شعار قسم ميدان

ميثولوجيا الشرق الأوسط الطائفي لـ"أسامة مقدسي"

midan - military middle east
اضغط للاستماع
      
 تُحدث فكرة الشرق الأوسط "الطائفيّ"كثيراً من البلبلة؛ أكثر بكثيرٍ من الإنارة والوضوح. وكثيراً ما تُوصَّف الطائفيّة باعتبارها تمظهراً عنيفاً وغير ليبراليّ للهويّات الدينيّة العتيقة المتنافسة والمتعارضة في المنطقة. والحال أنّ هذا التوصيف متجذّر في فهمٍ سكونيّ وذي بُعدٍ واحد للهويّة؛ بحيث يُفترض، مثلاً، أنّ السنيّ والشيعيّ ثابتان ومحفوران في نسيج الماضي[1]. بيد أنّ الهويّات الطائفيّة قدّمت على الدوام فهومات دينامكيّة وسياقيّة جدّاً للذات والآخر.

لقد تصدّعت هذه الهويات بفعل الانشقاقات التي لا تُعدّ ولا تُحصى، وخضعت أيضاً لإعادة تعريف متكرّرة على مدار تاريخها. وبالتالي، فإنّه من المضلّل استدعاء الطائفيّة باعتبارها مقولة للتحليل لفهم الشرق الأوسط؛ إذ إنّها تخلطُ الهويّة الدينيّة بهويّة سياسيّة، وتتجاهل القرابةَ والطبقة والشبكات القوميّة والجِهويّة التي قد تعالق في صلبها التعبير الطائفيّ عن الذات دائماً.

 

يُلحّ المؤرّخ بروس ماسترس (Bruce Masters)، مثلاً، على أنّه "طالما أنّ الدين يكمن في قلب كلّ رؤيةٍ للعالم لدى الفرد؛ فإنّ الاحتماليّة لقيام مجتمعٍ منقسمٍ على أسسٍ طائفيّة ستبقى قائمة[2]". ومع ذلك، بين احتماليّة العنف الطائفيّ وحقيقيّته في الشرق الأوسط الحديث، تكمنُ سلسلة من الاختيارات واللحظات ونِقاط التحوّل المشروطة والمقيّدة والمصيريّة. لقد انطوت هذه التّماسّات تقريباً دائماً على مجموعة من المصالح الأجنبيّة والمحليّة والفاعلين الذين يعملون جنباً إلى جنب. وبالتالي، فإنّ الفكرة القائلة إنّ سكّان الشرق الأوسط يعيشون في مجتمعات "طائفيّة" غريبة أو يسكنون عوالم عقليّة "طائفيّة" إنّما تضع العربةَ قبل الحِصان. فهي تُطَبعِن الثقافة السياسيّة الطائفيّة بدلاً من تأويلها بصورة نقديّة.

 

وبشكلٍ أكثر تحديداً، تتجاهلُ الافتراضات حول نزعةٍ طائفيّة متعمّقة إلى أيّ درجةٍ، مثلاً، أنّ الكيان السياسيّ الطائفيّ سيّئ السمعة للبنان؛ حيثُ تُقسّم فيه المناصب العامّة على أسسٍ طائفيّة، هو اختراعٌ إمبرياليّ حديث ونخبويّ. وَوُحِّدَتِ الطائفيّة السياسيّة، وقد تمّ تدشينها في عام ١٨٦١ كعلامةٍ على التحديث العثمانيّ وعبر بروتوكول عثمانيّ-أوروبيّ، في الدّولة اللبنانيّة ما بعد العثمانيّة في ظلّ الكولونياليّة الفرنسيّة[3]. والأهمّ من ذلك كلّه، فأنْ نفترض أنّ الطائفيّة موجودة كحقيقةٍ تاريخيّة عتيقةٍ وثابتة يعني أنْ نطرح سؤالاً حول لماذا عُرِّفَت "الطائفيّة" أولاً باعتبارها مشكلة حديثة في الإمبراطوريّة العثمانيّة بالقرن التاسع عشر وفي الشرق الأوسط ما بعد العثمانيّ في تمام اللحظة التي أصبحت فيها أسئلة المساواة والتعايش والمواطنة والإمبرياليّة والقوميّة بارزة حول عالمٍ مُهيمَن عليه أوروبيّاً؟

لم يكن مجيء المساواة السياسيّة في أيّ مجتمعٍ متعدّد بأمرٍ محلّ نزاع. في نهاية المطاف، سعت فرنسا الثوريّة إلى إعادة فرض العبوديّة في هايتي بعد أن كان العبيد قد حَرّروا أنفسهم هناك
لم يكن مجيء المساواة السياسيّة في أيّ مجتمعٍ متعدّد بأمرٍ محلّ نزاع. في نهاية المطاف، سعت فرنسا الثوريّة إلى إعادة فرض العبوديّة في هايتي بعد أن كان العبيد قد حَرّروا أنفسهم هناك

