمانين سنة". إذ يأملون التقهقر إلى مجتمعهم المغلق ويعودون مرّة أخرى بأملٍ بعد عشر أو خمسة عشر سنة، بمجرّد ما يكونون مستعدّين.  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقال مترجم عن: الرابط التالي

المصدر : الجزيرة