تسبّب القرن التاسع عشر في ولادة فكرة عالميّة للمساواة العلمانيّة التي كان لها مؤيّدون ومنتقدون. ولم يكن مجيء المساواة السياسيّة في أيّ مجتمعٍ متعدّد الأديان أو متعدّد الأعراق والأجناس بأمرٍ محلّ نزاع. وفي نهاية المطاف، سعت فرنسا الثوريّة إلى إعادة فرض العبوديّة في هايتي بعد أن كان العبيد قد حرّروا أنفسهم هناك. وبالمثل، أثار تحرير العبيد المستَرَقّين جدالاً كبيراً في الولايات المتحدة الأمريكيّة؛ فالدّفاع عن العبوديّة كان في قلب الحرب الأهليّة الأمريكيّة الدمويّة. وقُنِّنَ قانون جيم كرو "مُنفصل لكن متساوٍ" في كافّة أرجاء جنوب الولايات المتحدة في تسيعينيّات القرن التاسع عشر وتمّ الإبقاء عليه حتى منتصف خمسينيّات القرن المنصرم. أمّا في أوروبا، فإنّ معاداة الساميّة المُعرْقَنة (racialized) الحديثة تَلت تحرّر اليهود، ووجدت تعبيرها الأكثر فظاعةً في المحرقة النّازيّة، الهولوكوست.

 

ومن جانبها، تصارعت الإمبراطوريّة العثمانيّة الإسلاميّة مع أسئلة المساواة السياسيّة للرعايا غير المسلمين. وقَضتِ السّلطنة، تحت ضغطٍ أوروبيّ هائل، بمساواةٍ ثوريّة بين المسلمين وغير المسلمين في منتصف القرن التاسع عشر. وقُوبِل هذا التحوّل بالمقاومة -وكثيراً ما وصفها المؤرّخون بأنّها "طائفيّة" بسبب أعمال الشغب الهائلة المعادية للمسيحيين التي وقعت في حلب ودمشق في ١٨٥٠ و١٨٦٠. وفوق ذلك، فإنّ هذا التحوّل السياسيّ للرعايا غير المتساويين إلى مواطنين متساويين افتراضاً أنتجَ أيضاً الفكرةَ الحديثة لـ"العصبيّة الطائفيّة" كمفارقةٍ تاريخيّة، وكنقيضة للدين "الحقّ" والحضارة. وفي حين نُظِرَ إلى الأولى كمقوّضٍ للوحدة القوميّة، فقد كان الثاني في قلب مشاريع التحديث القوميّة في أواخر الإمبراطوريّة العثمانيّة وفي الشرق الأوسط ما بعد العثمانيّ.    

 

يمكن للمرء أن يناقش الأفعال والأفكار والآفاق الطائفيّة في الشّرق الأوسط بأسلوب مماثلٍ للطريقة التي قد يتحدّث بها المرء عن الأفعال والأفكار والآفاق العرقيّة "والعنصريّة" في الولايات المتحدة

وبالتالي، لا يُشير الاعتناءُ بالطائفيّة في العالم العربيّ الحديث ببساطةٍ إلى فضاءٍ سياسيّ يُنازَع عليه من قبل الجماعات الدينيّة والعرْقيّة والأخرى المتنافسة. كما أنّه يفترضُ مسبقاً أيضاً وجود فضاء سياسيٍّ مشترك. بهذا المعنى، فإنّ الخطاب حول "الطائفيّة" باعتباره مخاتلاً في الشرق الأوسط إنّما بزغ بوصفه الأنا البديلة للخطاب القوميّ التوحيديّ. مثلها مثل العنصريّة في الولايات المتحدة المعاصرة إلى حدّ كبير، فإنّ الطائفيّة هي تشخيصٌ يمنح المعقوليّة عندما يتمّ التفكير في نقائضها الأيديولوجيّة.

بمعنى آخر، أنْ نعرّف العنصريّة وندينها في أمريكا، فمن المفترض أن يدافع المرءُ عن فكرة المساواة والتحرّر. ومن ثمّ، فأن نعرّف الطائفيّة وندينها في العالَم العربيّ، فمن المفترض أنّ المرء يدافع عن فكرة الوحدة والمساواة بين -وفيما بين- المسلمين وغير المسلمين. ولهذا السبب الدقيق، فإنّه لم يُصكّ المصطلح العربيّ "الطائفيّة" إلّا في القرن التاسع عشر في لُبنان باعتباره مصطلحاً سلبيّاً فيما يتعلّق بالوحدة القوميّة[4].

 

وعليه، فإنّ الطائفيّة، برأيي، هي أقلّ بكثير من كونها توصيفاً موضوعيّاً للسّمات "الواقعيّة" لعالَم متنوّع دينيّاً، بمقدار ما أنّها -بصورة أكبر- لغةٌ حول طبيعة الاختلاف الدينيّ في الشرق الأوسط. وعلى الرّغم من تاريخ العنف الدينيّ الموثَّق بعنايةٍ في الولايات المتحدة، ومجموعة الهويات الدينيّة المذهلة التي صبغت نسيج التاريخ الأمريكيّ، إلّا أنّ مصطلح "الطائفيّة" نادراً ما يُستخدَم في المعرفة حول الولايات المتحدة. فبالنسبة إلى معظم الأكاديميين الأمريكيين، وبالنسبة إلى الجمهور الأمريكيّ على نطاق أكثر اتساعاً، تبقى الطائفيّة موضوعاً عن مناطق وشعوباً أخرى. إنّ "الطائفيّة" خطابٌ نُشرَ وتمّ التعبير به من قبل كلّ من الأفراد والأمم والجماعات الشّرق الأوسطيّة والغربيّة لخلق وتبرير أُطر سياسيّة وأيديولوجيّة في الشرق الأوسط الذي من المفترض أنّ هناك مشاكل طائفيّة فطريّة تنطوي بداخله، إن لم تكن تقهره بالضرورة.

 

وبطبيعة الحال، سيغدو سخيفاً أن نصرّ على أنّ الدينَ والاختلافات الدينيّة ليست سماتٍ بارزة في تاريخ الشرق الأوسط. فلعدّة عقود، استخدمت الإمبراطوريّة العثمانيّة التصنيفات الدينيّة للتصنيف والتمييز ضدّ سكّانها المتنوّعين والكثيرين. وأنشأَ ما يُسمّى بـ"النّظام المِلّيّ" استقلاليّةً إكليريكيّة ومِليّة للرعايا الأرثوذكسيين اليونانيين والأرمنيين واليهود في الإمبراطوريّة. وميّز الفقه الإسلاميّ، بلا جدالٍ، بين المسلم وغير المسلم. وأعلنتِ السلالةُ العثمانيّة الحاكمة ونخبتها أنفسهم مراراً وتكراراً على أنّهم حماةٌ للإسلام، وأنّهم في صراعٍ ضدّ المهرطقة والكافرين[5].

وبالتالي، يمكن للمرء أن يناقش الأفعال والأفكار والآفاق الطائفيّة في الشّرق الأوسط بأسلوب مماثلٍ للطريقة التي قد يتحدّث بها المرء عن الأفعال والأفكار والآفاق العرقيّة "والعنصريّة" في الولايات المتحدة. وفوق ذلك، مثلما بذل الباحثون الأمريكيّون جهداً كبيراً لتحدّي التعريفات العريقيّة الأحاديّة والعتيقة، سواء للسود أو للبيض، فيجب تماماً على باحثي الشرق الأوسط أن يرفضوا التأويلات السطحيّة والأحاديّة واللاتاريخيّة للهويّة الطائفيّة التي يعشقها النّقاد، و"خبراء" مراكز الأبحاث، والسياسيّون.

"الطائفيّة" مصطلحٌ مَرِنٌ وغامض بطبيعته. ويُستعمَل عادةً للدلالة على أشكالٍ متعارَف عليها من التحيّز والتضامنات التاريخيّة والتماهي مع طائفة دينيّة كما لو كانت حزباً سياسيّاً

إنّ مصطلح "الطائفيّة" هو مصطلحٌ مَرِنٌ وغامض بطبيعته. ويُستعمَل المصطلحُ عادةً للدلالة على أشكالٍ متعارَف عليها من التحيّز والتضامنات التاريخيّة والتماهي مع طائفة دينيّة أو إثنيّة كما لو كانت حزباً سياسيّاً، أو نظاماً عن طريقه تُشكَّل المطالب السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة في مجتمعاتٍ متعدّدة دينيّاً وإثْنيّاً. وقد استعملَ العالمُ السياسيّ  آرنت ليبهارت (Arend Lijphart) كما هو معلوم مصطلح "الديمقراطيّة التوافقيّة" (consociational democracy) للإشارة إلى قدرة النُّخب على إنشاء مساومات سياسيّة على أسسٍ طائفيّة ومذهبيّة وإثنيّة؛ مثل الميثاق الوطنيّ في لبنان عام ١٩٤٣، أو السّلطة التنفيذيّة متعدّدة الأعضاء في سويسرا[6].

بيد أنّ مصطلح "الطائفيّة" يُستعمَل أيضاً للإشارة إلى تفضيل جماعة على أخرى، سواء في ممارسات التوظيف، والتأجير، وحصّة التوظيف، أو توزيع موارد الدّولة؛ أي يمكن القول إنّه سلوكٌ أقرب إلى التمييز والتنميط العنصريّ. كما يُستخدَم مصطلح "الطائفيّة" أيضاً لتوصيف مشاعر تحثّ التعبئات الطائفيّة الحادّة، والحرب البين طائفيّة، والعنف الإباديّ الذي ترتكبه جماعةٌ ضدّ جماعةٍ أخرى. في الأخير، يمكن التفكير في "الطائفيّة" أيضاً باعتبارها استخطاطيّة كولونياليّة للحوكمة (governance) بمقدار ما تلاعبت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل والولايات المتحدة روتينيّاً بالتعدّديّة الدينيّة والإثنيّة للمنطقة؛ لتنسجم مع أهدافهم الإمبرياليّة الخاصّة[7].

 

عمليّاً، لا تُوجد جماعة تعرّف نفسها باعتبارها "طائفيّة". ومع ذلك، فإنّ كثيراً من الأفراد والجماعات يُوصَفون أو يُصنَّفون من قبل الآخرين باعتبارهم طائفيين، أو يتصرّفون بطريقةٍ طائفيّة. فماذا تقضي هذه الوصمة؟ إنّها تُحدّد تراتبيّة أخلاقيّة ترى من خلالها جماعاتٌ أو دول بعينها أنّها متفوّقة على الآخرين وتنتحلُ لنفسها المسئوليّة والحقّ في الحكم والتدخّل -أو عدم التدخّل- في مجتمعاتٍ "طائفيّة". كما أنّها تُشرعن أيضاً مساراتٍ محدّدة، وعنيفة أحياناً، من التصرّف في وجه "الطائفيّة" المتمرّدة زعماً. في الشّرق الأوسط، كان استدعاء مصطلح الطائفيّة على صلةٍ وثيقة بمسألة القوميّة، وبسيادة الدّولة، وبالوحدة الوطنيّة. أمّا في الغرب، فـ"الطائفيّة" تتّصل اتصالاً وثيقاً بالإمبرياليّة الغربيّة وبأفكار التفوّق الحضاريّ الغربيّ والأمريكيّ على الشّرق الأوسط "الطائفيّ".

 

أدركَ المثّقفون القوميّون المشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة الفعليّة داخل مجتمعاتهم، بما فيها مشكلة الانتماء الطائفيّ. وخلقوا، مجازاً حول الطائفيّة باعتبارها استمراراً سلبيّاً ورجعيّاً من العصر ما قبل الحديث

داخل العالم العربيّ، طُوِّرَ تحديد "الطائفيّة" كإشكاليّة حذو النّعل بالنّعل مع بزوغ الدّول الحديثة. إنّ أصل المصطلح العربيّ، كما أشرتُ إليه، خرج من النّقاش السياسيّ حول طبيعة الدّولة اللبنانيّة ما بعد العثمانيّة. فالمثّقفون البارزون في العالم العربيّ بالقرن العشرين -مثل أمين الريحانيّ، وساطع الحصريّ، وأنطون سعادة، وقسطنطين زريق، وزكي الأرسوذي، وإدموند ربّاط، ومنيف الرزاز، وعلي الوردي، وهشام شرابي، ونصر حامد أبو زيد- ناقشوا جميعهم باستمرار الطائفيّة باعتبارها عائقاً داخليّاً كبيراً أمام التطوّر الحديث والسيادة. فقد تمّ تأسيس المجتمع العربيّ السريّ، الذي تضمّن على قسطنطين زريق، في بيروت، وطور فروعاً في سوريّة وفلسطين والعراق والكويت. وأدانَ التضامنات "الطائفيّة، والعرقيّة، والطبقيّة، والجهويّة والقبليّة أو الأسريّة" التي ميّعت وأضعفت "التضامن العربيّ"[8].

 

بمعنى آخر، أدركَ المثّقفون القوميّون المشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة الفعليّة داخل مجتمعاتهم، بما فيها مشكلة الانتماء الطائفيّ. وخلقوا، فوق ذلك، مجازاً حول الطائفيّة باعتبارها استمراراً سلبيّاً ورجعيّاً من العصر ما قبل الحديث. ففي الخمسينيّات، ندّد زريق، الذي كان معارضاً بعمقٍ لخلط الدّين بالسياسة، ضدّ "التعصّب الطائفيّ" بمصطلحاتٍ حداثويّة شاعريّاً. فقد اعتبرَ الطائفيّة مشكلة "متعاقبة من الماضي إلى الحاضر"، وبالتالي باعتبارها مفارقة تاريخيّة "في عصر القوميّات، بل في عصر الذرّة والفضاء"[9]. بالنسبة إلى زريق، شكّلت الطائفيّة النّقيض لفكرة الدّولة التحديثيّة الوطنيّة العلمانيّة.

 

حتّى النخب السياسيّة اللبنانيّة، التي أنشأت أوّل حكومة رسميّة تتقاسم السّلطة في العالَم العربيّ، قبلت مؤسّساتيّاً بأنّ "الطائفيّة السياسيّة" لا بدّ لها أن تكونَ إجراءً مؤقّتاً (كما تنصّ المادّة ٩٥ من الدّستور اللبنانيّ). ونظرَ المؤيّدون إلى "الطائفيّة السياسيّة" كشرّ لا بدّ منه حتّى يحين الوقتُ الذي يقدرُ فيه الشعب اللبنانيّ على التخلّص من التضامنات الطائفيّة الفطريّة المزعومة، واعتناق الهويّة اللبنانيّة العلمانيّة الحديثة. أمّا المعارضون، فنظروا إلى "الطائفيّة السياسيّة" كمرضٍ مؤذٍ يضعف -إن لم يكن يدمير- اللُحمة السياسيّة القوميّة. وخلال فترة الانتداب نفسها، أسّس المربّي العروبيّ الكبير ساطع الحصريّ نظاماً تعليميّاً قوميّاً علمانيّاً في العراق. وأشار إلى منتقديه العراقيين باعتبارهم طائفيين. وآمنَ بأنّ هؤلاء الذين عارضوا رؤيته لعراق قوميّ عربيّ علمانيّ حديث في ظلّ الملكيّة الهاشميّة إنّما مثّلوا عناصرَ رجعيّة في المجتمع.  

استخدم صدام حسين الخطاب الطائفي أثناء الحرب العراقية الإيرانية واصفاً إيران بالطائفيين الذين يحاولون تقويض الوحدة العربية (رويترز)
استخدم صدام حسين الخطاب الطائفي أثناء الحرب العراقية الإيرانية واصفاً إيران بالطائفيين الذين يحاولون تقويض الوحدة العربية (رويترز)

 

مُسيّساً منذ بدئه، فإنّ خطاب محاربة الطائفيّة قد أُسيءَ إليه حتماً مع تقدم القرن العشرين. والانتقادات السياسيّة والاجتماعيّة الأوليّة والحقيقيّة التي قدّمها مثقفون للطائفيّة مثل زريق والحصري ربّما قد تمّ التنازل عنها تجاه هؤلاء الذين صنّفوهم هم كطائفيين، إلّا أنّ ذلك كان جزءاً من رؤية راميةٍ إلى إعادة تشكيل المجتمع العربيّ وتحديثه. وهذا الهدف إنّما حلّ محلّه خطاب معاداة الطائفيّة الفارغ. وأصبح هذا الخطاب -خطاب معاداة الطائفيّة- جزءاً من ترسانة النّخب السياسيّة الفاسدة والمعادية للديمقراطيّة والجائرة في كافّة أنحاء الوطن العربيّ. وبعيداً عن إبطال الطائفيّة السياسيّة، مثلاً، فقد رسّخت النخب اللبنانيّة مزيداً شبكات المحسبويّة الطائفيّة في صلب الدّولة.  أيضاً، بصورة معاكسة، بـ"الطائفيّة".

واستعملَ القادةُ اللبنانيّون، بدورهم، تهديد الطائفيّة المزعوم لسحق المعارضة وتعزيز القوّة والسّلطة. وأثناء الحرب العراقيّة-الإيرانيّة في الثمانينيّات، زعمَ صدّام حسين أنّ الإيرانيين كانوا هم الطائفيين الذين كانوا يحاولون أن يقوّضوا الوحدةَ العربيّة[10]. وروّجت المملكة العربيّة السعوديّة لخطابٍ يوصف بأنه "طائفيّ" لسحق التيّار الديمقراطيّ الوليد أثناء ما يُسمّى بالربيع العربيّ[11]. وأثارَ رئيس مصر الحالي عبد الفتاح السيسي مراراً وتكراراً شبح التطرّف الدينيّ لتسويغ قمعه الاستثنائيّ للديمقراطيّة المصريّة[12]. بهذا المعنى، كثيراً ما يكون استدعاء تهديد "الطائفيّة" مماثلاً للطريقة التي تُستعمَل بها كلمة "الإرهاب" من قبل الدّول الحديثة؛ لا كدالٍّ موضوعيّ عن العنف، وإنّما كدالٍّ أيديولوجيّ لشكلٍ محدّد من أشكال العنف، مُجرَّدٍ دائماً من أيّ سياقٍ ذي معنى.

 

رغم التسييس الجليّ والتأطير الأيديولوجيّ، فإنّ الفهومات العربيّة "للطائفيّة" كثيراً ما نظرَت إليها باعتبارها مشكلة داخليّة وخارجيّة على حدّ سواء. واتّصلت هذه التأويلات بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالعوائق "الطائفيّة" و"العشائريّة" و"العدائيّة" الداخليّة أمام التقدّم والتطوّر مع حقيقة التدخّل الغربيّ التي لا يمكن إنكارها في المنطقة. باختصار؛ إنّ نقد الذات لا يحول دون كونه معادياً للكولونياليّة، ومدركاً للمخاطر المتأصّلة لكلّ من التهديدات المحليّة والأجنبيّة للسيادة الوطنيّة. فعلى مدار القرن العشرين، طاردَ مواطنو الشرق الأوسط ليس فقط شبح التشظّي الداخليّ في مجتمعاتهم، وإنّما أيضاً شبح احتماليّات التلاعب الأجنبيّ بالتعدديّة الدينيّة والإثنيّة للمنطقة.

 

إنّ شعور المسئولين الأمريكيين والاستراتيجيين العسكريين وزعماء مراكز الأبحاث والديبلوماسيين والسياسيين كافّتهم بسلطة التعليق على الشرق الأوسط "الطائفيّ" إنّما تؤكّد على الأساس العقلانيّ بربط المشاكل الداخليّة للطائفيّة بالأجندات الخارجيّة.

والحال أنّ هذه المخاوف لم تكن محض خيال وتوهّم. فقد تدخّلت القوى الغربيّة بلا هوادةٍ في الشرق الأوسط وغزته باسم حماية "الأقليّات"، وباسم تعزيز "الحريّة الدينيّة"، داعمةً الصهيونيّة الكولونياليّة، ومحاربةً "للشيوعيّة"، ومعزّزة "للديمقراطيّة" أو مقاومةً "للإرهاب". ومع ذلك، يركّز بعضٌ من النّقد العربيّ على الإمبرياليّة الأجنبيّة دون الاعتبار بصورة كافية للتناقضات والتابوهات الداخليّة العديدة التي تساهم أيضاً في المشكلة الطائفيّة في الشّرق الأوسط. فمثلاً، قبل سنواتٍ من الاجتياح الأمريكيّ للعراق، سردَ المؤرّخ المصريّ سمير مرقص تاريخاً من الاستغلال الغربيّ الكلبيّ للمسيحيين العرب، بمَن فيهم الأقباط المصريّون؛ لتعزيز إمبرياليّته في المنطقة. وقد نُشِر كتابه بإقرار من القاضي والمثقف المُنتسب لجماعة الإخوان المسلمين طارق البشري[13].

والخلاصة الاعتذاريّة الكبيرة للبشري حول التعايش الإسلاميّ-القبطيّ حمَّلت فعلياً كلّ مشكلة من مشاكل العلاقات الإسلاميّة-المسيحيّة على عاتق الكولونياليّة البريطانيّة، دون تصدٍّ للإرث ما قبل الكولونياليّ الذي أُنتِجَ على مدار قرونٍ من السيادة الإسلاميّة القانونيّة والأيديولوجيّة[14].

 

علاوةً على ذلك، هناك حساسيّة معادية للكولونياليّة تغالي في تشديدها على الأبعاد الأجنبيّة للمشكلة الطائفيّة في الشرق الأوسط. ففي شهر أغسطس ٢٠١٦، نشرت صحيفة الأخبار اللبنانيّة مقالة افتتحايّة بعنوان "طاعون المَذهبيّة: Made in USA"، مع صورة مُرفقة لزيارة وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة آنذاك "كونداليزا رايز" للبنان في ٢٠٠٦. اقتبسَ المقال بصورة موسّعة من الأطروحة الجامعيّة الصغيرة لدوغلاس فيليبوني (Douglas Philippon) عام ٢٠٠٨ في مدرسة القوّات البحريّة الأميركية للدراسات العليا حول كيفيّة إيقاع الهزيمة بحزب الله.

فقد كتب "فيليبوني" أنّ أفضل طريقة لاحتواء حزب الله لم تكن بالانقضاض عليه مباشرةً -لأنّ ذلك سيزيد من دعمه ببساطة-، واقترحَ، عوضاً عن ذلك، أنّه "يجب على الولايات المتحدة أن تمنع حزب الله من القيام بأعمال دوليّة من خلال زيادة الصراع المذهبيّ اللبنانيّ، وذلك من خلال تأليف تحالف دوليّ ضده، حزب الله المصنّف كمنظمة إرهابيّة، والتشديد على أنّ الحزب هو مجرّد عميل إرهابيّ لإيران؛ ومن خلال اغتيال قادته العسكريين"[15].

وليس هناك أيّ دليل على أنّ نصيحة ومشورة "فيليبوني" غدت سياسة؛ وهي النقطة التي تتغافل عنها مقالة الأخبار. ومع ذلك، هناك معرفة وثيقة في المنطقة حول شتّى الحيل الكولونياليّة، بما فيها الأمريكيّة، للتقسيم والحكم. إنّ شعور المسئولين الأمريكيين والاستراتيجيين العسكريين وزعماء مراكز الأبحاث والصحفيين والطلبة والديبلوماسيين والسياسيين كافّتهم بسلطة التعليق على الشرق الأوسط "الطائفيّ" إنّما تؤكّد على الأساس العقلانيّ بربط المشاكل الداخليّة للطائفيّة بالأجندات الخارجيّة.

يبدو أنّ فحوى رسالة أوباما هي أن مشاكل العالم العربي راجعة إلى وجود تضامنات طائفيّة ثابتة زعماً؛ ترفضُ الإحسان الأمريكيّ المظنون. (غيتي)
يبدو أنّ فحوى رسالة أوباما هي أن مشاكل العالم العربي راجعة إلى وجود تضامنات طائفيّة ثابتة زعماً؛ ترفضُ الإحسان الأمريكيّ المظنون. (غيتي)

إذا كان الاعتراف بالطائفيّة داخل العالم العربيّ مرتبطاً ببناء الأمّة، وبالقلق حول السيادة، فإنّ الفكرة الغربيّة عن الشرق الأوسط الطائفيّ قد اتصلت اتصالاً وثيقاً بالهيمنة الغربيّة، وبما فيها الأمريكيّة، على المنطقة. إنّ فكرة الطائفيّة الإسلاميّة أو الشرق أوسطيّة الفطريّة كثيراً ما تعمل على تبرئة القوى الغربيّة من تورّطها في خلق وتشجيع أو استفحال مشهدٍ سياسيّ مصبوغٍ بصبغةٍ طائفيّة في الشّرق الأسط. على سبيل المثال، أكّد الرئيس الأمريكيّ "بارك أوباما" في ٢٠١٦ على أنّ "المبادئ التنظيميّة الوحيدة -في المنطقة- طائفيّة"، وبأنّ الصراعات التي تجري في الشرق الأوسط  تحت الحراسة الأمريكيّة "تعود لألف عام"[16].

 

إنّ تشديدات أوباما، على الأقل كما حكاها الصحافيّ جيفري غولدبرغ (Jeffrey Goldberg)، هي سخيفة وتخدم مصلحة ذاتيّة على حدّ سواء؛ سخيفة لأنّها تُسقط التاريخ الثريّ وتاريخ القرن العشرين للعالم العربيّ الذي يشدّد على الروابط الاجتماعيّة والسياسيّة الجمّة في المنطقة والتي هي ليست روابط طائفيّة بحال، وهي الروابط التي يتجاهلها أوباما بوضوح؛ كما أنّها تخدمُ مصلحةً ذاتيّة لأنّها تؤكّد على استقامة إمبرياليّة للذات تفترضُ أنّ مشاكل العالم العربيّ؛ بما فيها تلك المشاكل التي تؤثّر فيها الولايات المتحدة، هي راجعة إلى وجود تضامنات طائفيّة ثابتة زعماً ترفضُ الإحسان الأمريكيّ المظنون. لقد حاولنا أن نساعدهم، لكنّهم ميئوسٌ منهم: يبدو أنّ هذه هي فحوى رسالة أوباما.  

 

ومن قبيل الصّدفة، فإنّ رسالة أوباما تتطابق بالضبط مع أبويّة (paternalism) بول بريمر، المدير الأمريكيّ لسلطة التحالف المؤقتة في العراق. فبريمر، الذي لم يكن يعرفُ العربيّة -وباعترافه شخصيّاً- عرفَ الشيء القليل حول البلد، كان قد وُضِعَ في السّلطة العليا على العراق المُحتلّ في ٢٠٠٣. وقد سوّغ بريمر الآثار الطائفيّة للإمبرياليّة الأمريكيّة بالإصرار على أنّ العراقيين فقط "يفهمون بشكلٍ مبهم مفهوم الحريّة"، واعترفَ بالإرشاد الأمريكيّ. كانت الطائفيّة في المنطقة مزمنة، برأي بريمر، إلى حدّ أنّ بريمر وصف أجزاءً من العراق كـ"موطنٍ سنيّ"[17]. فكلٌّ من أوباما وبريمر جعلَ مشكلة الطائفيّة بالأساس وبالجوهر مشكلة عربيّة، وليست مشكلة متعلّقة بالتاريخ الموثق بإسهابٍ وجلاءٍ للتدخّل الغربيّ، بما فيه الأمريكيّ، والإمبرياليّة التي شكّلت الشرق الأوسط الحديث وأعادت تشكيله.

ليس الشرق الأوسط
ليس الشرق الأوسط "الطائفيّ" موجوداً ببساطة؛ فهو مُتخيَّل أنّه موجود، وبالتالي فإنّه يُنتَج ويُصنَع. كما أنّه لم يظهر خفيةً

بيد أنّ الواقع الوحشيّ للإمبرياليّة والتدخّل الغربيّ في المنقطة لا يفاقم المشاكل "الداخليّة" فحسب، وإنّما يخلقُ شروطاً وسياقاتٍ جديدة تُحدّد طبيعة ما هو داخليّ بحدّ ذاته. وعليه، أعلنت وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة آنذاك "كوندوليزا رايز" بثقةٍ ٢٠٠٦، في خضمّ هجوم إسرائيل المدمّر المدعوم أمريكيّاً على لُبنان، أنّ العالم كان يراقب "مخاض ميلاد لشرقٍ أوسط جديد"[18]. علاوةً على ذلك، لم تشهد أعقاب الاجتياح الأمريكيّ للعراق في ٢٠٠٣ لما بقيَ من الدّولة العراقيّة المركزيّة البعثيّة العلمانيّة فحسب؛ وإنّما خلقت أيضاً مجلس حكم عراقيّ جديد على أسسٍ طائفيّة بلا مداراة. هذا القرار المصيريّ بتقسيم الحكومة العراقيّة على أساس "السنّة" و"الشيعة" و"الكرد"، أو لاختراع "المثّلث السنيّ" لم يكن يحدّده سلفاً تنوّع المجتمع العراقيّ بموضوعيّة. إذ كان بالأساس تأويلاً إمبرياليّاً أمريكيّاً لهذا التنوع[19].

 

إنّني لا أشيرُ إلى أنّنا نفكّر في الطائفيّة كمسألة "فرّق تَسد" الكولونياليّة فقط. لكنّني أقول إنّه يجب علينا أن نتوقّف عن التظاهر بأنّ ما يُسمّى الأبعاد "الداخليّة" لم تتأثر، هي نفسها، ويتم تفاقمها وحتى تبديلها من قبل الغرب

ليس الشرق الأوسط "الطائفيّ" موجوداً ببساطة؛ فهو مُتخيَّل أنّه موجود، وبالتالي فإنّه يُنتَج ويُصنَع. كما أنّه لم يظهر خفيةً. وفوق ذلك، تُشير العلاقة القويّة لمصطلح "الطائفيّة" مع الشرق الأوسط مراراً وتكراراً إلى أنّ المنطقة أكثر تديُّناً بصورة سلبيّة من الغرب "العلمانيّ". وهذا افتراضٌ أيديولوجيّ منسوجٌ في كيف يتمّ توصيف العالَميْن العربيّ والإسلاميّ، بصورة عامّة، باعتبارهما دينيين بالأساس؛ حتى إنّ مصطلح "العالم الإسلاميّ" يلقي الضوء على الطبيعة الدينيّة المزعومة لهذه المنطقة، وذلك في مقابل التسمية الجغرافيّة لـ"الغرب". ولا يقتصر الأمر على أنّ هذا الافتراض يموّه كَم هو الغرب دينيّ، لكنّه يتظاهر أيضاً بأنّ ما يجري في الشرق الأوسط يعكسُ بنيةً غير منكسرة من الشعور الطائفيّ الذي يربطُ القروسطيّ بالحديث. باختصار، يتمّ تحويل السياسة الحديثة، إلى حدّ ما، إلى إعادة سَنٍّ للدراما القروسطيّة بين السنيّ والشيعيّ، بدلاً من كونها صراعاً جيوسياسيّاً يتمّ تورط الدّول الغربيّة فيه[20].

 

لهذا السبب، فإنّني متعاطفٌ مع نقد عزيز العظمة لـ"الإفراط في أسلمة الإسلام"[21] (over-Islamization of Islam). فهذا الولع بدراسة الإسلام والمسلمين والمرأة المسلمة والتقوى الإسلاميّة قد تجاهلَ وأقصى تأريخيّاً وتحليليّاً العرب العلمانيين أو العرب المسلمين الذين لا يمارسون تقواهم بالضرورة بطرق تتوافق مع الصور النطميّة الغربيّة باعتبارهم غير مهمين. ويطمسُ أيضاً فاعليّة وتواريخ العرب غير المسلمين، والأكراد، والأتراك، والإيرانيين، والأرمن، وآخرين قد عاشوا، وتفاعلوا مع، وتقاسموا الثقافة مع المسلمين في كافّة أرجاء الشرق الأوسط. والأنكى من ذلك كلّه، أنّ الولع الغربيّ بدراسة الطبيعة الثابتة والقروسطيّة المزعومة للتديُّن (religiosity) في الشرق الأوسط إنّما يلهي الباحثين والجمهور العامّ عن فهم الجذور الحديثة للشّرق الأوسط "الطائفيّ".

 

إنّني لا أشيرُ إلى أنّنا نفكّر في الطائفيّة كمسألة "فرّق تَسد" الكولونياليّة فقط، أو حتّى بالمقام الأوّل. لكنّني أقول إنّه يجب علينا أن نتوقّف عن التظاهر بأنّ ما يُسمّى الأبعاد "الداخليّة" لم تتأثر، هي نفسها، ويتم تفاقمها وحتى تبديلها من قبل الغرب. وعندما ألحّ فؤاد عجمي بصورةٍ مغرضةٍ على أنّ الجروح "المتعمَّدة ذاتيّاً" "مهمّة" أكثر من الجروح الأجنبيّة والخارجيّة، فإنّه شوش وأربك إلى درجة أنّ ما هو أجنبيّ وخارجيّ قد شكّل منذ أمد بعيد المشهد الذي يبرز فيه "المحلّي" نفسه[22]. وبدلاً من الافتراض بأنّ الطائفيّة حقيقة ثابتة ومستقرّة تطفو فوق التاريخ، فإنّه من المهمّ جداً أن نموقع ونحدّ -أي نؤرخنَ-  كلّ ما يُسمّى حدثاً أو لحظة أو بنية أو تعريفاً أو خطاباً "طائفيّاً" في سياقه المُحدّد[23]. والملحّ على وجه السرعة هو أجندة بحثيّة جديدة لدراسة الديالكتيك -العلاقة الثابتة والمعقّدة وغير المتكافئة بين المحلّيّ والأجنبيّ- الذي يشكّل الشرق الأوسط الحديث. ونحن بحاجةٍ أيضاً إلى تقدير الديناميكيّ بين التقليد والتحوّل، بين التاريخ والسياسة، بين تعريف الذات والتمثيل الاستشراقيّ، بين الخطاب والفعل الذي يشكّل ماهية ما نسمّيه بـ"الطائفيّة".

_______________________________________________
 

* أسامة مقدسي، أستاذ التاريخ والدراسات العربيّة في جامعة رايس. تدور هموم مقدسي حول مسألة الطائفيّة في الشرق الأوسط، لا سيّما لبنان، ويمثّل كتابه ثقافة الطائفيّة: الطائفة والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر العثمانيّة (٢٠٠٠) عملاً كلاسيكيّاً في بابه، بالإضافة إلى كتبه الأخرى وأبحاثه الرئيسة في مسألة الطائفيّة بالشّرق الأوسط. ويصدر له عمّا قريب كتاب عن التعايش والطائفيّة في الشرق الأوسط.
 


 نُشرت هذه الورقة في (THE BAKER INSTITUTE)، على هذا الرابط

المصدر : الجزيرة